• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : المقالات والأبحاث .
                    • الموضوع : العقيدة والنظام .

العقيدة والنظام

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين من الأولين إلى قيام يوم الدين.

إن من الواضح أن تصرفات الإنسان وأعماله تنتظم في مجالين:

خاص: وهو ما يخص حياته الفردية، ويتعلق بشؤونه الخاصة به التي لا ترتبط بالآخرين لا من قريب ولا من بعيد..

وعام: وهو ما يرتبط بحياته الاجتماعية وعلاقاته مع الآخرين من أي نوع كانت تلك العلاقات، وعلى أي مستوى كانت.

وتصرفات الإنسان في كل من المجالين، الخاص والعام قد يكون فيها خير الإنسان وسعادته، بل وخير الآخرين وسعادتهم. وقد تجلب له، وللآخرين أحياناً – من حيث يعلم أو من حيث لا يعلم – الضرر والبلاء والشقاء.

إذن.. فلابد لكل هذه التصرفات والأعمال من قوانين، ونظم، وضوابط تضمن أن تكون جميعها موجهة لما فيه خير الإنسان ومصلحته، مبعدة له عن كل تصرف أو عمل يجر عليه الضرر والبلاء، ويعكر عليه صفو حياته.

وإنما قلنا: " في كل من المجالين الخاص والعام " باعتبار أن كل تشريع يهمل أحد هذين المجالين، أو يؤثر أحدهما، أو يأخذ من أحدهما ليعطي الآخر – كل تشريع من هذا القبيل – يعتبر ناقصاً بل ظالماً للإنسان، لا يصلح أبداً نظاماً لحياته ولا قانوناً لتصرفاته، لأن إهمال أي من الناحيتين يعتبر جناية على الإنسان وجريمة في حقه ؛ حيث يبقى الباب مفتوحاً، والمجال مفسوحاً أمام المفاسد والأضرار لتتسرب إلى حياة الإنسان، وتعكر عليه – من ثم – صفوها، وتذهب ببهجتها وبهائها.

وجميع الأنظمة الوضعية التي تحكم المجتمعات البشرية اليوم، أو تهيمن عليها قد وقعت في هذا الخطأ الفاضح، الذي لم يكن الوحيد في سلسلة أخطائها المتعددة، والذي جر على الإنسان – ولا يزال – الكثير من الويلات والمصائب ودفع بالبشرية سواء على مستوى الفرد او على مستوى الجماعة إلى متاهات ومنحدرات، أو بالأحرى كوارث ونكبات أثرت أثراً بالغاً وعميقاً في شخصية الإنسان، وفي حياته الحاضرة، ولسوف تؤثر بطبيعة الحال على حياته في المستقبل.

ولعل السر في نقص تلك القوانين.. هو أن وضعها كلاً أو بعضاً ومشرعها هو هذا الإنسان المحدود بحدود الوجود والزمان والمكان، والذي لم يقدر أن يطلع، بل هو لا يستطيع أن يطلع على سائر البشر وأسرارهم ولا على عواقب الأمور، ولا على حقيقة التطورات والتحولات التي طرأت أو سوف تطرأ – وباستمرار – على هذا الإنسان، بل هو لا يستطيع أن يفهم حتى الظروف التي يعيشها الإنسان فعلاً وتكتنف حياته.

وإذا كان الإنسان لا يستطيع ذلك، فبالأحرى أن لا تكون له القدرة على أن يضع قانوناً ونظاماً كاملاً وشاملاً فضلاً عن أن يكون " أبدياً "، يحكم تصرفات البشر، وينظم أعمالها ويأخذ بنظر الاعتبار جميع الظروف والأحوال التي تحيط بالإنسان وتكتنف وجوده.

وعليه فإن علينا أن نستمد التشريع من غير هذا الإنسان المحدود، يكون واضعه المطلع على الحقائق والخفيات، والعالم بما كان ويكون من التحولات والتطورات، يكون واضعه من ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾.

