• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : المقالات والأبحاث .
                    • الموضوع : من هم الخالدون ؟ .

من هم الخالدون ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

لاشك أن الخلود الحقيقي الخير المعطاء للإنسان – الفرد منه والجماعة – ليس مما يباع أو يوهب، كما أنه ليس من الأمور العفوية، ولا هو من مقتضيات الصدف وإنما هو مرهون بما يقدمه ذلك الإنسان من خدمات وما يقوم به من أعمال..

ولاشك أيضاً أن بقاء ووجود تلك الخدمات، والأعمال مرهون ببقاء ووجود الهدف الذي كانت من أجله، وفي سبيله.. وأنه كلما كان ذلك الهدف سامياً ونبيلاً كلما كان أكثر استمراراً وبقاء، وليؤثر من ثم في استمرار وبقاء تلك التضحيات والخدمات التي كانت من اجله وفي سبيله.

ومن هنا يتضح جلياً.. أن الخلود والمجد الحقيقي الخير المعطاء – لا يكون بالقوة الجسدية، كما لا يكون بجمال الوجه، وحسن التكوين، فإن ذلك وإن كان ربما يوجب مجداً وعظمة، ويعطي استمراراً، لكن هذا المجد والعظمة والبقاء متناه ومحدود قد وضع له نهاية منذ وضع له بداية، كان بدايته مع الجسد، فلا جرم أن تكون نهايته مع نهاية ذلك الجسد نفسه، وليتلاشى – من ثم – ويضمحل تبعاً لتلاشيه واضمحلاله.

وهكذا المال.. فإنه وأن كان ربما يتسبب بمجد، واستمرار، وبقاء، لكنه محدود أيضاً، حيث إنه مرهون بتلك العلقة القائمة بين المال وصاحبه – سواء جمعه صاحبه من اجل نفسه، أو من اجل نفس المال -، حتى إذا ما ذهب أحدهما – المال أو صاحبه – ذهب ذلك المجد، وتلاشى واضمحل ذلك الوجود، وانتهى ذلك البقاء.

أما إذا سخرت القوة الجسدية، والجمال، والمال في سبيل هدف إنساني سام ونبيل، فإنها ستخلد خلود ذلك الهدف السامي الذي يكمن فيه سر الخلود الحقيقي، وستستمر وتبقى تبعاً لاستمراره وبقائه.

وإذن.. وإذا لم تكن القوة الجسدية، ولا الجمال، ولا المال مهما كثر، ومهما زاد، ليس هو كل ذلك – هو سر الخلود الحقيقي، فما هو إذن ذلك الهدف السامي والنبيل، الذي يكمن فيه سر الخلود الحقيقي، والذي يجب أن نعمل من أجله وفي سبيله؟

وهل الخلود منحة من الله عز وجل، يختص بها من يشاء وينزعها عمن يشاء ليست خاضعة لسلطة البشر ولا هي تحت اختيارهم؟..

كلا.. ونعم، إنه منحة إلهية تتوج عملاً إيجابياً، ومن هنا نجد أن هذا السر قد حدده الإمام علي(ع) بكلمته الخالدة خلود الدهر، حيث يقول:

"هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر".

حيث لا يقصد من هذه الكلمة وأمثالها مما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام – لا يقصد – ذم المال وجمعه، ولا ذم المتولين.

لا.. ليس المقصود منها هذا، ولا ذاك.. حيث إن أئمتنا عليهم السلام لا يقولون لنا: إننا يجب أن لا نجمع المال، وأن أن نكافح من أجله، وأن لا نعمل في سبيله.. بل يقولون: إن المال ليس من القيمة بحيث يستحق أن نكرس له كل وجودنا، وكل طاقاتنا، وكل إمكانياتنا، بحيث يكون الهدف الأول والأخير لنا.. إنهم يقولون: إننا يجب أن نسعى وراء المال، ونجهد في سبيل تحصيله، لكن على أن يكون وسيلة لا على أن يكون غاية.

وبعبارة مختصرة: أن أئمتنا لا ينكرون أن المال ضرورة من ضرورات حياتنا، لكنهم ينكرون علينا أن نهب له كل حياتنا.

وعليه فليس مقصوده (ع) من هذه الكلمة وأمثالها إلا بيان سر الخلود والبقاء في الحياة لهذا الإنسان، وأنه هو العلم والفكر والمعرفة. لا من حيث أنه علم وفكر ومعرفة بل من حيث أن به يكون الإنسان إنساناً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وما تشتمل عليه من مداليل..

نعم.. إن الخلود والبقاء مرهون بالعلم النافع الذي لا جهل معه، والفكر المبدع، والمعرفة المعطاء.

نعم.. إن سر الخلود، هو العلم الذي يتحكم بالقوة، والفكر الذي يسير المال والمعرفة التي تفيد من الجمال.. إنه العلم والمعرفة والفكر الذي يسخر كل ذلك في خدمة ذلك الهدف العالي للإنسانية الذي يجب أن يكرس الإنسان له كل وجوده، ويمنحه كل طاقاته، ويهبه كل إمكانياته.

