• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : النتاجات العلمية والفكرية .
              • القسم الفرعي : الندوات والمؤتمرات .
                    • الموضوع : فلسفة الأخلاق في الإسلام .

فلسفة الأخلاق في الإسلام

محاضرة ألقيت في أمريكا سنة 1404ﻫ في المؤتمر السنوي للجماعة الإسلامية


 بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين،

واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين..

السلام على سيدنا وإمامنا الحجة ابن الحسن المنتظر، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، عجل الله تعالى فرجه الشريف، ورحمة الله وبركاته..

جعلنا الله من أعوانه وأنصاره والمجاهدين والمستشهدين بين يديه حتى يظهر الله دينه، ويعز جنده.. إنه ولي قدير..

والسلام على إمام الأمة وقائدها، ومفجر الثورة الإسلامية في إيران، سيدنا نائب الإمام الخميني العظيم حفظه الله تعالى.

والسلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته.. وبعد..

فمن بلد الإيمان والإسلام ايران، احمل إليكم أيها الأخوة أعطر التحيات، وأعظم التهاني والتبريكات، مع المزيد من التقدير والإكبار لهذه الأرواح الصافية، والمطمئنة، ولتلك الإنسانية الرفيعة النبيلة.

أما فيما يتعلق بموضوع البحث، وهو "الأخلاق في الإسلام" فإننا نقول:

إنه لا ريب في أن كثيراً من الأعمال لها قيمة مادية، يحددها الناس والعقلاء، بملاحظة خصوصيات، وظروف معينة، تختلف وتتفاوت من عمل لآخر، ومن ظروف لأخرى.. فإذا كان العامل الذي يشتغل في البناء ثمان ساعات مثلاً يستحق بنظرهم عشر ليرات مثلاً، بحيث لو زاد عليها زيادة فاحشة عد ظالماً، أو نقص عنها كذلك عد مظلوماً.. فإن الطبيب الذي يجري عملية جراحية معقدة في وقت أقل، يستحق – بنظرهم أيضاً – أضعاف ما يستحقه عامل البناء ذاك.. وهكذا..

وفي المقابل.. فإنه لاريب أيضاً في أن بعض الأمور لا يمكن تقييمها بالمادة مهما عظمت وكثرت، ولا تكافأ ولا تعوض إلا بمثلها أو بما هو من سنخها، كالإيثار على النفس، والعفو، والتضحية في سبيل الآخرين.. فإنها لا تعوض إلا بمثلها، ولا يوازيها مال، ولا تعوضها المادة أما المكافأة على ذلك باللامبالات أو بالسوء[1].. فإنه قبيح ومرفوض من الناس كل الناس، على اختلاف اتجاهاتهم، ونحلهم، وأذواقهم..

أما إذا استطعنا التعرف على تلك الخصوصية، وعلى المنطلقات والقيم، التي تعطي لهذا العمل قيمته المعنوية، فلسوف يساعدنا ذلك على التقييم الصحيح، والتخطيط السليم في مجال العمل المنسجم، والمدروس على بعث الأخلاق في المجتمع، وتقويتها، وترسيخ قواعدها بحيث تتخذ صفة الأصالة وتساهم في الحركة، وفي الموقف، وفي صنعهما.. وإن اختلاف الأنظار في فهم ذلك يستتبع اختلافاً في مجالات العمل والنشاط، واختلافاً في التركيز على المنطلقات الضرورية، التي تساهم في دفع الإنسان ليكون عمله نبيلاً، وأخلاقياً.. الأمر الذي ربما يؤدي الخطأ فيه إلى أضرار كبيرة، وخسائر فادحة على الصعيد النفسي وفيما يرتبط بالنظام الاجتماعي بصورة عامة.. وكشاهد على هذا الاختلاف في الرأي والنظر بالنسبة للركائز والمنطلقات، الذي يستتبع الاختلاف في العمل لتقويتها وترسيخها، فإننا نشير إلى المثال التالي:

إننا نجد المسيحية مثلاً: تركز على تقوية روح الحب والعطف والحنان بين الناس، وذلك انطلاقاً من نظرتها وتقييمها للعمل الأخلاقي، ولما يرتكز عليه، ولمقاييسه ومعاييره بصفة عامة..