وكان التشريع الوحيد الذي ينسجم مع واقع الإنسان، ويلائم فطرته في كل حال وكل زمان ومكان، هو التشريع الإسلامي، الذي هو " دين الفطرة ". قال تعالى ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾. فكل تشريع يتنافى مع فطرة الإنسان ولا ينسجم معها هو بلا شك ليس من الإسلام، لا من قريب ولا من بعيد.

ولقد لاحظ الإسلام في تشريعاته وقوانينه هذا الإنسان، في جميع شؤونه الاجتماعية، والشخصية، ووزان بين روحه وجسده، لم يظلم أحدهما بأن بخسه حقه، ولم يظلم الآخر بأن اتخمه بالعطاء إلى الحد الذي يجعل ذلك ضرراً وبلاء ووبالاً عليه.. وهو أيضاً قد اهتم في أن يفرق بين آمال الإنسان الواسعة وبين الواقع ونفس الأمر، كما أنه في نفس الوقت الذي منعه فيه من الاعتداء على الآخرين منعه ايضاً من الاعتداء على نفسه، بأي نحو من أنحاء الاعتداء، وأية صورة من صوره، لأن اعتداء الإنسان على الآخرين بنظر الإسلام ليس بأسوأ من اعتدائه على نفسه.

كما أن تشريعات الإسلام تتخذ صفة العموم والشمول لكل حال وزمان ومكان فما من حركة من حركاته وتصرف من تصرفاته إلا وقد جعله الإسلام خاضعاً لقانون، ووضعه ضمن ضابطة، لا يشذ عنها ولا يخرج منها.

وهذا مفقود في جميع الأديان والتشريعات الأخرى (قديمها وحديثها) حتى تلك التي يدعى أنها سماوية في حين تختفي وراءها مطامع البشر وأفكارهم.

ومن كل ذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وسمو مبادئه لأنه من خالق العظمة، وواهب السمو المطلع على حقائق جميع الموجودات، والعالم بجميع السرائر والخفيات.

وإذ قد عرفنا هذا.. فإن من نافلة القول أن نقول: إن مجرد وضع قانون حتى ولو كان في أعلى درجة من الكمال لا يكفي في تحقيق الغرض المنشود، والمقصود من وضعه.. بل لابد لأجل تحقيق ذلك الغرض من تطبيق ذلك القانون والالتزام بمقتضى النظام، والعمل على وفقه..

ومن أجل ذلك أن يتحقق الغرض المنشود والمقصود لابد أن يتوفر في عملية التطبيق هذه عنصران:

الاول: أن يتخذ التطبيق صفة الشمول والسعة لجميع الوقائع ولمختلف الأحوال والظروف بحسب سعة وشمول نفس ذلك التشريع.

الثاني: أن يتوفر الدوام والاستمرار في التطبيق مادام هناك إنسان يتصرف ويعمل، ومادام هناك قانون يمكن أن تسير التصرفات على وفقه وتطبع الوقائع بطابعه.

والتطبيق على هذا النحو لا يمكن أن يكون عفوياً، أو وليد الصدف.. كما أن الإنسان بملاحظة ما فيه من النزعات والميول لا يمكن أن ينساق إليه طواعية وبالاختيار، فكان لابد من إقامة مراقب ومحاسب واع ودقيق، يشرف على الإنسان في تطبيقه لأحكام القانون، والتزامه بمقتضيات النظام، يحاسبه على كل مخالفة، ويلفته إلى كل خلل أو خطأ يصدر منه، بل ويدفعه ويحثه... بل ولو اقتضى الأمر يقهره ويجبره على الالتزام به، وتطبيق أحكامه.

