• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : الكتب .
                    • الموضوع : مقالات.. ودراسات .

مقالات.. ودراسات

1ـ إبراهيم (عليه السلام) يذبح ولده

2ـ كيف نفهم الموت والشهادة

3ـ آسية بنت مزاحم نموذج المرأة المجاهدة

4ـ أثر العترة في بقاء الإسلام

5ـ المرجعية الرشيدة: اتجاه واحد

6ـ الترجمة والتعريب

7ـ الباحث التاريخي

8ـ تساؤلات حول ظهور القائم الحجة (عجل الله فرجه) وعلامات آخر الزمان

 


/صفحة 1/

مقالات.. ودراسات

/صفحة 2/

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

الطبعة الأولى

1424هـ . ـ 2003م.

المركز الإسلامي للدراسات

/صفحة 3/

مقالات.. ودراسات

السيد جعفر مرتضى العاملي

المركز الإسلامي للدراسات

/صفحة 4/

بسم الله الرحمن الرحيم

/صفحة 5/


المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين..

وبعد..

فإن هذا الكتاب قد اشتمل على بحوث ودراسات مختلفة نعتقد: أنها قد تكون مفيدة لكثير من القراء الأعزاء.. واعتقادنا هذا هو الذي دعانا لنشرها، سائلين المولى جل وعلا أن يجعل ثوابها لشهداء الإسلام الأبرار، إنه ولي قدير..

والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله..

حرر بتاريخ 20/11/1423هـ . الموافق 24/1/2003م.

عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)

جعفر مرتضى العاملي

/صفحة 6/

/صفحة 7/

القسم الأول:

إبراهيم (عليه السلام) يذبح ولده

دقائق.. وحقائق

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات الكريمة:

إن الله سبحانه وتعالى قد وهب لإبراهيم ولده إسماعيل (عليهما السلام) بعد أن طعن في السن. وبلغ من الكبر عتياً، قال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}(1).

وحين جاءت الملائكة إلى إبراهيم (عليه السلام) بالبشرى فوجل منهم: {قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ

ـــــــــــــــ

(1) سورة إبراهيم، الآية 39.

/صفحة 8/

تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}(1).

وكان الفاصل بين البشارتين بإسماعيل، وبإسحاق (عليهما السلام) خمس سنوات، وذكرت الآيات البشارة بإسحاق (عليه السلام) مصرحة بشيخوخة إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}(2).

وقال تعالى: {قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}(3).

ولما كبر هذا الولد، وصار يذهب ويجيء أمر الله أباه بذبحه. قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ

ـــــــــــــــ

(1) سورة الحجر، الآيات 53 ـ 55.

(2) سورة هود، الآيات 69 ـ 72.

(3) سورة الذاريات، الآيات 28 ـ 30.

الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}(1).

وقد كانت قضية الذبح هذه هي البلاء المبين، الذي بيَّن وأظهر حقيقة إبراهيم (عليه السلام) وكانت هي الكلمة الأكثر صراحة وإيضاحاً لاستحقاق إبراهيم (عليه السلام) لمقام الإمامة، الذي أعطي له بمجرد أن قام بهذا الأمر العظيم..

قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(2).

طريقة التعاطي مع هذا الحدث:

إننا قبل أن ندخل في البحث نذكّر القارئ الكريم بأننا سوف نجري الحديث فيه وفقاً للنظرة العادية للأمور، وبغض النظر عن مقام الاصطفاء الإلهي، وعن مرتبة النبوة، لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).. ولذلك فإن تعابيرنا عن مقاصدنا سوف تكون في هذا السياق.. فليلاحظ ذلك..

