• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : المقالات والأبحاث .
                    • الموضوع : كيف نفهم الموت والشهادة .

كيف نفهم الموت والشهادة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

لتجدنهم أحرص الناس على حياة:

هناك أناس ينظرون إلى هذه الحياة الدنيا على أنها هي كل شيء بالنسبة إليهم، وليس قبلها ولا بعدها شيء، ويتعاملون مع كل ما ومن يحيط بهم على أساس هذه النظرة، ومن خلالها.

ومعنى ذلك: أن تصبح معاييرهم التي يقيسون بها الأمور معايير دنيوية، وعلى أساس الربح والخسارة فيها، وليس ثمة شيء وراء ذلك.

فلا غرو إذا كان الموت يمثل لهؤلاء الناس ـ حسب نظرتهم تلك ـ ضياعاً وخسراناً، وخيبة مُرّةً وقاسية، لأنهم يرون فيه نهاية سعادة وحياة، وبداية عدم وفناء، وربما بداية شقاء وبلاء، لا تحده حدود، ولا تقيده قيود.

إذن فلماذا لا يجنّبون أنفسهم كارثة الموت هذه، والتي ليس فوقها  كارثة، ويحرصون على البقاء في هذه الدنيا، ليعيشوا فيها حياتهم حتى لو كانت أحقر، وأتفه، وأخسّ حياة. قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}(1). علماً بأنهم لا يجدون في توراتهم المحرفة التي يتداولونها اهتماماً بأمر الآخرة.. بالمستوى الذي يصبح هاجسهم الأول والأخير.. بل قد تجد فيهم فرقاً لا تعترف بالآخرة أو لا تعتقد بها إلا بدرجة ضعيفة وغائمة.

نظرة المؤمنين للموت:

أما الذين يؤمنون بالله، وبأنبيائه ورسله، وبالآخرة، فإنهم ـ بحسب ما علمهم إياه  القرآن، ونبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) ـ ينظرون إلى الموت نظرة تختلف كثيراً عن نظرة غيرهم. ويمكن تلخيص ذلك في ما يلي من نقاط:

خلق الموت والحياة:

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(2).

فالآية الكريمة قد ذكرت الموت، قبل أن تذكر الحياة. ثم صرحت بأن الموت مخلوق له تعالى، تماماً كما هي الحياة.

ثم ذكرت: أن السر في خلق الموت والحياة هو وضع الإنسان على المحك، بهدف دفعه لمواصلة تحركه نحو الأفضل والأحسن في مسيرته

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، الآية 96.

(2) سورة الملك، الآية2. التكاملية، في نطاق جوٍ مثير يهيمن عليه تنافس إيجابي، باتجاه تكوين وصنع الحياة، والتأثير فيها وإثارتها لتتجسد عملاً ذا ميزات جمالية تنمو وتتكامل في جماليتها من حسن إلى أحسن بصورة مطردة.

فالموت والحياة معاً لهما دورهما الإيجابي في بناء الحياة، وفي تكامل الإنسان في إنسانيته، من حيث إنهما ينتجان عملاً حسناً، بل ومتميزاً في حسنه وجماليته، يكون هو الرصيد الذي يؤهل الإنسان للمشاركة في الحياة الحقيقية التي لا تصلح إلا للإنسان الذي استوفى باختياره، وبجهده وعمله الدؤوب خصائصه، وميزاته الإنسانية، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(1).

وفي حياته الحقيقية تلك ـ أعني في الآخرة ـ يصبح أكثر وأعمق إحساساً بالأمور، حيث تتساقط الحجب التي تؤثر على مستوى إحساسه وإدراكه، ولأجل ذلك كانت هذه الحياة «حياة دنيا»، لتدني مستوى الشعور، والإدراك والإحساس فيها، لأنه محجوب بالوسائط، ومستند في الأكثر(2) إلى التخيل استناداً إلى صور ذهنية عن الحقائق الراهنة، ساهمت الحواس بإيصالها إليه. بالإضافة إلى حاجز الشهوات والهوى، وإلى الآثام والمعاصي التي تزيد من طغيان الجسد، وتضعف القدرات الروحية لديه،  فيتضاءل إحساسه بالحقائق، ويتقاصر فهمه عنها.

أما الآخرة فقد قال الله عنها: {إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا

ـــــــــــــــ

(1) سورة هود، الآية7.

