• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : المقالات والأبحاث .
                    • الموضوع : مع جوائز الأئمة ( ع ) للشعراء .

مع جوائز الأئمة ( ع ) للشعراء

السيد جعفر مرتضى العاملي

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين

يذكر الرواة والمؤرخون أرقاماً عالية للأموال التي كان يعطيها، أو يبذلها الأئمة عليهم السلام للشعراء، إذا ما قالوا فيهم، أو في قضيتهم شيئاً من الشعر.. ومن أمثلة ذلك.

1- إنهم يقولون: إن الإمام زين العابدين عليه السلام، عندما تجاهله هشام بن عبد الملك في الطواف، وجرى بين هشام وبين الفرزدق من أجل ذلك ما جرى، يقولون: إن الإمام(ع) قد أعطى الفرزدق ألف دينار، أو إثنى عشر ألف درهم على اختلاف النقل، على قوله الأبيات التي أولها:

 

هذا الذي تعرف البطحاء وطـأتـه                   والبيت يـعـرفـه والحل والحرم

فرفض الفرزدق قبولها، لأنه إنما قال ذلك غضباً لله ولرسوله، لكنه عليه السلام أصر عليه بالقبول، فقبلها.. والقضية أشهر من أن تذكر..

2- وعندما أنشد الكميت الباقر عليه السلام قصيدته: " من لقلب متيم مستهام.. " قال له: يا كميت، هذه مئة ألف جمعتها لك من أهل بيتي.

فقال: لا والله، لا يعلم أحد أني آخذ منها، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يكافيني، ولكن تكرمني بقميص من قمصك. فأعطاه..[1]

3- وأمر الباقر عليه السلام للكميت مرة بثلاثين أو بخمسين ألف درهم على اختلاف النقل، لكن الكميت رفض قبولها.. [2]

4- وأمر له مرة أخرى بألف دينار وكسوة، فرفض قبول الدنانير، لكنه قبل الكسوة لبركاتها.. رفض ذلك معلناً بأنه يحبهم، ويقول فيهم ما يقول رغبة في الآخرة لا طمعاً بالدنيا.. [3]

5- وأعطى الإمام الرضا عليه السلام دعبلاً الخزاعي ستمائة دينار، أو أقل، على تائيته المشهورة، التي يقول فيها:

أرى فيئهم في غيرهمه متقسماً            وأيـديـهـم مـن فيئهم صفرات

فرفض المال، وطلب ثوباً من ثيابه عليه السلام يتبرك به، ولكنه عليه السلام أصر عليه بقبول المال أيضاً فقبله..

وقال ياقوت في معجم أدبائه، إنه أعطاه عليها عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثبابه، فأخذها منه أهل قم بثلاثين ألفاً، ما عدا كماً واحداً منها جعله في أكفانه والقصة أيضاً مشهورة ومعروفة..

وعند ما طلب منه المأمون: أن ينشد هذه التائية جحدها، فلما أمره الإمام الرضا عليه السلام أنشدها، فأعطاه المأمون خمسين ألف درهم، وأعطاه الرضا عليه السلام مثلها، أو قريباً منها..

6- وأبو نواس أيضاً قد أعطاه الرضا الإمام عليه السلام أربعمأة دينار، أو أقل على اختلاف النقل وبغلة، على أبياته المعدودة.

مطهـرون نقيات ثيابهـم            تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

7- بل يقولون: إن الإمام زين العابدين عليه السلام قد: " قسط على نفسه وأهله أربعمائة الف درهم للكميت، فقال له: خذ هذه يا أبا المستهل، فقال: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً ولكن إن أحببت أن تحسن إلي، فادفع لي بعض ثيابك التي تلي جسدك أتبرك بها الخ.."[4].