الوليد الجديد والوحيد:

إن من يقضي عمره بلا ولد، ويبلغ سن الشيخوخة.. ثم يولد له، فإن تعلقه بولده سيكون أشد من تعلق الناس بأبنائهم، حين يولدون لهم وهم في سن الشباب. فكيف إذا كان هذا الولد وحيداً لأبويه الطاعنين في السن، فإن الحب له سيكون مضاعفاً، والالتذاذ بالنظر إليه والتعاطي معه، والاهتمام بالحفاظ عليه حتى من النسيم العابر، سيكون أعظم بكثير مما لو

ـــــــــــــــ

(1) سورة الصافات، الآيات 102 ـ 107.

(2) سورة البقرة، الآية 124.

/صفحة 10/

لم يكن وحيداً. والأنبياء أرق الناس طبعاً، وأرهف حساً وأكثر حناناً وعطفاً..

ومن الواضح: أن هذا الحب العارم، وذلك التعلق الشديد سيكون حافزاً إلى بذل عناية أكبر في تربيته تربية صالحة، ومراقبة كل حركاته وسكناته، وتوجيهها بالاتجاه الصحيح والسليم..

فإذا كان هذا المربي هو أعظم الأنبياء وأفضلهم ـ بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ـ وكان الطفل هو إسماعيل (عليه السلام) الذي كانت طفولته طفولة نبي، وهي أرقى وأكمل وأنبل وأفضل طفولة.. فإن تجسد معاني النبل والفضل والكمال الفائق فيه، سيزيد من حب إبراهيم (عليه السلام) له، لأن إبراهيم (عليه السلام) هو أفضل من يدرك بعمق وبوعي قيمة تلك الميزات والخصائص، ويعرف آثارها.. وهو أكثر الناس حباً لها، وانجذاباً إليها، وتفاعلاً معها، وتفانياً في سبيلها، وقد نذر نفسه، وكل وجوده وحياته بالدعوة إليها وإيجادها، ونشرها وترسيخها في الناس، ولتكون هي وعيهم، وفكرهم وحياتهم وسلوكهم، وممارستهم، وكل وجودهم.

ثم إن الإنسان يحب ثمرات جهده، ويميل إليها مهما كان حجمها ونوعها..

وخلاصة القول: أن الإنسان العادي يحب تلك الصفات، وينجذب إليها، فكيف بالنبي، وكيف بشيخ الأنبياء، وأفضلهم بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)..

وها هي تتجسد بأجلى وأتم مظاهرها بولده الوحيد الذي جاءه بعد أن طعن أبوه في السن، وكبرذلك الولد أمام عيني أبيه، الشيخ الكبير، فلا غرو في أن تبلغ محبته له أعلى الدرجات، وأقصى الغايات..

/صفحة 11/

عنفوان الطفولة:

يضاف إلى ذلك كله: أن للطفولة حالاتها، ومزاياها التي تتنوع بواعث الانشداد والانجذاب فيها، وذلك من خلال الحركات واللفتات التي يسجلها الطفل في حركته..

فإن الأب سيلتذ بعنفوان الطفولة، ولمحات الوعي، ولمعات الذكاء، ولفتات الجمال. وسيكون أكثر التذاذاً وهو يراقب ويتلمس الميزات والمواصفات الإنسانية، وهي تتنامى في شخصية هذا الطفل العزيز ـ إسماعيل (عليه السلام) ـ بصورة غير عادية وغير مألوفة، لأنها ميزات طفل يعده الله سبحانه لمقام النبوة.

وكان إسماعيل (عليه السلام) يسجل تصرفاته، فتأتي غاية في الدقة، والصحة، وبالغة الانسجام مع مرادات وأهداف أبيه النبي صلوات الله وسلامه عليهما..

وسيجد والده الذي يعرف قيمة هذه الميزات، وبواعث تلك الحركات والتصرفات، التي له تعلق خاص بها، سيجد في نفسه المزيد من التعلق بهذا الطفل، وسيتأكد حبه وإعزازه له..

