• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : الأسئلة والأجوبة .
              • القسم الفرعي : الأسئلة الإجتماعية .
                    • الموضوع : انفرد بسرك .

انفرد بسرك

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

سماحة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي دام ظله الوارف تحية طيبة.

ماذا أراد أمير المؤمنين «عليه السلام» من قوله: «انفرد بسرِّك، ولا تودعه حازماً فيزل، ولا جاهلاً فيخون»؟!

والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته..


الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد..

فإن هذه الفقرة يمكن أن تشير إلى العديد من الأمور، لعلنا نستطيع عرضها ضمن النقاط التالية:

«انفرد بسرِّك، ولا تودعه حازماً فيزل، ولا جاهلاً فيخون»(1).

1 ـ يبدو لنا: أن المقصود الأساس من هذه الكلمة هو معالجة حالة تواجه صاحب السرّ عادة، وقد ينخدع بها، فيقع في المحذور الخطير، والضرر الكبير، لأن السر على نحوين، فهو قد يكون مرتبطاً بالشأن العام كله، أو في بعض مفاصله الحساسة، ويُشَكِّل إفشاؤه خطراً، وإخلالاً  يصعب احتماله، أو تجاهله، أو التساهل فيه..

وربما أدى إفشاء سر من هذا القبيل إلى إلحاق الضرر والأذى بصورة وبأخرى بكل فرد فرد من الناس الذين يشكلون البنية العامة، ويعدُّون من مداميكها ومكوناتها.

وقد يكون مرتبطاً بالأفراد أنفسهم بصورة مباشرة، من حيث علاقته بحدود شخصية الفرد ومكوناته التي تبرز وجوده العيني، كعنصر حي يتشارك مع الآخرين في بلورة حركة مؤثرة في محيطه، ثم تتفاعل وتتنامى باطراد.

2 ـ ولأجل خطورة إفشاء السر أمر «عليه السلام» الفرد أولاً وبالذات بالانفراد بالسر، ولم يخاطب الجماعة، لأن الإنسان يتراخى فيما يرتبط بالشأن العام، لأنه يرى أنه لا يعنيه، ولا يجد في نفسه حرصاً على صيانته وحفظه. إلا إذا استطاع أن يحوله إلى أمر شخصي، ويقطع صلته بما وراء ذلك..

3 ـ وهذا بالذات هو ما فعله أمير المؤمنين «عليه السلام»، حيث كشف للفرد هنا: أن الشأن العام، ينتهي إلى أن يصبح أمراً شخصياً بكل معنى الكلمة، فلا بد أن يتكفل الفرد بحفظه، ويهتم بتدبيره.

فلكي تتبلور لدى الأفراد الرغبة الجامحة بالقيام بهذا الواجب، خاطب «عليه السلام» كل فرد بقوله: «انفرد».

ثم نسب السر إليه بضمير المفرد المخاطب، فقال: «انفرد بسرك»، لكي يشمل بكلامه السر الذي يرتبط بالشأن العام، والذي يرتبط بالأشخاص، لأنهما يؤولان معاً إلى الأشخاص أنفسهم في كلا الحالتين. مما يعني أنه لا بد للأفراد من الحفاظ على السر، لأنه يعنيهم على كل حال.

وهذا هو سبب مجيئه بكاف الخطاب للمفرد في كلمة «بسرك»، بعد أن أسند الإنفراد إلى ضمير المخاطب المفرد الذي لا يشاركه غيره..

4 ـ لم يقل «عليه السلام»: انفردوا بسرِّكم، لأن هذا التعبير ليس فقط قاصراً عن أداء المعنى المقصود. بل هو يوصل إلى ضد المراد. حيث يفهم منه أن هذا السر مشترك بينكم كجماعة، فلا مانع من أن يطلع بعضكم بعضاً عليه، إذ يكفي أن يكون محجوباً عن طائفة الأعداء.

وهذا المعنى فاسد ومرفوض جزماً، وهو عكس مقصوده «عليه السلام»، لأنه يريد بكلمته هذه أن يحذرنا من الوقوع في هذا الخطأ القاتل بالذات.

5 ـ إن الإنسان الذي يكون السر في حوزته يجد في نفسه ـ في العادة ـ حافزاً قوياً ورغبة جامحة للبحث عمن يحمل عنه عبء سره هذا. فهو يتلمَّظ ويتحفز، ويبحث في كل اتجاه، ويجول ببصره هنا وهناك، ويعيش الضيق والقلق، حتى يجد من يبوح له بما عنده..

ونحن نقرأ عن بعض السابقين أنه كان يذهب إلى بئر، ويضع رأسه في فوهته، ويبدأ بالبوح له بما في نفسه، ويجعل هذه الطريقة الإيحائية لنفسه من موجبات راحتها، والتنفيس عنها، ووقاية لها عن أن تبوح بسرها إلى من ربما لا يكون أهلاً لذلك.