(2) إذ إن بعض المدركات تكون عبر الإحساس الحقيقي بها، من قبيل الإحساس بالجوع والعطش، وكذا بعض الحقائق النفسية أيضاً. يَعْلَمُونَ}(1).

وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(2).

وخلاصة الأمر: أن الإنسان يجتاز مرحلة الموت، ليصل إلى عالم البرزخ ومعه رصيده العتيد، من عمل حسن وأحسن، ويتخلص من كل ما يحجزه عن مواصلة مسيرته التكاملية نحو الله سبحانه ليفوز بقربه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}(3)، فيصل إلى البرزخ الذي هو بمثابة بوتقة يتم فيها تأهيل من يحتاج إلى التأهيل لاستقبال الحياة الحقيقية، التي هي حياة الآخرة، بكل حيوية ونقاء وصفاء، ويكون هو بداية الفوز والنجاح، وهو باب الخير والفلج والفلاح، وأول طريق الأمن والسلامة والنجاة من المخاطر، التي تنشأ من طغيان الشهوات، ودواعي الغرائز والأهواء.

فبالموت يملك الإنسان المؤمن نفسه، ويتحرر من شهواته، ويستفيد من كل جهات وجوده، ومن طاقاته بصورة كاملة، وبه يخرج من سجن قاس ومرهق أيضاً.. وما أحلى أن يحصل الإنسان على حريته وأن يكون هو سيد نفسه، ويواصل انطلاقته نحو الله في رحاب ملكوته. ليحيا هناك الحياة التامة بكل وجوده وطاقاته وأحاسيسه، قال تعالى: {إِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ

ـــــــــــــــ

(1) سورة العنكبوت، الآية 64.

(2) سورة ق، الآية22.

(3) سورة الانشقاق، الآية6. لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(1).

ولا غرو أن يكون هذا الموت حبيباً ولذيذاً، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه»(2).

وقد وصف الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه فقال: «يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه»(3).

وسأل الإمام الحسين (عليه السلام)، القاسم بن الحسن (عليهما السلام): يا بني كيف الموت عندك؟!

قال: يا عم أحلى من العسل(4).

وحين قال ابن زياد لعنه الله للعقيلة زينب سلام الله عليها: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً(5).

وحين ضرب ابن ملجم لعنه الله، أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال صلوات الله وسلامه عليه: فزت ورب الكعبة(6).

ـــــــــــــــ

(1) سورة العنكبوت، الآية 64.

(2) نهج البلاغة [بشرح عبده] ج1  ص41  ط دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان.

(3) مقتل الحسين للمقرم ص262.

(4) اللهوف ص82 و83  ونفس المهموم  ص208.

(5) اللهوف ص67 ونفس المهموم ص371.

(6) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ج3  ص303 وينابيع المودة ص65 ومقتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، لابن أبي الدنيا [مطبوع في مجلة تراثنا] سنة3 عدد3 ص96. إلى غير ذلك من نصوص كثيرة تدخل في هذا المجال.

هذا بالإضافة إلى ما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}(1).

وبكلمة:

إن الموت هو سر الحياة، وهو يعطيها معناها ومغزاها، وقيمتها. وهو غاية زينتها وبهجتها، وهو سر الطموح، وسر الحركة الدائبة باتجاه الأفضل فيها، وسر سعي الإنسان إلى كماله، وكدحه إلى ربّه، وسرّ ملاحقته لأسرار الكون وخفاياه، ليستفيد منها في ترسيخ حالة الأمن والسلامة القصوى في حاضره وفي مستقبله على حدٍّ سواء.

هذا.. بالنسبة للمؤمن..

أما غير المؤمن فيرى في الموت خسراناً لنفسه، وبواراً لأهدافه وطموحاته، ولن يكون قادراً في الآخرة على نيل درجات القرب، ولا على الانطلاق في رحاب ملكوت الله سبحانه، أو الإحساس بجلاله وجماله، إحساساً حقيقياً وعميقاً، لا يقتصر على مجرد المعرفة الذهنية، بل هو سيكون منشغلاً بنفسه، وبآلامه في ظلمات الجحيم، حيث {يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}(2); وهو في الآخرة. كما في الدنيا أعمى، بل هو أضلُّ وأشقى قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي

ـــــــــــــــ

(1) سورة الفجر، الآيتان 28 و29.