فالمسيحية ترى: أن كل فعل لابد أن ينشأ عن ميل ورغبة، وعاطفة، واندفاع من جهة.. كما انه لابد له من غاية وهدف من جهة أخرى..

فإن كانت الغاية للعمل والهدف هي نفس الشخص الفاعل له، كالعمل من أجل الحصول على مال أو مقام، أو نحو ذلك، فإن ذلك العمل لا يكون أخلاقياً..

وإن كان الهدف هو الغير من سائر بني البشر (الإنسان)، كان عملاً أخلاقياً.. إن كان منشؤه هو العاطفة لا غيرها من سائر الدوافع.

ولأجل ذلك تعمل المسيحية على تقوية روح المحبة بين الناس وربط الإنسان بسائر بني جنسه برباط العاطفة والحنان. كما قلنا.. ولكنهم لم يلتفتوا إلى أن نظريتهم هذه غير وافية ولا سليمة..

فإن الحب وإن كان أمراً أساسياً وضرورياً وهاماً جداً في حياة الإنسان..

وقد اهتم الإسلام به بصورة فائقة، كما يظهر من عشرات الآيات والروايات.. ولكنه ليس هو كل شيء في مجال تقييم العمل الخلقي إذ أنه:

أولاً:

إننا نجد: أن عملاً قد يكون ناشئاً عن اندفاع عاطفي، ويكون هدفه هو الغير..

ولكنه ليس أمراً أخلاقياً كالعطف على المجرمين، الذي يتبعه التدخل لمساعدتهم أو لمنع تعرضهم للعقاب الذي يستحقونه، من أمثال: يزيد بن معاوية، والحجاج بن يوسف، وصدام المجرم.. وغيرهم من الطواغيت والمجرمين..

بل إن التدخل لصالح أمثال هؤلاء يكون أمراً منافعاً للأخلاق، ومضاداً لها.. وقد قال تعالى في مقام الإشارة إلى المنع من التأثر بعاطفة كهذه.

{الزاني والزانية، فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله الخ..}[2].

ثانياً:

إنه ليس كل عاطفة تؤثر أثرها تجاه الغير، يكون ما ينشأ عنها عملاً أخلاقياً.. فإنه حتى عاطفة الام المؤثرة إنما هي ناشئة عن الإحساس الغريزي الطبيعي، الذي هو أمر غير اختياري، ويوجد حتى لدى الحيوان، من أجل حفظ الحياة والوجود، كسائر الغرائز الأخرى التي لابد منها من اجل ذلك ايضاً، مثل حب الإنسان لنفسه، وغريزة الجنس، ومثل الجمال، والقوة، وغير ذلك..

ثالثاً:

إن عاطفة كهذه قد تؤثر في اتخاذ موقف ما تجاه غير الإنسان أيضاً، فإن المنع من إطالة الأظافر حتى لا تؤذي ضرع الحيوان حين حلبه. والذي هو من تعاليم الإسلام الزاخر بأمثال هذه التعاليم. إن هذا.. لاشك في كونه عملاً أخلاقياً ونبيلاً، فلا معنى لتخصيص العمل الأخلاقي، بما كان يهدف على خدمة خصوص الإنسان..

أما " كانت " فيرى:

أن الأخلاق تنبع من ضمير الإنسان ووجدانه، فكل ما يحرك الوجدان فهو عمل أخلاقي.

وهو يقول: أن العقل العملي، والوجدان، توأمان، فالأول يحكم بحسن العمل، وأنه مما ينبغي المبادرة لإيجاده خارجاً (وهو ما يسمى بالعقل العملي). والوجدان يحرك نحو تحقيق ما يحكم به العقل العملي.. وأحكام العقل العملي هذه أحكام عامة مطلقة، فهو يحكم بحسن الصدق مطلقاً، أي أنه يكون حسناً على كل حال، وفي كل مورد..