8- وأهم من ذلك كله أنهم يذكرون: إن الإمام الحسن عليه السلام قد أعطى خراج العراق لمدة سنة، على ثلاثة أبيات فقط، وعندما ما عوتب على ذلك قال: " أما سمعتم ما قال:

لا يـكـن جـودك لـي         بـل يـكـن جـودك لله

فلو كانت الدنيا كلها لي، واعطيتها إياه، كانت في ذات الله قليلاً.."[5].

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه..

وعلى كل حال.. وحتى لو فرضنا: أن بعض تلك الأرقام لا يخلو عن مبالغة، إلا أنه ولا شك يعبر عن النسبة العالية للأموال، التي كان الأئمة عليهم السلام يخصون الشعراء بها..

والسؤال الذي يطرح نفسه هو:

ألا يمكن أن يعتبر اعطاء مثل هذه الأموال الطائلة لشاعر ما، بسبب قوله أبياتاً من الشعر عملاً غير منطقي ؟! بل إسرافاً وتبذيراً لأموال يمكن أن يستفيد منها عشرات، بل مئات العوائل، التي قد تكون أحوج ما تكون إلى لقمة العيش، وما يحفظ لها نفس الحياة ؟! فليعط الشاعر خمس، بل عشر هذه المبالغ، والباقي فليوزع على المحتاجين والبائسين وما أكثرهم في ذلك العهد!!.

وبماذا استحق الشاعر هذه المبالغ الطائلة؟!

وهل نظمه بضعة أبيات من الشعر قد لا تستغرق معه الساعة الواحدة، أو أقل أو أكثر، مع إمكان أن يصاحبها أي عمل آخر يدر على ذلك الشاعر المال الذي يغنيه عن استجداء الناس، وطلب اعطياتهم؟

هل ذلك يجعله يستحق كل هذه الأموال، ويحرم الآخرين منها، مهما بلغ بهم الجهد، وألظّ بهم ضيق ذات اليد؟!

وبعد فهل يمكن أن يكون ثمة فرق بين تصرفاتهم وتصرفات غيرهم من الحكام؟

وإذا كان ذلك هو الواقع الي يعيشه الناس في ذلك العهد، وجرت عليه سيرة الحكام والناس وقتئذٍ. فهل يفترض بالأئمة – الهداة البررة – أن يستسلموا لهذا الواقع ؟. أم أن المفروض فيهم أن يغيروه؟ أو على الأقل أن يعلنوا على الملأ رأيهم فيه، ورفضهم له ؟!

وذلك لأن المفروض بالائمة عليه السلام هو أن يعيشوا آلام الناس، وآمالهم، ويشعروا معهم، ويحاولوا التخفيف من تلك الآلام بكل ما لديهم من قوة وحول.. لا أن يشجعوا استمرار ذلك الواقع بإعطائهم الشعراء تلك الأموال الطائلة، التي كان من الممكن أن تخفف الكثير من الشقاء والبؤس، الذي يعاني منه الكثيرون...

والجواب عن ذلك، بكل بساطة ويسر...

لا.. فإن ما فعلوه صلوات الله وسلامه عليهم هو الأمثل والأفضل، ولو أنهم فعلوا غير ذلك لكان خطأ فاحشاً، نربأ بالإمام المعصوم، بل بأي عاقل أن يرتكبه، أو أن يفكر فيه...

وذلك:

أولاً: إننا لابد وأن ننظر: هل أعطى هذا الشاعر وبذل ما يستحق به هذا المال ويؤهله لان يستأثر به دون غيره أم لا ؟

الجواب: نعم.. إن الشاعر بمدحه لأهل البيت، ووقوفه مع قضيتهم يكون قد أعطى وبذل ما هو أعز من المال بكثير، فكل ما يعطى له يكون قليلاً في جنب ما بذل. لقد أعطى وبذل نفسه وروحه ودمه، وكل ما في الحياة لا قيمة له في مقابل نفسه، وروحه التي بين جنبيه..