(2) سورة إبراهيم، الآية 17. الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(1).

الموت قلادة على جيد الفتاة:

وما أروع ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا المجال، حيث قال في مكة وهو متوجه إلى كربلاء: «خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف إلخ..»(2).

فقد بين (عليه السلام) حتمية الموت وأنه هو زينة الحياة، يزيدها جمالاً، وبهاءً ورونقاً، ويعطيها المزيد من البهجة واللذة، تماماً كما هو الحال بالنسبة للقلادة إذا كانت على جيد الفتاة، فإنها تكون زينة لها، تشدُّ الأنظار إليها، وتزيد من تعلق القلوب بها.

ويستوقفنا هنا التعبير بكلمة: «جيد» التي توحي بالجودة، وهو تعبير مريح للنفس، مثير للكثير من المعاني اللذيذة في أعماقها.

كما ويلفت نظرنا أيضاً اختيار خصوص الزينة التي في هذا الموقع الحساس من جسد المرأة، بما يثيره من إيحاءات تنبعث من صميم الإغراء الأنثوي، وفي النقطة المركزية والأساس فيه.

ثم إنه (عليه السلام) يختار التعبير بكلمة «الفتاة» بدلاً من كلمة «المرأة» ونحوها. لأن الفتاة وليس سواها، هي التي تمثل القمة في الحيوية، والطموح، والجمال،

ـــــــــــــــ

(1) سورة الإسراء، الآية 72.

(2) اللهوف على قتلى الطفوف، لابن طاووس، ص25 ومقتل الحسين للمقرم  ص190 عنه وعن ابن نما  ص20. وما إلى ذلك.

فهذا موقع الموت، وهذه هي حساسيته، وبذلك تظهر أهميته.

الشهادة في معناها ومغزاها:

وإذ قد عرفنا، ولو بصورة موجزة ماذا يعني الموت للإنسان المؤمن، ولغيره.. فإن ذلك يفتح أمامنا باب معرفة ما يعنيه الموت إذا كان قتلاً وتضحية في سبيل الله سبحانه، وفي سبيل المستضعفين في الأرض.

ولتوضيح ما نرمي إليه هنا نبادر إلى القول: إن القرآن عندما استعمل كلمة شهيد، وشهداء، لم يرد بها مجرد القتل المذكور إلا بما هو مختزن لأمر جليل، وخطير، جعله هو العنوان الحاكي لهذا القتل، والمعبر عنه. ولكنه عنوان قد استهلك هذا المعنون في داخله، وأصبح هو معناه ومغزاه، والعنوان هو الشهيد. والشهداء.. وهي كلمة تعني حضور الحدث بصورة واعية. فالشهيد ـ التي تعني كثرة أو شدة وعمق الحضور الواعي ـ تشير إلى أن الشهيد قد  أراد الوصول إلى كنه حقيقة الحياة، وواقع الأمر وملامسته، مع مزيد من الإدراك والوعي له، وعميق الإحساس الوجداني والواقعي الحقيقي به، ثم معرفة قيمته الحقيقية على ما هو عليه في نفس الأمر.

فالشهود إذن هو تعبير جاد وصادق عن درجة من الحضور، إذ قد يكون الإنسان حاضراً لواقعةٍ ما،  ولكنه لم يشهدها، وذلك إذا لم يدركها بعمق راسخ، تتشارك فيه قوى الإدراك الباطنة والظاهرة في الوصول وفي الحصول.

وهذا الشهود يكون لكل مؤمن بدرجة ما، سواء أكان قد قتل في سبيل  الله أم لا، فالأنبياء شهداء، والأوصياء، والعلماء و.. و.. شهداء. والمقتولون في سبيل الله أيضاً شهداء. فالله سبحانه يقول: {لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}(1); يريد التمكن من إدراك واقعهم، والإحساس به وملامسته بصورة أوفى وأتم.