إن الإنسان له تعلق بولده حتى لو كان طفلاً عادياً، بل حتى لو كان عاقاً له، فكيف إذا كان في أعلى درجات البر به، جامعاً لأسمى المواصفات وأغلاها، وأنبلها وأسناها. إنه سيحافظ على هذا الطفل كأعظم ما يكون الحفاظ.. وسيكون ضنيناً به حريصاً عليه كل الحرص.. وقد قال علي (عليه السلام): بني وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني.,

حالات مؤلمة:

ولنفرض أن هذا الطفل بكى ـ ولو في أيامه الأولى ـ وقبل أن يزيد التعلق

/صفحة 12/

به.. فإن والده سيبادر إلى البحث عن سبب بكائه، هل هو العطش، أو الجوع، أو الألم، أو الضجر، أو أي شيء آخر.. فإذا مرض هذا الولد، فإن همه واهتمامه به سيزداد.. وسوف تثور المخاوف في نفسه، وتزدحم البلابل في صدره.

فإذا كان المرض خطيراً، أو إذا فقد بعض أعضائه كعينه أو رجله، أو يده، فكم سيكون هم أبيه وتألمه وأسفه عظيماً لأجله..

فإذا مات، فكم سيكون عليه هذا الحدث صعباً ومؤلماً..

وإذا مات مقتولاً.. فإن الألم يكون أشد، أما أن يذبح كما يذبح الكبش، فاللهفة عليه ستصبح أعظم.. فكيف إذا كان ذلك أمام عينيه.. فإن القضية ستكون أقسى والانفعال أبين..

وقد يتفق أن يكون الأب سبباً في قتل ولده هذا الحبيب عن غير عمد منه، كما لو صدمه بصورة عفوية في سيارة مثلاً، أو في أية وسيلة أخرى، فكم ستكون حسرته عليه، وكم سيظهر من التلهف والأسى والحنين إليه؟!

الامتحان الصعب:

ولنفترض أنه قد تحتم على إنسان مّا أن يقتل ولده ليدفع شره عن نفسه، أو في فورة غضب طاغية، حيث يكون ذلك الولد قد بالغ في العدوان على ذلك الوالد، وفي الإجرام في حقه.. ألا تتوقع أن يختار طريقة المفاجأة والسرعة، وأن ينهي الأمر بطريقة عشوائية، ليتخلص من الحرج، ومن الكابوس الصعب الذي يواجهه، إنه سيفعل ذلك بالتأكيد، بكثير من الارتباك، والعصبية، والانفعال. فكيف تكون الحال لو كان ذلك الولد باراً بأبيه وقد ظهرت فيه أمارات التميز، وتبلورت في شخصيته دلائل النبوغ والتفوق، فإن

/صفحة 13/

إقدامه على قتل ولده سيكون أقرب إلى المحال. لا سيما بعد أن عاش معه ردحاً من الزمن، وتلمس ميزاته، وألِف حركاته، وتجلت له كمالاته.. ولن يخبر ولده بالأمر، لأنه سيرى أن ذلك يزيد في ألم ذلك الولد وفي حيرته، وسوف يزيد انتظار ولده للذبح من آلام ذلك الوالد، ومن صعوبة تنفيذ المهمة التي تواجهه..

فكيف إذا كان لا بد له أن يقتله بطريقة الذبح، وبيده، وبسكينه. كما حصل لإبراهيم (عليه السلام).

وقد واجه إبراهيم (عليه السلام) هذا الأمر الإلهي بالذبح ـ نعم.. الذبح لا مجرد الضرب أو الطرد ـ بصبر وأناة، وتصدى لامتثال أمر الله سبحانه بكل رضا وثبات، وعزيمة وإصرار.

ولم نجده أفسح المجال لأي احتمال أو وهم يراود نفسه، فيما يرتبط بجدية هذا الأمر، وأنه إنما جاء عن طريق الرؤيا، ولم يتساءل عن أسبابه، فلعله يقدر على إزالة تلك الأسباب..