أما العقل النظري (والمراد به: الذي يتصدى للأمور العقلية النظرية الصرفة، فيستدل عليها بالدور أو بالتسلسل مثلاً، من أجل أن تعلم، لا من أجل أن تعمل وتفعل، كما في الاستدلال على وجود الله سبحانه وغير ذلك..).

هذا العقل النظري لا وجود له عند "كانت" على الإطلاق..

ويضيف: أن الأخلاق إنما تدعو إلى الكمال، لا إلى السعادة، أي أن الإنسان يتطلب بعمله الأخلاقي الوصول إلى الكمال.. وليس ثمة تلازم بين الكمال والسعادة عنده، فقد يصل الإنسان إلى الكمال بواسطة عمل أخلاقي ما، ولكنه لا يكون سعيداً، بل يكون في ألم وعناء، وشدة وبلاء..

وهو يقصد بالسعادة خصوص اللذة والراحة الجسدية والمادية..

ولكن جميع ما تقدم مما لا تمكن الموافقة عليه بأي وجه، وذلك بملاحظة النقاط التالية:

1- إن إنكار العقل النظري ما هو إلا إنكار لأمر بديهي، إذ بهذا العقل يمكن إثبات وجود الله تعالى، وإثبات أن الإنسان مختار، وأنه مريد، وغير ذلك من أمور كثيرة وضرورية.

2- إن معنى كون الأحكام الأخلاقية مطلقة، هو أن يكون الصدق حسناً مطلقاً حتى ذلك الصدق الذي يوجب هلاك نبي أو مصلح اجتماعي كبير أو هلاك أمة بأسرها – نعم هلاكهم – بلا ذنب وبلا سبب وبفعل عمل طاغوت متجبر..

3- إن ما ذكره من عدم التلازم بين الكمال والسعادة، واعتبار السعادة، منحصرة بالأمور المادية.. لا يصح.. أيضاً..فإن لذة الروح والنفس هي اللذة الحقيقية، وهي الأبعدُ أثراً، وأكثر أصالة.. فقد يكون الإنسان معذباً جسدياً، لكنه سعيد روحياً، وهذا هو السر في أن طعم الموت يكون أحلى من العسل لدى القاسم بن الحسن، وهو ما يفسر لنا قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حينما ضربه ابن ملجم.. " فزت ورب الكعبة ".

كما أننا نجد الشباب المؤمن في الجمهورية الإسلامية يتسابقون للموت، ويرون أعلى درجات سعادتهم هو استشهادهم، حتى إن من لا ينال هذه الدرجة منهم يكون كئيباً وحزيناً وغير سعيد..

وبعد.. فإن لذة العلماء في اكتشافاتهم العلمية، وكذلك لذة العباد والزهاد في عبادتهم وتهجدهم، لا يمكن أن ينكرها أحد، رغم أنهم قد يكونون يعانون الكثير من التعب، والعناء، والجهد والبلاء الجسدي في ذلك.

بل إن نفس وصول الإنسان إلى درجة الكمال يمثل لذة روحية عالية، لا يمكن إنكارها، ولا المماراة فيها[3].

وثمة نظريات أخرى حول الأخلاق..

فإن الأخلاق عند الشيوعيين تقوم على أساس مادي بحت، إنطلاقاً مما اسموه فلسفة لهم عن الكون وعن الحياة...

وقد ناقش العلماء والمفكرون، ونخص بالذكر منهم: العلامة الطباطبائي، والشهيد الصدر، والشهيد المطهري – ناقشوا نظريات الشيوعيين هذه، وأبطلوها بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة ولم يبقوا عذراً لمعتذر، إلا من مداج أو مكابر متكبر، لا يؤمن إلا بما يمليه عليه الهوى، وتفرضه عليه الرغبات والميول..

كما أن بعض النظريات قد حاولت إنكار الأخلاق من الأساس.. وبعضها حاول إعطاءها صفة غير إنسانية.. ونحن لا نرى حاجة للتعرض لتفنيدها في عجالة كهذه معتمدين على تنبه وحصافة من يتسنى له الإطلاع عليها..[4].