ومعنى ذلك: أن القتل في سبيل الله، الذي ينشأ عنه أن يصبح المقتول شهيداً على الناس، سوف يتسبب بتساقط جميع الحجب، وزوال كافة الموانع عن إدراكه الحقيقي والعميق، وسوف يزيد من إحساسه الحقيقي والوجداني بما يحيط به، ليكون أكثر معرفة بواقع الحياة، وبدقائقها، وحقائقها، وبدور الخصوصيات والمؤثرات والمناشىء، ثم بالآثار والنتائج لكل فعل أو قول، أو موقف؛ فيصبح مؤهلاً لأن يكون شهيداً عليهم، ورقيباً على كل واقعهم، ليؤدي هذه الشهادة في يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ـ يؤديها من موقع الحاضر والناظر، والمتفاعل بكل وجوده مع كل ما يحيط به.

 التربية الإلهية:

وطبيعي: أن الوصول إلى درجة الشهادة على الناس يحتاج إلى تربية إلهية، ورعاية ملكوتية، تمنحه المعرفة الحقيقية، والرؤية الصحيحة، وتربّيه في سلوكه وفي مشاعره وأحاسيسه وعواطفه. وتصفي وتزكي روحه، ونفسه، وعمله، وكل وجوده وتوازن بين كل خصائصه ومزاياه، ليكون إنساناً إلهياً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وليكشف الله من ثم عن بصره، وعن بصيرته، ليصل إلى درجة الشهود، ويختاره الله سبحانه ويصطفيه لنفسه، ويخصه

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، الآية 143. بكرامته، قال تعالى: {يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاء}(1).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(2).

ترسيخ حالة الشهود بالجهاد الأكبر:

وقد عبر الإسلام عن جهاد الإنسان لنفسه بـ «الجهاد الأكبر»، لأنه صراع الإنسان مع أحب شيء وأعز ما ومن في الوجود عليه، وآثرهم لديه. وهو نفسه الأمارة ـ وليست اللّوامة ـ التي بين جنبيه. ذلك العدو القوي الذي يملك عليه مشاعره، وأحاسيسه، وعقله، ولا يمكنه أن يقتنع أو أن يتوهم أنه عدو له. كما أنهّ العدو الذي لا يمكن القضاء عليه، ولا الانفصال عنه، ولا التخلص منه، ولا إنهاء حالة الصراع معه.

وإن نجاح الإنسان في الجهاد الأكبر هذا يمنحه الفرصة للوصول إلى حالة الشهود تلك، لتزيد فيه قوة ورسوخاً، ولتطرد في تكاملها وتناميها، فيرى الأمور على حقيقتها، ولا تقتصر رؤيته على حيثيات الزينة الدنيوية وحسب.

وبسبب تنامي درجة الشهود، وكنتيجة طبيعية لدرجة الإدراك الموضوعي لحقائق الأمور، بعيداً عن الزبارج والبهارج، وبتفاعل جديد في حركة دائرية مطردة، يتم إنتاج مفردات جهادية جديدة: بالنفس، وبالمال وبسواهما. ويترسخ اليقين بهدف خلق الله الكون والحياة، كنتيجة طبيعية لدرجة ومستوى إحساسه وعيشه مع الله سبحانه، وانسجامه مع ألطافه وأهدافه، ومدى استعداده للحصول

ـــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران، الآية 140.

(2) سورة محمد، الآية 17. على المزيد، ثم المزيد من ذلك كله.

وهذا ما يجعلنا نفهم بعمق قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه»(1). لأن هؤلاء الخاصة هم المؤهلون لنيل درجة الشهود تلك، ولينتج ذلك من ثم المزيد من المواقف الجهادية الرائدة، في سبيل الله سبحانه، وفي سبيل المستضعفين، دونما رهبة من سلطان قاهر، ودونما رغبة في شيء من حطام الدنيا.

المحورية الإلهية هي الأساس:

وإذا كان الإنسان وهو يعيش مع الآخرين، ويتعامل معهم، في مختلف الشؤون الحياتية، يجد أن الكثير من مفردات تعامله هذا تتطلب منه أن يشعر بميزاته، وبخصوصياته الفردية، التي تخصِّص وجوده، وتميزه عما سواه. ويجد أن خصوصياته وميزاته هذه، تتصارع مع خصوصيات الآخرين، وميزاتهم الفردية.

ويدرك أن ثمة ساحة صراع بين رغبات ونزعات، وخصوصيات كل فردٍ، فردٍ، مع مثيلاتها لدى الأفراد الآخرين، مهما اختلفوا ومهما بلغ عددهم، فإن ذلك يفسح في ساحة الصراع، ولا يحددها.