لأنه عندما يقول الشعر فيهم عليهم السلام، فإنه يكون قد عرض نفسه للهلاك، وأسرته، بل وكثيرين ممن يرتبطون به ولو من بعيد للعناء والشقاء والبلاء.. وكلنا يعلم أن الكميت قد أهدر دمه، والفرزدق قد سجن، وأهين.. ولم تكن حياة دعبل بالحياة التي يحسد عليها..

ويكفي أن نذكر هنا: أن الرشيد بسبب بيتين من الشعر في أهل البيت قد أمر في منصور النمري: أن تقطع يده ورجله، ويسل لسانه من قفاه، ثم تضرب عنقه، ويصلب، ويحمل إليه رأسه... وكم كان غضبه شديداً عندما علم ان منصوراً مات قبل تنفيذ هذه الأوامر.. حتى ليقول الخوارزمي: إنه نبشه، وأحرقه..

وأي شيء بعد هذا.. يمكن أن يعتبر مكافأة لشاعر يعرض نفسه لمثل هذا، وكيف يمكن مقابلة جميله بالمثل ؟!..

وثانياً: إننا من الجهة الأخرى.. حتى لو أردنا أن نزن الأمور بميزان مادي بحيث نجعلها هي المعيار في الربح والخسران... فإننا نجد أنه حتى على هذا المقياس لا يمكن أن نعتبر بذل الأئمة(ع) لتلك الأموال إسرافاً وتبذيراً... بل هو في محله، ولابد منه، إذ كثيراً ما لا يمكن لهذا الشاعر المسكين أن ينفق هذا المال، أو أن يستفيد منه بالنحو المقبول والمعقول، بسبب الحالة التي يواجهها، والظروف الطارئة التي اصبح يعاني منها بسبب ما فعله بنفسه... لكن أسرته ومن له نوع تعلق به قد تكون بأشد الحاجة لهذا المال عندما لا يعود باستطاعة كفيلها، ان يقوم بشؤونها، ويؤمّن لها ما تحتاج إليه، وقد يمتد الأمر إلى سنين عديدة، ومدة مدّيدة.

وعلى ضوء كل ما قدمناه يتضح: أنهم عليهم السلام لو لم يبذلوا، ولم يعطوا، لكانوا قد اعطوا الناس انطباعاً سيئاً عن أنفسهم، وأثبتوا والعياذ بالله أن لا عهد، ولا وفاء لهم، وأنه لا يصح لاحد أن يعقد عليهم آماله، ويتوهم أنهم يمكن أن يمدوا له يد العون في وقت ما لأنهم لم يمدّوا يد العون حتى إلى أولئك الذين بذلوا دمائهم، وتحملوا كل الشقاء والعناء من أجلهم، وفي سبيلهم... وذلك ما يسيء إلى سمعتهم، وإلى قضيتهم، ويوجب إنصراف الناس عنهم، ويقولون: ولماذا إذن نعرض انفسنا للهلاك بموالاتهم وحبهم... وذلك ولاشك خسارة كبرى، لا يساوي المال بإزائها أي شيء ولا يكون له أية قيمة..

ثالثاً: إن كل عمل كيف كان ومهما كان، إنما يستمد قيمته وشرفه وسمّوه، من سمّو وقيمة الغاية والهدف الذي كان من أجله ذلك العمل وفي سبيله، شرط أن يكون في الخط الصحيح، الذي تتبناه الغاية نفسها وتدعو إليه..

وإذا كان الهدف هو نصرة رسالة السماء، والذي معناه خدمة البشرية جمعاء.. فإن العمل الذي يكون في هذا الخط، ومن أجل هذه الغاية إذا كان صحيحاً وسليماً – هذا العمل – يزيد في قيمته على كل قيمة، ويكون عظيماً بمقدار ما تكون تلك الغاية عظيمة.. وفي مثل تلك الظروف بالذات، التي بلغ اضطهاد الأئمة وشيعتهم فيها سياسياً وفكرياً، وإعلامياً بلغ الغاية وأوفى على النهاية تتأكد القيمة لمثل هذه المواقف وتزداد.