وقد رأينا النظم الحديثة والتي لم تلاحظ الإنسان إلا من خارج أي في خصوص المجال العام بل هي قاصرة محدودة حتى في هذا المجال (فمثلاً لا نرى النظم الحديثة قد أخضعت الغيبة، والكذب والنميمة، ومعاملة الرجل أطفاله الصغار، وكثيراً غيرها لأحكام القانون. ولضابطة معينة تكفل عدم صدورها من الإنسان مع أنها من جملة الجرائم التي من شأنها أن تجلب الضرر والبلاء عليه بخلاف الإسلام فإنه لم يهمل شيئاً يتصل أو يمكن أن يتصل بحياة الإنسان من قريب أو من بعيد، كبيراً كان أو صغيراً) – رأيناها – قد فشلت وعجز بوليسها، وقوى شرطتها، وأمنها عن ضبط أعمال وحركات الإنسان التي تخص المجال العام، بل إن القرائن والدلائل تشير إلى أنها سوف تعجز حتى ولو وكلت بكل فرد فرد من الناس مراقباً ومحاسباً يختص به.

وإذا عجزت الشرطة والبوليس، وأجهزة الأمن عن ضبط أعمال الإنسان وتصرفاته، وعن فرض النظام والقانون عليه في جانب من المجال العام.. فكيف يمكن أن نتصور أنها تتمكن بالإضافة إلى ذلك من الإشراف عليه، وضبط أعماله وتصرفاته في المجال الخاص الذي هو اكثر سرية وخفاء ؟! وكيف يمكن أن تضمن لنا تطبيق النظام والقانون في المجال الخاص تطبيقاً كاملاً ودقيقاً ؟!! إن ذلك بطبيعة الحال امر غير ممكن ولا متصور..

هذا.. وإذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي اتخذت تشريعاته صفة تميزها عن سائر القوانين والتشريعات الأخرى من حيث العموم لكل الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة، بل ولجميع مراحل حياة الإنسان، والشمول لجميع الوقائع وفي كل المجالات.. فإنه لا محالة يتحمل في مجال التطبيق مسؤولية كبرى تفوق مسؤولية أي تشريع آخر. إذ أن العموم والشمول في تشريعاته يحتم عليه أن يقيم على كل فرد حارساً ومراقباً يشرف على تطبيق أحكام النظام بدقة ووعي، بل ويحثه ويدفعه على مواصلة التزامه العملي، وإن اقتضى الأمر يجبره ويقهره على العمل وفق النظام، وضمن حدود أحكام الإسلام.

فهل استطاع الإسلام أن يهتدي إلى ذلك المراقب؟ وما، أو من هو؟ وعلى أي نحو يا ترى يقوم بعملية الرقابة؟.

نعم لقد استطاع الإسلام ذلك، وكان اختياره للمراقب، ولنحو وكيفية الرقابة كأحسن ما يكون الاختيار.

لقد كان في اختياره فريداً من نوعه، مخالفاً في ذلك لجميع التشريعات والنظم الأخرى وما ذلك إلا لأنه صادر عن خالق الكون والحياة علام الغيوب أحكم الحاكمين.

لقد استطاع الإسلام أن يقيم مراقباً ومحاسباً على كل فرد فرد، باستطاعته أن يسجل عليه كل مخالفة، وأن يحاسبه عليها فوراً، وباستطاعته أيضاً أن يجبره ويقهره دائماً على موافقة القانون، والالتزام بأحكام النظام.

ويبقى سؤال ما، أو من هو ذلك المراقب الذي استطاع أن يتحمل هذه المسؤولية الخطيرة والشاقة في نفس الوقت؟

إننا من أجل أن تتضح لنا الإجابة القاطعة على هذا السؤال نرى لزاماً علينا أن نسهب في القول، ونتوسع في البيان، في حدود ما يسمح لنا به المجال فنقول..

إن الإسلام قبل أن يكلف الإنسان بالالتزام بالنظام، ويطلب منه تطبيق الأحكام اهتم بأن يبنيه ويحافظ عليه من الداخل ليترتب على ذلك – تلقائياً – بناؤه والحفاظ عليه في الخارج.. اهتم بأن يتصل بعقله أولاً، وعن طريقه يتصل بروحه وليكون العقل من ثم قائداً للروح – النفس – ومدبراً لأمورها وسيداً عليها لا تنساق وراء عاطفة ولا يسيرها سلطان هوى.