ويبقى أن نشير إلى رأي الإسلام في الأخلاق فنقول:

1- إن الإسلام يمتاز بالشمولية، وبالعمق، وبأنه كل مترابط لا يتجزأ.. وهذا يعني: أن التعرف على رأيه في أية قضية كانت يتطلب جهداً خاصاً وكبيراً، ومزيداً من البحث والدراسة والتمحيص، ولاسيما إذا لاحظنا أن كلام الله سبحانه، وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الأئمة عليهم السلام دقيق وعميق، يحتاج إلى مزيد من الدقة في فهم معانيه ومراميه، حتى إن تغير كلمة واحدة في جملة قصيرة لربما يغير المعنى تغييراً أساسياً له آثاره على الصعيد العلمي بشكل واسع..

ولأجل ذلك.. ولأجل عوامل أخرى، لا مجال لبحثها الآن، نقول: إنه ليس منطقياً – إذا أردنا معرفة رأي الإسلام في قضية ما – أن نكتفي بمراجعة بسيطة وعابرة وساذجة لآية أو لحديث أو أكثر، ثم إصدار الأحكام وإعطاء النظريات والضوابط على أنها هي كل رأي الإسلام في ذلك.

فمثلاً: العفو عن الآخرين، وإن كان لا ريب في رجحانه على وجه العموم.. ولكن إذا أردنا تحري التفاصيل والجزئيات فيه، فإننا نحتاج إلى مزيد من البحث، والمزيد من الدقة في الآيات والروايات لنستخلص ممن، وعمن يكون العفو، وما هي غايته ؟

وما هي آثاره على العافي، من جهة، وعلى المعفو عنه من جهة أخرى ؟

وما هي آثار العفو على الصعيد الواقع العام ؟ وما هي شرائطه وحدوده ؟

وما هو مدى ربطه بأخلاق وخصائص الإنسان ؟

وكيف ؟

وهكذا..

ولاجل كل ما تقدم: فإننا سوف نكتفي في هذه العجالة بعرض سريع لما أمكن فهمه فيما يرتبط بالأخلاق في الإسلام.. مع تأكيدنا على مسيس الحاجة للتوفر على دراسة هذا الموضوع بشكل أعمق، وبصورة أتم وأوفى..

2- إن الإنسان في مسيرته الحياتية، وفي كل حركاته، وأفعاله، ومواقفه يحتاج إلى دافع ومحرك، وإلى هدف وغاية.. ولابد من التعرف على كلا الأمرين من وجهة نظر الإسلام أولاً..

فأما بالنسبة للهدف والغاية.. فإننا نبادر إلى القول: إن هدف الإسلام هو إيصال الإنسان كفرد، وكأمة إلى السعادة التامة والشاملة، والحقيقية، بكل ما لهذه الكلمات من مدلول ومعنى..

وهذه السعادة لا تنتهي بانتهاء حياة الإنسان في هذه الدنيا، وإنما تتجاوزها، لتكون دائمة وخالدة وأبدية، ليست الدنيا إلا مرحلة تهيؤ وإعداد لها، حيث ينتقل الإنسان منها إلى مرحلة أخرى، أكبر وأوسع تتجسد فيها إنسانية الإنسان، ليعيش واقعه وأصالته، بحيوية، وواقعية وعمق..

وفي الحقيقة: فإن هذه السعادة لا يمكن الحصول عليها إلا في ظل الرعاية الإلهية، والهيمنة والتربية الربانية، فإليه القصد، وهو الهدف والغاية، وكل شيء يجب أن يكون في سبيل الله، ولوجه الله، وباتجاه الله سبحانه، وبذلك يحصل التكامل لإنسانية الإنسان ويحصل السمو له..

﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً، فملاقيه﴾[5].

نعم.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية بنظر الإسلام. وإدراك ذلك، وإدراك كثير من خصوصياته إنما هو من معطيات العقل النظري ليس إلا..