من المعلوم: أن الأنبياء هم أكمل البشر في إنسانيتهم، وأصفاهم نفساً، وأشدهم إحساساً. ونفوسهم تزخر بالعواطف النبيلة، ومشاعر الحب الجياشة. وهم في منتهى الرقة على بني الإنسان، فكيف إذا كان هذا الإنسان طفلاً، وكيف إذا كان في مستوى نبي هو إسماعيل (عليه السلام)..

إن هذه الخصوصيات التي بيناها تعطينا القيمة الحقيقية لامتثال الأمر الإلهي لإبراهيم (عليه السلام) بالذبح لولده إسماعيل (عليه السلام) كما أنها تعطي أيضاً قيمة كبرى لإيمان إبراهيم (عليه السلام) الذي أوصله إلى درجة الرضا، بهذا الأمر، والاندفاع

/صفحة 14/

إليه، رغم كل هذا الإحساس المرهف، وكل هذه العاطفة الجياشة، التي يغذيها إدراك عميق لقيمة مزايا إسماعيل، ومعرفة حقيقية به (عليه السلام)..

التصعيد ورفع مستوى الابتلاء:

ومما يرفع من مستوى وقيمة ما فعله إبراهيم (عليه السلام)، أن كل هذا الذي لم نستطع أن نصفه إلا بهذا المستوى الباهت والمحدود: قد أضيف إليه أن إبراهيم (عليه السلام)، رغم ذلك كله، لم يله عن مسؤوليته ودوره تجاه ولده الوحيد حتى في هذه اللحظات الحرجة، حيث إنه قد بادر إلى رفع مستوى الابتلاء، إلى أقصى درجاته، فلم يندفع لتنفيذ الأمر على حين غفلة من إسماعيل (عليه السلام).. بل هو قد أخبر ولده بالأمر، وطلب منه أن يرى رأيه.. فإن ذلك يعني:

1ـ إنه (عليه السلام) لم يفرض قراره على ولده، ولم يكرهه على القبول به.. بل هو لم يمارس أي نوع من أنواع الإيحاء، ولو بإظهار الميل إلى هذا الخيار أو ذاك..

2ـ إنه (عليه السلام) قد أراد بذلك أن ينيل ولده أجر الطاعة لله سبحانه في مثل هذا الأمر العظيم، الذي يستهدف حياته بهذه الطريقة الغريبة والصعبة، وهو صبي في مقتبل عمره، ينفر نظراؤه من كل ما يعكر عليهم صفو الحياة، أو يصدّهم عن اهتماماتهم الطفولية، وعن ممارسة ما يبعث في نفوسهم المزيد من المرح والابتهاج.

نعم .. إن إبراهيم (عليه السلام) لا يسعى لتخفيف الآلام عن نفسه، بل هو يسعى لاكتساب المزيد من ثواب الله سبحانه، حين يعرّض نفسه للمزيد من الآلام في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى..

3ـ أن يجعل من هذا التكليف وسيلة لتنمية الملكات الإيمانية، وإعطائها

/صفحة 15/

المزيد من القوة والعمق في داخل نفس إسماعيل (عليه السلام).

4ـ ثم هو إعلان للبشرية جمعاء أن ذبح ولده لا يمثل عدواناً عليه، وإنما هو طاعة لله، يشتركان معاً فيها عن رضا وعن اختيار..

5ـ وهو أيضاً بيان للأمثولة، والقدوة، والأسوة للناس.. بصورة عملية وفعلية، وعدم الاكتفاء بإصدار الأوامر والنواهي، على سبيل التنظير للآخرين..

6ـ ثم إن ذلك يبين ويظهر دراية، وعقل، وسمو نظر، وعلو مقام إسماعيل (عليه السلام)، وحقيقة ملكاته، التي أوصلته إلى هذا المدى البعيد من المعرفة بالله سبحانه، ومن الرضا والانقياد والطاعة له سبحانه، وهو لما يزل طفلاً، قد بلغ السعي لتوه.. وهو يستقبل الحياة بكل عنفوانها، وهي تبتسم له، وتعرض نفسها عليه بكل مباهجها، وإذ به يزهد بها، ويعرض عنها، لأنه إنما يريدها ويطلبها لله، ولا يريدها لأنها تستحق أن تطلب وتراد..