ومن هنا نعرف لماذا اهتم القرآن الكريم بالعقل فإنه لم يدفع فرصة تمر دون أن يخاطب عقل الإنسان ويمجده بل لقد جعل العقل هو الفيصل في مختلف الأمور كبرت أو صغرت وجعل كلمته هي العليا في جميع المجالات ووبخ من يهمل عقله ولا ينقاد له في أكثر من مورد ومقام.

هذا مما تفرد به دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لنا.. ومن هنا ومن أجل أن الإسلام قبل أن يطلب من الإنسان الالتزام بالنظام وتطبيق الأحكام يريد أن يبنيه من الداخل ويتصل بروحه ويجعل العقل هو القائد لها والمدبر لأمورها.

نراه قد أعطى الأمور الاعتقادية المقام الأول وجعلها الأساس للنظام إذ أن النظام ما لم يكن مرتبطاً وصادراً عن الاعتقادات فإنه لن يحقق الغرض المنشود والمقصود منه هذا بالإضافة إلى أنها تلبي حاجة طبيعية في الإنسان وتقوم ببناء شخصيته بناءً صالحاً وسليماً إلى غير ذلك من المنافع التي لسنا الآن بصدد بيانها.

ومن هنا أيضاً نراه قد قرر أن الاعتقاد بالاعتقادات والحصول على القناعة النفسية فيها يجب أن يكون مستنداً إلى حكم عقله – وعقله وحده – فل يقبل إلا ما كان الاعتقاد به عن طريق البرهان الجلي والدليل القاطع، ولم يرض من الإنسان أن يقف من الاعتقادات موقف اللامبالاة، أو أن يأخذها عن طريق الوراثة أو التقليد مع أنه قد اكتفى في النظام بأن يستند فيه العبد إلى التقليد، وإن كان قد شرط لذلك شروطاً، ووضع قيوداً.

نعم.. لقد طلب من الإنسان في الاعتقادات ان يهتدي بهدى العقل، ويتخذه مرشداً وهادياً، ليأخذ – عقله – بيده عن طريق الدليل والبرهان القطعي، ويوصله إلى الإيمان بالله، وقدرته وعدله وحكمته، وسائر صفاته الجمالية. وإلى نبوة نبيه وإمامة أوليائه والنشر والحشر، وغير ذلك مما يتفرع منه أو يضاف إليه.. وكذلك إلى أن يؤمن ويثق بدينه وقرآنه وبأن دينه يستطيع – لو التزم بجميع أحكامه – ان يحل له جميع مشاكله، ويذلل له كل الصعوبات والعقبات التي تواجه وتعترض مسيره في حياته، وأنه نظام كامل وشامل لأنه صادر عن ساحة القدس والكمال، وعن المحيط بجيمع الموجودات، والعالم بجميع الخفيات.

وبعد أن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة وتتركز وتترسخ هذه العقيدة وما يلازمها وما يتفرع عنها في نفس هذا الإنسان، حيث إنها مستندة إلى الدليل والبرهان وبعد أن يصبح في مأمن من نوازع الشك والريب في الله، وفي قدرته وفي دينه..

نرى الإسلام أيضاً لم يوجب عليه الالتزام بأحكام النظام إلا بعد أن أفهمه صريحاً تارة وتلويحاً أخرى، أنه – أي الإنسان – هو المسؤول عن جميع تصرفاته، وهو المحاسب عليها لا يتحمل عنه احد مسؤولية أي تصرف يصدر منه، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾ و ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ وعرفه أنه سوف يحاسب على كل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناته خيراً كانت أم شراً صغيرة كانت أم كبيرة ﴿َمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾. ﴿وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَ أَحْصَاهَا﴾.

وعرفه أن المحاسب له هو أسرع وأدق الحاسبين ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ كما أنه عرفه أيضاً أنه إذا نجى من العقاب في الدنيا وتمكن من إخفاء نفسه من وجه العدالة فيما شرع له من العقاب الدنيوي، فليس معنى ذلك أن أصبح في مامن، وأنه سوف لا يناله عقاب بعد.