نعم.. إن ذلك هو الحق، إذ ما قيمة الجمال والقوة، وهما يتلاشيان، ويضمحلان بمجرد تلاشي الجسد الذي يحلان فيه واضمحلاله.. وأيضاً ما قيمة المال، إن لم يكن له عقل يحرسه، ومعرفة تدبره، وفكر يحدب عليه ويذب عنه، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال".

ومن هنا حكم عليه السلام على خزان الأموال بالهلاك حتى في حال حياتهم، حيث إن خزان المال ليس أكثر من مجرد حارس له، لا قيمة له أبداً، بل يكرهه الناس ويمقتونه.. يمقتون وجوده؛ حيث يمنعهم من الوصول لذلك المال الذي تشتهيه نفوسهم، وتطمح له عيونهم، والذي لولا وجود ذلك الحارس لأمكن أن يكون لهم، وتحت سلطتهم واختيارهم.

إن الوجود الحقيقي للمال وليس لصاحبه.. كما أن القوي ذا البطش، يكون الوجود الحقيقي لعصاه وليس له، وهكذا.. فإنه بمجرد أن يفقد هذا عصاه فسيفقد نفسه، وبمجرد أن يفقد ذاك ماله فسيفقد نفسه أيضاً.

أعود لأقول: إن من يجمع المال من أجل المال، أو من أجل نفسه، فإن الوجود الحقيقي للمال وليس له. أما هو، فإنه عدم لا وجود له، محكوم عليه بالهلاك والفناء حتى في حال حياته بمجرد هلاك ذلك المال. بل هو هالك حتى مع بقاء ذلك المال. لا يرد عنه ماله شيئاً ولا يدفع.

بل قد يسوقه نفس ماله – من حيث يعلم أو من حيث لا يعلم – إلى الهلاك والدمار والفناء، وذلك عندما يستعمله في شهواته الحيوانية، ولذاته الشخصية ومآربه الفردية، مما يعود عليه بالضرر كل الضرر، وبالبلاء كل البلاء... وكذلك عندما يسرف في إنفاقه، ويبذر فيه، حتى إذا ما فقده أحرقته نار الندم، وتلظى جحيم الحسرة، حيث لا تفيده الحسرة، ولا يجديه الندم.

بل قد يكون المال سبباً في تدمير أمم طالما عانت وكافحت، وناضلت القرون والقرون من أجل نفسها، اقتصادياً واجتماعياً، ومعنوياً؛ حيث تفقد جميع ما تملك، مهما كان عظيماً وجسيماً – تفقده – في نزوة من نزوات جهلها، وقصور نظرها، وقلة معرفتها. تسلمه – وهي من ورائه – للفناء والدمار والعدم.

وهكذا.. فإن الأمم لا يمكن أن تقاس بمقدار ما تملك من مال ونوال فحسب وإنما يجب أن تقاس بالإضافة إلى ذلك بمقدار ما تملكه من علم ومعرفة وطاقة فكرية.

وأخيراً.. هذا حال خازن الأموال فإنهم هالكون حتى في حياتهم. أما العلماء فإنهم باقون ما بقي الدهر، باقون ما دامت الإنسانية بحاجة إلى علم وفكر ومعرفة، باقون بأفكارهم، باقون بتعاليمهم، باقون بإنسانيتهم الرفيعة المثلى.

وبعد كل ما تقدم.. يظهر لنا سرّ كون "مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء".

مع أن الشهداء خالدة باقية بمقتضى قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾.

ومداد العلماء خالد أيضاً.. بل إن خلوده يفضل خلود دماء الشهداء، ويزيد عليه ؛ لأن تقديم الفكر والعلم والمعرفة في خدمة مبدأ، أو أمة، يفضل كثيراً تقديم الجسد في سبيل ذلك المبدأ، ومن أجل تلك الأمة.. لأن الجسد كالمال – وإن كان أعز من المال – لا يقدم أكثر من مرة واحدة، ولا يخدم أمته أكثر من مرة واحدة، وبعد ذلك لا يعود صالحاً للتقديم، ولا قابلاً للخدمة.

أما الفكر والمعرفة والعلم فإنه يبقى على مر الزمن قابلاً للخدمة، وصالحاً للتقديم.

نحن لا ننكر أن تقديم الجسد، وخدمة الأمة بواسطته سبيل الخلود والبقاء، لكننا نقول: إن الذي يفضل ذلك، ويزيد عليه هو تقديم العلم والفكر، والمعرفة، ووقفها في خدمة الأمة، ومن أجلها. وفي سبيل الإنسان، لا من حيث هو جسد، بل من حيث هو إنسان.

وهكذا نرى.. أن الإسلام لم يمجد ذاتاً، بقدر ما مجد فكراً تنطوي عليه تلك الذات.. وأن الإسلام لم يمجد إنساناً، وإنما مجد الإنسانية في الإنسان... فقد "هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر".

والحمد لله رب العالمين

جعفر مرتضى العاملي


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=142
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29