فإذا استطاع كل منهم أن يتجاوز ذاته، وخصوصياتها، ويجرد فرديته من معالمها وميزاتها، ولونها، وطعمها، ورائحتها، فلا يبقى لها سمات طبقية، ولا عرقية، ولا قومية، ولا مهنية، ولا اقتصادية، ولا شكلية أو جمالية و.. و.. نعم.. إنه إذا استطاع ذلك، فلا يبقى ـ من ثم ـ ما يبرر تصادمها مع الخصوصيات الفردية

ـــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة الخطبة رقم 36  ج1 ص63. للآخرين، إذا كانوا هم أيضاً قد تخلصوا ـ كما تخلص هو ـ من أثقالها..

وبذلك يكون هذا الإنسان قد استبعد شطراً كبيراً من الموانع التي تعيق مسيرته التكاملية في الحياة. ويلتقي مع كل ما لدى الآخرين من طاقات ومن جهد، ويعملون معاً في بناء الحياة الإنسانية، باندفاع قوي وناجح باتجاه الأهداف السامية، والغايات الفضلى، التي تتجاوز ـ فيما هو التقدير الإلهي ـ هذه الحياة الدنيا، إلى حياة أسمى وأعلى. هي الحياة الحقيقية المثلى والفضلى.

بل إن هذا الإنسان إذا استطاع أن يسير وفق التخطيط الإلهي، لسوف يتمكن من أن يحوّل، بل يصْهَر ويذوِّب خصوصياته الفردية ويجعلها تصب في بوتقة الانصهار في الوجود المنطلق من الله وإليه، في المسيرة الكادحة والناجحة والرابحة إليه تعالى.

فيحوِّل الخصوصية الجمالية مثلاً، أو القومية، أو حتى الاقتصادية، ولو على مستوى التجمل الشخصي إلى إحساس عميق بالله سبحانه، وبتجلي نعمه وألطافه، ورعايته الربانية، ثم بقدرته، وحكمته، وعلمه، وقيّوميته.. ثم هي تؤهل الإنسان ـ من خلال ذلك ـ لسلوك طريق ذات الشوكة الموصل إلى الله سبحانه(1)، بدلاً من أن تعيقه عنه، وتثقل خطوه، وتستأثر بجهده العقلي،

ـــــــــــــــ

(1) إذ إن سواها لا يوصل إليه سبحانه، فلا يصح لأحد أن يقول: أصلي ركعتين، فذلك يغنيني عن الجهاد في سبيل الله.

فطريق ذات الشوكة هو العمل بالتكليف الشرعي الراهن مهما بلغ. وعدم تخير الأعمال عشوائياً، فإن اختيار ما سوى التكليف الراهن لا يوصل إلى الله، بل يبعد عنه، لأنه يوجب سخطه سبحانه. وبمشاعره، ثم بإرادته أيضاً.

وبكلمة واحدة، أن يصبح سلطان الهوى، والشهوة، والغريزة متناغماً ومنسجماً مع ذلك الهدف الكبير، فيميل إلى كل ما يوصل إليه، ويشتهي جميع ما يقربه منه، وينتهي به الأمر إلى أن تصبح الغريزة والهوى والشهوة كلها أيضاً في خدمة إنسانيته، وطوع إرادته التي لم تعد إرادة الفرد، وإنما هي إرادة الجماعة التي تطلقها وتحركها إرادة الله سبحانه، وليس أي شيء آخر سواها.

فإذا كانت المذاهب المادية تعمل على تأكيد خصوصية الفرد، وإثارة كوامن الأنانية، فتنتج عُجباً وغروراً وجبروتاً إلخ.. فإن الإسلام يعمل على استبدال محورية الفرد والأنا؛ ويسقط هذه التفاريق عن أن تكون سبباً في التفريق، ويصوغها من جديد، لتصبح وسيلة وسبباً في الجمع والتوحيد، ويحوّل الخصوصيات الفردية إلى روافد للخير، وحوافز للنمو والتكامل في الشخصية الإنسانية الجامعة، بعد تزكيتها وشحنها بالهدى والخير، وبالطاقات الكبيرة والمؤثرة، حتى تصبح في قبضة إرادة الإنسان، ولتكون الرصيد الذي يعتمد عليه، ويستفيد منه في سعيه وكدحه إلى الله ـ ليصبح ـ من ثَم ـ تجسيداً للإنسان الإلهي الذي هو في أحسن تقويم، ويكون الله بالنسبة إليه هو المآل والنهاية، كما كان سبحانه هو المنطلق والبداية.