ومعنى هذا أنه سوف يبقى ينتظر عقابه، وأنه في طريقه إلى ذلك العقاب، أنفاسه خطاه إليه تقربه منه على الدوام، ولسوف يدرك أنه لا ولن يقر له قرار إلا بالابتعاد عن المعصية، ولا ولن يسعد إلا بالطاعة، كل ذلك كان نتيجة جعل العقاب في مستقبل الإنسان، في الدار الآخرة.

ومن جميع ما تقدم نعرف أن الإسلام قد اختار المراقب والمحاسب من داخل نفس الإنسان، ليشرف عليه ويحاسبه ويراقبه لأنه بعد ان أقنعه بما يجب أن يقتنع به، وحمله مسؤولية أية مخالفة تصدر منه، وجعل العقاب أمامه وفي مستقبله، فمن الطبيعي بعد هذا أن يحكم عليه عقله بمراقبة نفسه، ومحاسبتها، على كل خلل أو خطأ، أو مخالفة تصدر منها وقد أشير إلى هذا المعنى في كثير من المواضع حيث قد أرشد الإنسان ودعي إلى مراقبة نفسه، ومحاسبتها، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾.

وقال عليه الصلاة والسلام: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا "، إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي يضيق المقام باستقصائها ومن الطبيعي أن الرقابة التي تنبع من الداخل تكون أكثر فعالية ودقة من تلك التي تأتي من الخارج، فإن ﴿الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾، وهو أكثر إشفاقاً على نفسه، وحباً لها، وتفانياً في سبيلها من الآخرين، مما يدفعه لأن يبالغ في الحفاظ عليها، وإبعادها عن كل ما يجلب لها ضرراً وبلاءً..

إلا أن الواضح أن مجرد أن يحمل الإنسان المسؤولية، وإن يؤمر بمراقبة نفسه لا يكفي بحال من الأحوال لأن يكون دافعاً وباعثاً له على الالتزام بالنظام وتطبيق أحكام القانون تطبيقاً كاملاً وشاملاً ومستمراً، لأن الإنسان قد ينسى، وقد يغفل، بل هو كثير الغفلة والنسيان.. بل إنه كثيراً ما ينساق وراء ميوله ونزعاته، ولا تنفك نفسه تؤامره وتهون عليه الانحراف عن الخط القويم، وتنكب النهج المستقيم... قال تعالى على لسان امرأة العزيز:

﴿إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾.

وعلى هذا فإن من الضروري وضع ضمانات ومؤمنات، تضمن وتؤمن استمرار اتصال الإنسان بالله تعالى، ليستمر شعوره بالمسؤولية أمامه جل شأنه.

وكان لابد أيضاً من تربية نفسية الإنسان من الداخل تربية صالحة تمكنه من السمو بنفسه على هذا العالم الذي يعج بالموبقات ويزخر بالمغريات والشهوات إلى عالم أصفى وأروع وأطهر.. وليكتسب منه – من ثم – طيبة، وصفاء، وطهراً، وليستفيد من ذلك سمواً في تفكيره، وفي أعماله، وفي تصرفاته، وفي نظرته للحياة من مختلف جوانبها نظرة الواعي المتزن، الذي لا تبهره الأشكال، ولا يغتر بالظاهر.

ولم يهمل الإسلام هذا الجانب أيضاً.. فكان هذا الغرض والهدف هو أحد الأغراض والأهداف التي تؤديها العبادات في الإسلام، وإن لم يكن هو كل الهدف منها.

فالعبادات وخصوصاً "الصلاة" منها، تضمن استمرار شعور الإنسان بالمسؤولية أمام ربه وخالقه، لأنها مضافاً إلى ما فيها من الآداب والحقائق، التي يجب أن يعيها الإنسان، ويلتفت إليها باعتبار أن ذلك ضروري جداً لحياته.. ومضافاً إلى أنها قد اشتملت على الأسس الرئيسية للجانب العقيدي الذي هو الجانب الأهم في الإسلام.. فالتوحيد من قوله "أشهد أن لا إله إلا الله" في التشهد وسورة الإخلاص وغيرها.