وواضح: أن للهدف والغاية من الفعل دوراً أساسياً في كون الفعل أخلاقياً أولاً. فالعمل المعبر عن الشجاعة قد يكون لإذلال الآخرين، والتعدي عليهم، وقد يكون لإحقاق الحق، والدفع عن المستضعفين. كما أن بذل المال مثلاً، حين يقصد بها الرياء والسمعة، أو إذلال الآخرين واستعبادهم أو ليشوه حقيقة، أو ليقتل إنساناً، أو شعباً – ولذلك الكثير من الشواهد التاريخية – إنه حين يكون كذلك، فإنه يكون عملاً منافياً للأخلاق ومضاداً لها.

وأما إن كانت العاطفة جاشت بسبب رؤية عجز وحاجة وضعف الآخرين، وليس وراء ذلك أي شيء آخر، فهو من قبيل عواطف الأم تجاه ولدها حسبما قدمناه.

أما إذا كان لله سبحانه وفي سبيله، ولمحض رضاه، فإنه يكون عملاً أخلاقياً، يستحق فاعله الأجر الجميل والثواب الجزيل.. قال تعالى وهو يمدح أمير المؤمنين، والزهراء، والحسنين عليهم السلام على إطعامهم اليتيم، والمسكين، والأسير، في حين أنهم عليهم السلام كانوا بأمس الحاجة إلى ذلك الطعام حيث إنهم كانوا يصومون تلك الأيام، ولا يجدون إلا الماء ليفطروا عليه – قال تعالى: ﴿ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً، ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً، فجزاهم بما صبروا جنة وحريراً﴾[6].

وقال تعالى في موطن آخر: ﴿الذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون﴾[7].

وقال تعالى: ﴿والذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً﴾[8].

والآيات والروايات التي تدخل في هذا المجال كثيرة جداً لا مجال لإحصائها.

وبالنسبة للأمر الثاني: هو الدافع والمحرك، فإننا نقول: إن من الطبيعي أن تكون أطروحة الإسلام في مجال الدفع، وتنظيم الحركة نحو ذلك الهدف منسجمة مع نظرته تلك، ومع حجم المسؤولية التي يتحتم عليه الاضطلاع بها في هذا المجال..

الأمر الذي يعني: أنه يقيم علاقات الإنسان بالدنيا، وبكل ما يحيط به، وحتى بنفسه تقييماً صحيحاً، يعطيها حجمها الطبيعي، الذي ينسجم مع حجم الدور الذي يؤهله الله للقيام به، في مسيرته نحو هدفه الأسمى في حياته الخالدة والدائمة والباقية.

وواضح: أن الإنسان تارة ينساق نحو إيجاد فعل من نوع ما في الخارج، بدافع العاطفة، كما في اندفاع الأم لإرضاع طفلها، وأخرى ينساق إلى ذلك استجابة لأمور طبيعية، أو غريزية كداعي غريزة الجنس، أو دافع الجوع، أو العطش، أو نحو ذلك، فيأكل، ويشرب، ويمارس الجنس الخ...

وقد يكون العقل هو الذي يدرك المصلحة في عمل ما فيصدر الأمر للإرادة للتحرك نحو إيجاد ذلك الفعل، حتى ولو كان ذلك على خلاف المشاعر العاطفية، والمتطلبات الغريزية فعلاً..

فنجد الأم تقدم على إجراء عملية جراحية  لولدها ولو ببتر أحد أعضائه لتنجيه مما هو أقسى وأدهى، رغم أن ذلك لا ينسجم مع انفعالاتها العاطفية، وميولها ورغباتها الطبيعية.. وكذلك فيما يرتبط بالإقدام على شرب الدواء المر من أجل الحصول على الشفاء.

وذلك لان العقل قد أوضح لها: أن الأقرب إلى حفظ ولدها وسعادته وكماله هو هذا العمل بالذات، والشواهد على ذلك كثيرة.