رابعاً: لقد كان الشعر من أهم وسائل الإعلام وأسهلها، إن لم يكن اهمها على الإطلاق وذلك لأنه يتلائم مع ذوق العربي وفطرته، وينسجم مع طبيعته وسجيته مما يجعله يتفاعل معه بكل عواطفه وجوارحه، وما يقوله الشعراء يحفظه الناس، ويتناقلونه، ويدون في الكتب، ويكون الحديث الذي لا يمل والشغل الشاغل للكبير والصغير، والغني والفقير، والعظيم والحقير على حد سواء.. وله تأثير مهم في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات..

وقد يبذل أحدهم الغالي والنفيس، من أجل أن يقال فيه ولو بيت من الشعر يخلد اسمه بالشرف والكرامة، أو أن يقال فيه ما يخلده أبد الدهر بالحقارة والمهانة.. ومن هنا نعرف: أنه من الطبيعي جداً بعد هذا أن يكون للشعر دور رئيس في تأييد اية قضية، ورفع شأنها، أو الحط منها وتهجينها..

ولقد رأينا العباسيين يبذلون الأموال الطائلة للشعراء الذين يتبنون وجهة نظرهم السياسية، ويدافعون عنها في مقابل أعدائهم آل علي عليهم السلام.. حتى لقد اعطى مروان بن ابي حفصة على بعض قصائده مئة ألف درهم، وكانت مئة بيت – لكل بيت ألف درهم – أعطي ذلك من قبل المهدي مرة، ومن قبل الرشيد بعد ذلك مرة أخرى.. وأما حفيده مروان بن أبي الجنوب، فقد فاز بولاية البحرين واليمامة، وأربع خلع، وثلاثة آلاف دينار نثرت عليه، وأمر بالتقاطها.. كل ذلك لأنهم قالوا شعراً يؤيدون فيه العباسيين، ويتحاملون فيه على العلويين..

وخلاصة القول: إن تأثير الشعر إعلامياً آنذاك، أكثر من تأثير الجريدة والمجلة والراديو والتلفزيون، وغير ذلك من وسائل الإعلام اليوم، لأن الشعر كان مرتبطاً بروح وعقل وفطرة الإنسان العربي، وأما وسائل الإعلام اليوم فغاية ما يمكن أن تفعله هو أن تثير في الإنسان بعض المشاعر الوقتية المرتبطة بغريزة الجنس مثلاً أوحب الظهور أو غير ذلك[6].. الأمر الذي لا يلبث أن يفقد محتواه بالنسبة إلى هذا الإنسان، ومن ثم يتلاشى وينعدم من دائرة حياته..

نعم لقد كان للشعر تأثير السحر في النفوس.. فلا شيء يمكن أن يؤثر كما كان يؤثر.. ولا يكاد ينتشر شيء كما ينتشر..

ومن هنا.. يتضح لنا: أن من الطبيعي أن يكون الشعر من الوسائل اهلامة لإيصال قضية أهل البيت، وبالذات قضية الإمام علي عليه السلام التي هي قضية الإسلام وحقه في خلافة النبي(ص)، وقيادة الأمة، وكذلك ولده من بعده إيصالها إلى اكبر عدد ممكن في تلك الفترة، ونشرها في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف[7].

وأيضاً من الوسائل الهامة للاحتفاظ بقضيتهم هذه، وإيصالها إلى الأجيال القادمة.. إذ من الطبيعي: أنه إذا كان الشعر يحفظ ويخلد فإن القضية التي يعالجها تحفظ وتخلد أيضاً..