وذلك يجعلنا نفهم بعمق طهر إسماعيل (عليه السلام) وصفاء نفسه، ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله، وصبره على أعظم البلاء في سبيل رضاه جل وعلا..

يَا بُنَيَّ:

وإذا أردنا أن نستنطق كلمات الآيات المباركة نفسها، فإنها تقول: {قَالَ: يَا بُنَيَّ}.

وهي كلمة تنضح بالعاطفة، وتفيض بالحب والحنان ـ يا بني ـ هذه الكلمة الحنونة، تفهم إسماعيل (عليه السلام) أن أباه حين يقدم على هذا الأمر العظيم،

/صفحة 16/

فإن ذلك ليس لأنه كان غاضباً عليه، أو منزعجاً منه إلى الحد الذي أخرجه عن حالة التوازن، بل هو بكامل وعيه، وتبصره، وهو راضٍ كل الرضا عن ولده.. ومشفق وحدوب عليه.

وهذا أيضاً يطمئن إسماعيل إلى أنه يستطيع أن يختار ما يشاء، من دون أي إكراه أو قهر، ومن دون أن يشعر بأي حرج من ذلك الاختيار. وربما يكون شعوره بهذا الحنان من أبيه مشجعاً له على اختيار ما ينسجم مع عاطفة أبيه، وحبه ورضاه..

لإسماعيل (عليه السلام) الخيار:

ثم إنه حين قال له: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} قد أعلمه أن الرؤيا مستمرة، ولم تنته، وأنه إنما رأى خصوص عملية الذبح، وهي ترتسم على صفحة الوجود بصورة تدريجية، وهذا يشير إلى أنه لم ير أن الذبح قد اكتمل وانتهى..

نعم.. لقد أعلمه بذلك ثم قدم له فرصة لاختيار ما يروق له، ولم يحرضه على أي من الأمرين، بل هو قد يسّرهما معاً له.. وهوّنهما عليه، بالحديث عن أن الأمر لا يعدو أن يكون رؤيا منام، مما يفسح له المجال أمام اختيار الرفض، إذا أراد اعتبار القضية مجرد رؤيا، قد تكون بسبب حديث النفس بالأمر بالنهار، فيراه في منامه ليلاً.. وذلك يفسح المجال أمامه لكي يحتمل أنها رؤياً غير ملزمة له. وكما أن إبراهيم (عليه السلام) لم يشعره بوجود إلزام في البين، فلم يقل له: إني ملزم بقتلك، ليجد إسماعيل (عليه السلام) نفسه محرجاً أمام والده..

ومن جهة ثانية: إن تكليف الأب بأمر ليس بالضرورة أن يكون ملزماً للابن.. فكيف إذا كان مجرد رؤيا ومنام؟!

/صفحة 17/

ومن جهة ثالثة: يلاحظ هنا: أنه (عليه السلام) لم يقل لإسماعيل (عليه السلام): قد أراني الله في المنام ذلك. كما أنه لم يقل له: إن الله أمرني أن أذبحك، بل قال له: أرى في المنام أني أذبحك، فنسب الرؤيا إلى نفسه. وذلك كي لا يحرجه بأية إلماحة إلى وجود قرار إلهي بذلك.. بحيث يكون ذلك سبباً في ميله نحو الخيار الأصعب.

ومن جهة رابعة: فإنه قد صرح له بأنه غير ملزم بقبول أي من الخيارين حيث قال له: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} في إشارة واضحة أيضاً إلى ثقة إبراهيم (عليه السلام) بحسن اختيار ولده. وبصحته وصوابيته.. وذلك حين أعطاه القيمة والدور الحاسم.