وعلى هذا الأساس.. فإن العقل لابد وأن يكون هو المهيمن على جميع القرارات، والتصرفات، التي يكون الدافع إليها هو الرغبات والعواطف والنزعات الغريزية والطبيعية، فهو المبدأ، وإليه المنتهى، وهو صاحب القرار النهائي، الذي يصدر تعليماته للإرادة سلباً أو إيجاباً وعليه أن يستفيد من هذا الرصيد العاطفي، والطبيعي والغريزي – كالحب والجمال، والشجاعة والجنس، وغير ذلك – في مجال تنفيذ أحكامه، وتطبيق قراراته، التي تقوم على أساس إدراكه للواقع الموضوعي وترجيحاته فيما بين المصالح والمفاسد التي يواجهها، ويوجهها بمساعدة العقل النظري نحو الهدف الأقصى، وهو المولى جل وعلا: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾..

وأما إذا كان لابد من إطلاق العنان لتلك الرغبات والغرائز، والعواطف والميول، واعتبار الأعمال والمواقف التي تنشأ عنها – بمفردها – من الأخلاق.. فإن معنى ذلك هو أن يصير عقاب المجرمين قصاصاً حتى يزيد بن معاوية، والحجاج بن يوسف، عملاً غير أخلاقي.

بخلاف ما لو كانت الهيمنة، وكلمة الفصل هي للعقل، فإن عدم قصاص المجرم يكون عملاً منافياً للأخلاق، ومضاداً لها.. حتى إننا نجد جميع العقلاء لا يرضون عن موقف كهذا، ويقبحونه، ويقفون ضده..

وإذن.. فقد يقتل الإنسان المئات أو حتى الألف والآلاف من الأشخاص في ساعة واحدة، كما فعل رسول الله(ص) في بني قريظة ويكون عمله أخلاقياً.. ثم هو في نفس الوقت يذوب حناناً وعطفاً على من قتلهم بالذات، حتى ليعاتبه الله على شدة حزنه على أعدائه الذين أخرجوه، وحاربوه، ويبغون له الغوائل: فيقول: ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾[9]، ويقول: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم، إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً﴾[10].

وكذلك بالنسبة لمواقف الحسين عليه السلام، وتقديمه لاصحابه، وأولاده وأهل بيته ونفسه ضحايا في سبيل إعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه..

وكذلك يقال في آباء وأمهات الشهداء في الجمهورية الإسلامية المباركة..

وكل ذلك عمل أخلاقي، غايته وهدفه هو الله، ومبدؤه الفكر الصحيح وحكم العقل بحسن ذلك وجدواه..

3- ولكن.. يبقى أن نشير إلى أن هذا العقل، نتيجة لمحدوديته وقصوره، بسبب كثير من العوامل الأخرى.. قد يعجز عن إدراك كثير من الأمور والملابسات، التي لها مساس مباشر أو غير مباشر في إمكانية إصداره للقرارات أو في صحة وسلامة، واستيفاء سائر الجوانب التي لابد من ملاحظتها في القرارات الصادرة.. الأمر الذي يحتم عليه الاستعانة بمن هو أكثر إطلاعاً منه، وأكثر إدراكاً لحقيقة الظروف الموضوعية وملابساتها التي تفرض نفسها.. ومن غير الله العالم بكل شيء، والمهيمن على كل شيء، يعلم بحقائق الأمور، وبحقيقة العوامل والظروف والملابسات المؤثرة فيها، سلباً أو إيجاباً؟!

فعلى العقل بعد أن يدرك نظرياً حقيقة التوحيد، ويلم بالقدرة والصفات الإلهية، - عليه – أن يستمد من ناحية المولى جل وعلا، وأن يستعين بالوحي للوصول إلى كنه ما يعجز عن الوصول إليه لمولاه..

فإذا أمده الوحي الإلهي، فإن عليه أن يصدر تعليماته الحاسمة للإرادة لتتحرك نحو تحقيق وإيجاد ذلك الفعل لوجه الله، وفي سبيله، ولمحض القربة له سبحانه..

وهكذا.. فإنه حتى قطع يد السارق، وقتل القاتل يصير عملاً إنسانياً وأخلاقياً، إذا نشأ عن حكم العقل – ولو بمعونة الوحي – بحسنه، وبتحقق المصلحة فيه.. إذا كان تحقيقه وإيجاده بداعي القربة إلى الله، وفي سبيله سبحانه وتعالى..