والنبوة كما في قوله "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" والعدل كما في قوله "سبحان الله وسبحان ربي العظيم وبحمده" وغيرهما حيث ينزه الله تعالى عن كل مشين وقبيح بما في ذلك الظلم، والمعاد في قوله ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، والتذكير بآل البيت أيضاً، الذين هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، والذين هم أحد الثقلين، في قوله في التشهد "اللهم صلى على محمد وآل محمد".

إن الصلاة بالإضافة إلى كل ذلك تقوم بربط الإنسان بربه، ووضعه أمامه وبين يديه خمس مرات يومياً، وباستمرار وتذكره دائماً بأن لا ينساق وراء نزعاته، وميوله وشهواته، وإن لا يوافق نفسه على ما تؤامره عليه، كما أنه لا يبقى مجال للغفلة، أو النسيان وادعائهما.

وينعكس أثر ذلك بالضرورة على أعماله التي يقوم بها، وتصرفاته التي تصدر عنه.

ويكون ذلك حافزاً، ودافعاً بل وواضعاً للإنسان من حيث يشعر، أو من حيث لا يشعر على الخط القويم الذي يجب أن يكون عليه، ملتزماً بالنظام ومطبقاً للأحكام سواء في ذلك ما يرتبط منها بالمجال العام او ما يرتبط منها بالمجال الخاص.

فالعبادات وخصوصاً الصلاة لولا أنها تضع الإنسان باستمرار أمام ضميره وأمام الواقع وأمام الله الذي يعترف به وبقدرته وعدله وسائر صفاته عن الدليل والبرهان القطعي... ليبقي الإنسان في منأى عن كل ذلك ولا يحسب له أي حساب ولا يرى له أية قيمة حيث تتضائل مكانته في نفسه رويداً رويداً نتيجة لابتعاده عنه وتموت في نفسه الأبعاد الحقيقية للعقيدة... ولم يكن تبعاً لذلك تطبيق أحكام القانون تطبيقاً كاملاً وشاملاً ومستمراً.

ومن هنا يتضح لنا جلياً كيف أنه اختار ذلك الرقيب من داخل نفس الإنسان الذي هو أشفق على نفسه وأعرف بها من أي رقيب آخر ولعل هذا هو السبب أيضاً في كون الصلاة ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وفي كونها عمود الدين.

ويتضح لنا كذلك مدى الترابط بين كل من العقيدة والنظام في الدين الإسلامي وأن النظام لا يمكن أن يكون ذا قيمة عملية إلا إذا اعتمد على العقيدة واستند إليها.. حيث إن الجانب العقيدي يكون الأساس الذي يقوم عليه النظام ويلعب الدور الرئيسي في إقامة وتجسيد ذلك النظام في الخارج، وبعث الحياة فيه واستمرارها.

ونعرف أيضاً ما هو الدور الذي تؤديه العبادات وخصوصاً الصلاة منها في الربط والوصل بين العقيدة والنظام، ومدى أهمية ذلك الدور وخطورته هذا بالإضافة إلى أنها تشريع يربي الإنسان ويبني الشخصية إلى جانب كثير من المنافع الأخرى التي لسنا بصدد بيانها.

وليكن هذا بمجموعه واحداً من تلك الأدلة التي توافرت على عظمة الإسلام وكماله وتفوقه على كل تشريع أو نظام سواه حيث إنه صادر عن الله الذي ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.

وليعيش الإنسان – الفرد منه والجماعة – في ظل الإسلام، ملتزماً بأحكامه وتشريعاته لتكون حياته – من ثم – حياة هناء وسعادة، تفيض باليمن والبركة والخير والرفاه.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

جعفر مرتضى العاملي


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=128
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16