ومهما بذل من المال.. فإن خلود القضية، وإبقاءها حية في ضمير الأمة ووجدانها، تسير من بلد إلى بلد، وتتناقلها الأجيال من جيل إلى جيل … أولى وأهم بكثير من اختزان المال، أو انفاقه على عدة معدودة، ليسوا بخالدين ولا باقين، ويمكنهم الاتجاه إلى مصادر أخرى لتأمين لقمة العيش.. هذا بالإضافة إلى أنهم لا يستطيعون أن ينقلوا عقيدة الأئمة – التي هي العقيدة المثلى، وقضيتهم التي هي قضية الحياة إلى الأجيال القادمة، التي لها من الحق تماماً كما لأولئك الذين يعيشون في عهد الأئمة، وبالقرب منهم … أو على الأقل لا تستطيع قضيتهم أن تستقطب مختلف أنحاء وأرجاء الدولة الإسلامية على النحو المطلوب والمرغوب..

ومن هنا.. يتضح لنا الهدف الذي يرمي إليه الإمام الحسن عليه السلام حينما قرر: أن الدنيا كلها لو كانت له، وأعطاها لذلك الشاعر، كانت في ذات الله قليلاً..

إذن: فحتى إعطاء خراج العراق كله – لو كان – كان الهدف منه هو وجه الله عز وجل، وجلب مرضاته..

وبعد هذا..

فلعل من أهل الملاحظات الجديرة بالتسجيل هنا:

إن هؤلاء الشعراء، الذين كانوا يتبنون قضية الأئمة، ويدافعون عنها، كانوا عموماً يرفضون الأموال، التي كان الأئمة يبذلونها لهم، ويؤكدون على أن مواقفهم تلك وأن مدحهم لهم، ودفاعهم عن قضيتهم لم يقصد به إلا وجه الله تعالى، والغضب لله ورسوله، وللحق، كما كان الحال بالنسبة للفرزدق مع الإمام زين العابدين، والكميت معه أيضاً، ومع الباقر عليه السلام، ودعبل مع الرضا عليه السلام، وغاية ما كانوا يطلبونه منهم هو أن يتكرموا عليهم بثوب لبسوه، ليتبركوا به، أو ليجعلوه في أكفانهم..

مع أن هؤلاء الشعراء.. وكل من يمدح الأئمة عليهم السلام، ويدافع عن قضيتهم، التي هي قضية الإسلام والحياة.. كانوا يتعرضون لأقسى أنواع الاضطهاد والتنكيل، هذا إن لم تكن نهايتهم هي القتل بالصور البشعة، والأساليب القاسية المثيرة!!

وذلك إن دل على شيء.. فإنما يدل على أن اندفاعهم في مواقفهم تلك كانت نابعة من إحساسهم العقيدي، المتأصل في نفوسهم، واقتناعهم اقتناعاً كاملاً بمبادئ أهل البيت، وقيمهم، إلى حد أنهم يتنازلون عن حياتهم، ووجودهم، من أجلها وفي سبيلها.. تماماً على عكس الشعراء الآخرين المتزلفين والمتسكعين على أعتاب الحكام، والذين لم يكن يهمهم غالباً إلا الاستفادة من الحكم القائم، بأية وسيلة وبأي طريقة كانت، ولا يؤمنون به إلا بقدر إيمانهم بالطريقة التي يستطيعون أن يحصلوا بها على المال.. حتى إذا ما أحسوا من ذلك خطراً على وجودهم، أو عرفوا أنه لن يؤمن لهم المبالغ التي يتوقعونها، أداروا أظهرهم إليه، وغالباً ما يصيرون حرباً عليه.

ومن هنا نستطيع أن نتلمس في تلك القصائد والأشعار التي تقال في أهل البيت(ع) صورة حقيقية وواقعية لعظمة أهل البيت عليهم السلام.. وأنهم كان ينظر إليهم من الكثيرين المغلوبين على أمرهم والواعين لواقعهم، وواقع حكامهم ينظر إليهم على أنهم القمة في الكمالات الإنسانية، والفضائل الأخلاقية..