وهكذا.. يتضح: أن الأخلاق لا تختص بالأفعال الراجحة، التي تتخذ صفة الرجحان من خلال تعبيرها عن السهولة في التعامل، وعن المشاعر المرهفة، والعواطف الجياشة، وما أشبه ذلك.. وإنما تشمل كل الاحكام التي توصل إلى السعادة، وإلى الهدف الأسمى الذي هو لقاء الله سبحانه. فهي إذن تشمل جميع أحكام الشرع، وتعاليم الدين حتى السياسية منها، وحتى أحكام القصاص والحدود، والديات وغير ذلك..

ويؤيد ذلك بل يدل عليه..

أ- قوله تعالى بالنسبة لقوم هود، حينما دعاهم للإيمان، والتقوى، والطاعة، وأنذرهم فكذبوه..

قال تعالى بعد عدة آيات مباركة:

﴿إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيمٍ. قالوا: سواء علينا، أوعظت أم لم تكن من الواعظين. إن هذا إلا خلق الاولين. وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم... الخ..﴾[11].

فقد كان جوابهم لهود (ع): أن الدين الذي يلزمون به أنفسهم هو دين الأولين من الآباء والأجداد، ولا يريدون التحول عنه، كما قال تعالى: ﴿أجئتنا لنعبد الله وحده، ونذر ما كان يعبد آباؤنا﴾[12] وقوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كن آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾[13].

ب- قوله تعالى: ﴿ن. والقلم، وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. إن لك لأجراً غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم. فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين﴾[14].

فإن سياق الآيات يعطي: أن المقام مقام الموازنة والمقارنة بين ما هم عليه وبين ما جاء به النبي(ص) وان النبي ليس بمجنون كما يدعون وإنما هو مدرك وعاقل، وملتفت لما جاء به.. وهذا يناسب أن يكون المراد بقوله: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ هو الدين، والنبي(ص) ليس بمجنون، ولسوف يبصر ويبصرون صحة ذلك.. والله هو العالم بالضال من المهتدي.

وليست الآيات في مقام مدح الخصال الخلقية للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وليس فيها ما يناسب ذلك وقد روى عن أبي جعفر في قوله تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾.

قال: هو الإسلام وروى أن الخلق العظيم: الدين العظيم.

وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر(ع) في تفسير الآية قال: أي على دين عظيم[15].

ج- ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، من انه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[16].. وذلك بملاحظة حصر ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، بواسطة كلمة إنما.

كما ويفهم من ذلك أن ما جاء به الأنبياء السابقون هو ذلك أيضاً.. ويؤيده أيضاً ما روى من طريق أهل البيت عنه (ص) من أنه قال: "عليكم بمكارم الأخلاق فإن ربي بعثني بها..".

والحمد لله وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطاهرين.

جعفر مرتضى العاملي


[1] ليس الاختلاف فيما بينه وبين سابقه بالذات والحقيقة إنما هو الكم والمقدار.

[2] سورة النور: الآية 2.

[3] قد استفدنا في كثير مما تقدم من بعض أفكار الشهيد المفكر الإسلامي الكبير الشيخ المطهري رحمه الله تعالى، مع بعض التقليم والتطعيم، فليلاحظ ذلك..

[4] راجع على سبيل المثال: مجلة " التوحيد "، السنة الأولى العدد الخامس.

[5] سورة الانشقاق 6.

[6] سورة الإنسان 8-12.

[7] سورة التوبة 20.

[8] سورة الأنفال 74.

[9] سورة فاطر 8.

[10] سورة الكهف 6.

[11] سورة الشعراء 135-139.

[12] سورة الأعراف 70.

[13] سورة البقرة 170 وراجع سورة المائدة 104.

[14] القلم: 1-7.

[15] راجع تفسير البرهان ج4 ص369.

[16] راجع: مقدمة كتاب مكارم الأخلاق للطبرسي ص8 سنة 1392ﻫ وسفينة البحار ج1 ص410و411.


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=275
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 04 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29