وبهذه المحورية الإلهية، والبديلة عن محورية الأنا، يصبح الإنسان جامعاً لكل معاني الخير والصدقية، والواقعية، التي تستشرف كل هذا الوجود، وتهيمن عليه، من موقع الحكمة والمعرفة، والرعاية، والهدى والخير، والقوة و.. وتتكون له من ثم ـ حياة جديدة، وهوية جديدة، ولون وطعم جديدين،  وتنشأ لديه رغبات، ونزعات، وطموحات، وخصوصيات، ومزايا جديدة وفريدة أيضاً.

وبذلك فقط يُحْفَظُ هذا الإنسان من الضياع، إذ بدون ذلك سيضطر لو أنه فقد معالم شخصيته الفردية، وواجه الصراع مع نزعات وخصوصيات الآخرين الفردية المتناقضة والمتناحرة ـ نعم سيضطر ـ للانكفاء من جديد إلى أحضان الأنا، وإلى آفاق الفردية، ويصبح سجينها وضحيتها، وما أشقاه من سجين، وما أغلاه من ضحية.

 الأمن والرضا:

وهنا يحقق الإنسان أحلى أمنياته وأغلاها، وأروع أحلامه وأسناها، حيث يعيش حالة السلام والأمن في كل حياته، وفي صميم وجوده العتيد، وذلك من خلال شعوره بأن الله هو كل شيء في هذه الحياة، فهو المبدأ وهو المنتهى، ولتنعم نفسه بالرضا في ظل مصدر كل خير، وعطاء، وكل رغد ونعماء، وهو منتهى كل رغبة، وبيده ملكوت كل شيء.

ومن الواضح: أنه إذا كان الله سبحانه هو وحده مصدر كل خير وعطاء وقوة، و.. و الخ.. فإنه يكون وحده المستحق للعبادة، وهو مصدر العطاء وبه تكون الاستعانة على كل الأمور، ولا تصح الاستعانة بغيره أبداً.

وإذا كان الله هو مصدر كل خير وعطاء وقوة، فلا يملك الإنسان قوة ولا أي شيء ذاتي في نفسه خارج نطاق العطاء الإلهي، فلماذا يعجب هذا الإنسان بنفسه؟ ولماذا يستكبر؟ ولماذا يطغى؟ ولماذا؟ ولماذا؟

فالتوحيد الخالص يمنع العُجْب، ويمنع الاستكبار، وغير ذلك من رذائل.. كما أنه إذا لم يكن أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعاً، فلماذا الرياء. فالتوحيد الخالص ينفي الرياء أيضاً.

وهكذا يقال بالنسبة لسائر الرذائل التي يبتلى بها هذا الإنسان الضعيف.

وواضح: أن هذا التحرر التام هو نتيجة التوحيد الحقيقي وتأكد رسوخ أساس العقيدة بالنبوة وبالمعاد أيضاً. فإن ذلك يفرض توحيد العبادة والعبودية، وتوحيد العمل والسلوك أيضاً.

كما أن هذا التوحيد في العبادة، وفي الأفعال، يجعل هذا الإنسان أوسع أفقاً وأرحب وعياً وأعمق فهماً على الحياة، ولسوف ينتج ذلك مزيداً من التأمل ومن الفكر العميق في أسرار الحياة والخلق واستكناه الحقائق.. ثم العمل الجاد الذي يكون في مستوى هذه النظرة الشمولية والواعية.

وفي التوحيد في العبادة ربط باللانهائي واللامحدود، الذي هو مصدر كل عطاء، وهو واهب القدرات، فما على الفكر من حرج إذن، إذا انطلق ليتصل بالمحدود، ليوظفه باتجاه اللامحدود وهو الله سبحانه، وليقوم بالإنجاز الكبير الذي سيكون بحجم الحياة كلها، وهي تستشرف الخلود في الآخرة.

هذا كله بالإضافة إلى إخراج الإنسان من حالة الانعزال والانفصال إلى حالة التواصل والتعاون والمشاركة، والفهم العميق لهذه المشاركة.