ونستطيع أن نستشف منها أيضاً العاطفة المشبوبة، التي استطاعت أن تتجاوز كل تلكم الحواجز والعقبات لتتفجر ينبوعاً ثراً من العاطفة الصادقة، التي لا يشوبها طمع ولا يهيمن عليها رجاء، إلا رجاء رحمة الله وثوابه، والأمن من جزائه وعقابه..

إنها العاطفة التي تتفجر بركاناً يجتاح كل ذلك الركام الهائل من الأكاذيب والأباطيل والدعايات التي حيكت حول أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم ومحبيهم.

إنها العاطفة الصادقة التي تنبع حقاً من القلب، وتستمد أصالتها من الواقع الحي.. لا مثل شعر أولئك المتاجرين، الذي تغمره روح التزيف والتزلف، والذي لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يعبر عن واقع حي، وأصالة راسخة..


 [1] مناقب آل أبي طالب ج4 ص197 وقاموس الرجال ج7 ص433 عنه.

[2] قاموس الرجال ج7 ص432 عن بصائر الدرجات.

[3] الاغاني ج15 ص123 ط بولاق.

[4] ملحقات إحقاق الحق ج12 ص61 عن تاريخ الإسلام للذهبي ج5 ص126 ط مصر.

[5] نظم درر السمطين ص197.

[6] ومع ذلك نلاحظ أنهم ينفقون فيها سنوياً على الدعاية لبعض السلع لبضع دقائق يومياً الملايين الكثيرة... التي لا تكاد تخطر على بال الإنسان العادي، أو أن يتوهمها.

[7] لقد كان أئمة أهل البيت لا يدخرون وسعاً في التعريف بقضيتهم ورسالتهم، ومحاولة إيصالها بالطرق المشروعة إلى أكبر عدد ممكن... ويكفي أن نذكر أن الإمام الباقر(ع) قد أوصى بثمانمائة درهم لنوادب يندبنه بمنى أيام الموسم عشر سنين راجع: الكافي ج3 ص217 والتهذيب للطوسي ج6 ص358 ومن لا يحضره الفقيه ج1 ص116 والوسائل ج12 ص88 وقصار الجمل ج1 ص134 عنه والذكرى ص72 ومقتل الحسين للمقرم ص103-104 عن بعض من تقدم وعن منتهى للعلامة ج2 ص112، واختيار منى لا مكة، ولا المدينة – حيث يجتمع فيها الناس من مختلف الأنحاء والأرجاء، ويرجعون منها إلى بلادهم، ويتحدثون للناس بما الفت نظرهم، من الأمور غير العادية، فيكون ذلك آخر ذكرى يحملونها، ويتفاعلون معها عاطفياً واختيار أيام الفرح والاستبشار للندب والحزن ليس إلا لإلفات النظر، وجلب الانتباه من أكبر عدد ممكن، وتعريف الناس بأهل البيت، وبقضيتهم ورسالتهم، وإقامة الحجة عليهم. ولعل التوقيت بعشر سنين، إنما هو بملاحظة: أن قوة الأمويين بعد عشر سنين من وفاته ستضعف وستضمحل، حيث يقتلون زيد بن علي وأصحابه، الأمر الذي من شانه أن يعيد تعبئة الناس نفسياً ضدهم، ثم إنهم سوف ينشغلون بحرب الخوارج، ولا يبقى لهم اي شأن يذكر بعد ذلك.

وما أشبه هذه القضية بقضية حجة الوداع، وتنصيب علي(ع) يوم الغدير فيها على مفترق الطرق وفي حين لابد للناس من مفارقة النبي(ص) والرجوع إلى بلادهم، في مناسبة فريدة من نوعها ستبقى ذكرى لكل مسلم لا يمكن أن ينساها بعد أن كانت آخر لحظة يرى فيها النبي(ص).. وما أشبهها أيضاً بقضية براءة، وبموقف الإمام الرضى في نيشابور ( راجع: الحياة السياسية للإمام الرضا – ص318).


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=124
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29