6 ـ ومن أهم الأوهام التي تهون على صاحب السرّ البوح به: أنه يحسب أن سره سيحفظه له أحد رجلين.

الأول: الرجل الحازم، وهو الضابط للأمور، الذي لا يقدم على أمر إلا بعد وثوقه بصحته، وصلاحه.

الثاني: الرجل الجاهل والضعيف البصيرة بالأمور، ولا يعرف أولها من آخرها، وباطنها من ظاهرها، فيظن أن هذا الجاهل لا تتبلور لديه رغبة في الخوض في هذا السر وكشف أغواره ما دام لا يدرك أبعاده، ولا يعرف دقائقه ومناشئه.. فإذا أخذ منه عهداً بعدم البوح به، فإنه سيفي بعهده، لأن ما أودعه عنده لا يعنيه، ولا يحسن الاستفادة منه.

7 ـ يقول الإمام «عليه السلام» لمن يفكر بهذه الطريقة: إنه تفكير عقيم، ورأي سقيم.

فأولاً: إن حزم الحازم لا يمنع من عروض الغفلة له، وصدور الزلل منه. فإن حزمه قد يقلل من نسبة الخطأ لديه فيما يفكر ويتأمل فيه، ويرى أنه مطالب بإتقانه، والإتيان به على الوجه الصحيح..

ولكنه لا يرى أنه مطالب بالتدقيق والتأمل في السر المودع عنده، ولا يكون في العادة مسؤولاً عنه، ولا مطالباً بأي شيء تجاهه.

فهو بالنسبة إليه أمر مهمل وعابر، لا يوليه اهتمامه، ولا يتأمل في موارده ومصادره.

وإذا فطن لوجوده في زاوية من زوايا ذاكرته، فإنه قد ينسى ما لا يكون جزءاً منه، ويحتفظ به مجرداً عن أية هوامش رافقت إيداعه لديه. بل قد لا يلتفت إلى كونه سراً عليه أن لا يفشيه، فيتعامل معه كمعلومة لديه، ضمن ركام كبير من المعلومات الأخرى التي لا ربط لها به، فلماذا لا يتسلى بتداوله لتمضية وقته، أو للتفاخر به أمام جلسائه. ويظهر نفسه أنه إنسان متميز على جليسه بمعرفته بالعجائب والغرائب؟!

ولكن بعد أن تكون الواقعة قد وقعت، قد يندم هذا الحازم إذا التفت إلى أن ما باح به لم يكن مجرد ركام من المعلومات اختزنته ذاكرته.

ولكن ندمه هذا لا يجدي، وحسرته لا تفيد.

فما أسرع ما يتلاشى الندم، وتزول الحسرة، ويبقى الضرر ماثلاً للعيان، يعاني منه نفس ذلك الذي أودع عنده سره.

ثانياً: إن جهل الجاهل، وعدم قدرته على تحليل معلوماته وعجزه عن تسويقها لا يعني أنه سوف يفي بوعده، ولا يخيس بعهده، بعدم البوح بها، لأن نفس جهله هذا سوف يهوِّن عليه خيانة العهد، وخُلف الوعد، ما دام أنه ليس ممن يضع الأمور في مواضعها، ولا يعرف قيمة الوفاء، ولا يدرك عواقب الخيانة.

ولاسيما إذا كان جهله قد أثر أيضاً على درجة مراعاته للأحكام، ودقة التزامه بفعل الواجب، واجتناب الحرام.

وقد يندفع نحو الخيانة إذا وجد ما يشجعه علىها، فيبيع الأسرار التي لديه بأرخص الأثمان، إن عرف أن بإمكانه أن يحصل على ثمن.

بل قد ينساق إلى البوح بها تحت تأثير بعض التشجيعات الفارغة، وتأثراً ببعض أساليب الاستدراج الذكية، أو انسياقاً مع بعض المغريات والمظاهر والشكليات التي يتحفه بها الباحثون عن أسرار الناس للكيد لهم من خلالها.

فيبوح لهم بما لديه ليحصل ليس على المال، وإنما على إطراء فارغ، وثناء خاوٍ، وكلمات جوفاء، أو وعود ليس لها وفاء.

ويحق لنا أن نقول لمن أودع سره عند هذا الجاهل حين تحيق به المصائب والبلايا حين ينكشف أمره، ويهتك ستره: «على نفسها جنت براقش».

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

جعفر مرتضى الحسيني العاملي


 (1) شرح نهج البلاغة للمتزلي ج20 ص327 الحكمة رقم 747.


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=318
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 07 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29