ومن أجل ذلك كان التوحيد في الاستعانة معناه الحرية الكاملة والحقيقية، حيث لا يشعر أنه بحاجة إلى أحد، لأن الجميع لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. ولأجل ذلك جاءت الاستعانة مطلقة ومن دون تقييد أو تحديد.. ألا بذكر الله تطمئن القلوب..

وهذا الأمن والسلام، والرضا هو أساس الحياة، وهو المرتكز القوي والحقيقي والثابت لكل تخطيط، وعمل وبناء، ثم للوصول إلى الهدف الأسنى وتحقيق أسمى الغايات.

ويظهر بذلك مصداق قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(1).

وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(2).

توحيد العبودية والحب:

وحين نقرر: أن الله سبحانه لابد أن يكون هو المحور، وليس هو الفرد، والأنا.

فإننا نعني: أن يصبح الإنسان إنساناً إلهياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فيكون التوحيد الخالص والصافي هو المحور والمرتكز الذي يثوب إليه الناس من كل متاهاتهم.

إنه توحيد العبودية والحب، وتوحيد الولاء، والانتماء. توحيد الفطرة الصافية، والوجدان الطاهر، والضمير الحي. لا التوحيد النظري الفلسفي، الذي لا يتجاوز حدود الفكر، والتصور العقلي.

التوحيد الذي يجتذب كل روافد الخير، والحياة، والطهر في عمق وجود

ـــــــــــــــ

(1) سورة الرعد، الآية28.

(2) سورة الفجر، الآيات 27 ـ 30. هذا الإنسان، لتصب في غماره، وتندمج، وتذوب في تياره العارم، وذلك عبر المسالك الفطرية والوجدانية الصافية، التي تتجسد حركة وسلوكاً، وموقفاً , وعملاً صالحاً.

هذه المسالك والروافد، التي تتجسد في العبادات الإسلامية وفي الارتباط الروحي العميق بكل الرموز الهادية إلى الله، والموصلة إليه. وفي مقدمتها أهل البيت (عليهم السلام)، فكما تكون الكعبة رافداً إنسانياً، كذلك كربلاء، وسامراء، والبقيع، والنجف الأشرف، ومشهد، وبغداد، هي الأخرى روافد إنسانية، وشعورية، ووجدانية، ومنار جهاد..

وما ذلك إلا لأن الإسلام أراد لهذا الإنسان، أن لا يتقوقع في الزوايا والخبايا، يتلهى بعباداته الفردية، مستفيداً من ذلك للهروب والتخلي عن المسؤوليات خارج نطاق الذات والشخص.

بل أراد سبحانه له أن يتخلص من نوازع الأنا، ومن خصوصياته الفردية، وأن يكون حاضراً، ومشاركاً قوياً في متن ساحة الصراع والتحدي، التي تثير فيه كوامنه ونوازعه الفردية، عبر الاحتكاك فيما بينها. وبين ما سواها في مختلف مجالات الحياة، وفي أدق تفاصيلها، ويلاحق ويتحمل المسؤولية تجاه كل حالاتها وشؤونها.

ولأجل ذلك: نجد أن الإسلام قد أراد أن يزج بهذا الإنسان حتى في عباداته الفردية والخاصة، في أوسع مجالات الحياة، وأكثرها صخباً، حتى إنك لتجده حين يشرّع له الصلاة، يطلب منه أن يجعلها جماعة، فإن أجره وثوابه يزيد بازدياد عدد المصلين، رغم أنه ثواب على أمر لا خيار ولا اختيار له فيه.  ورد أنه (صلى الله عليه وآله) قد هدد بإحراق بيوت أناس على أهلها، لأن أهلها تركوا الصلاة جماعة.

كما أن ما يسمى بالاعتكاف ـ حسب المصطلح الفقهي ـ قد جعل شرطه الأساس أن يكون في المسجد الجامع، لا في زوايا البيوت، أو حنايا الصوامع. وما ذلك إلا لأن في أجواء الحذر والريبة، والعدوان، والخوف، والكيد والتحدي، يتم صقل شخصية الإنسان، وتظهر مواضع العوار فيه، وتسهل عليه وعلى آسيه(1) معرفة الداء، ليصف له الدواء الناجع والشافي.

وفقنا الله للسير على هدى الإسلام، إنه ولي قدير وبالإجابة حري وجدير.

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

جعفر مرتضى العاملي

ـــــــــــــــ

(1) الآسي هو المداوي. 

 


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=136
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16