وبعد ذلك كله.. فإن ذلك الاختيار التاريخي سوف يبين قيمة إسماعيل (عليه السلام)، ويظهر حقيقة مزاياه..

إسماعيل (عليه السلام)، يلزم أباه بالإقدام:

وقد أفهم الأب ولده بأن الأمر ليس مفروضاً عليه.. ولكن الابن يصر ويدفع بالأمر إلى حد إلزام الأب بالإقدام على ذلك الأمر العظيم. فلم يقل إسماعيل (عليه السلام) لأبيه: هذه رؤيا.. ولا قال له: أنت حر في أن تفعل أو لا تفعل.. كما أنه لم يطلب منه أن يتريث في الأمر، انتظاراً للبداء الإلهي مثلاً..

بل هو قد طلب منه بصورة الحتم والجزم.. فقال: {افْعَلْ}.

ولكن ذلك لا يلغي احتمال أن يكون إسماعيل (عليه السلام) قد قال ذلك لا عن رغبة في حصول الفعل، بل مجاراة لأبيه، وحباً بإرضائه، فأتْبَع ذلك بالإلماح إلى ضرورة، وحتمية، أن يفعل، حين قال له: {مَا تُؤْمَرُ} ولم يقل له: افعل وفق ما رأيت في منامك..، فهو بقوله هذا قد قدم له المبرر بل قدم له الدليل والسبب الذي يحتم عليه الإقدام، وهو وجود أمر إلزامي، لا بد لإبراهيم (عليه السلام)

/صفحة 18/

من امتثاله، فألغى بذلك أي احتمال في أن تكون رؤياه غير ملزمة له.

كما أنه لم يقل له: إفعل ما يطلب منك. إذ قد يتخيل أن الطلب قد يكون إلزامياً وقد لا يكون كذلك..

كما أنه لم يقل له: إفعل ما يحبه الله تعالى، لأن الحب أيضاً قد لا يصل إلى درجة الحتم والجزم.

إختيار إسماعيل (عليه السلام) شرط للإلزام:

والأمر المتوجه إلى إبراهيم (عليه السلام) بالذبح، مشروط في بلوغه حد الإلزام بقبول واختيار وموافقة إسماعيل (عليه السلام)، أما لو اختار أن يرفض ذلك، فإن الأمر يسقط عن إبراهيم (عليه السلام) والشاهد على ذلك إرجاعه الأمر إلى إسماعيل (عليه السلام) في قوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}.

أما إسماعيل (عليه السلام) نفسه، فإنه ليس ملزماً باختيار هذا الطرف أو ذاك. واختيار أي منهما لا ينقص من مقامه، ولا يوجب له أي مشكلة. وإن كان يحرمه من مقامات أجل وأسمى..

وعلى هذا الأساس وإذا كان تكليف إبراهيم (عليه السلام) متوقفاً على ما يختاره إسماعيل (عليه السلام).. فلو أن إسماعيل (عليه السلام) أرجع الأمر إلى أبيه، فقال له: إفعل ما بدا لك مثلاً.. فإن بإمكان إبراهيم (عليه السلام) أن يعتبر نفسه نائباً ووكيلاً عن ولده، ويجد نفسه ملزماً باختيار ما يرى أنه من مصلحة إسماعيل (عليه السلام) وهو الحياة, فيختار ذلك له.. ويكون معذوراً في هذا الاختيار، بل يكون ملزماً بهذا الاختيار دون سواه.. لأنه إنما يفعل ذلك من موقع النيابة التي تفرض مراعاة مصلحة المنوب عنه.

وفي جميع الأحوال فإن إسماعيل (عليه السلام) قد ألغى ذلك كله، من خلال

/صفحة 19/

كلمة {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}.

وقد أكد ذلك بالإشارة إلى أنه لا يقول له هذا عن ضيق بهذا الأمر، ولا يجد فيه أية غضاضة، ولا يلمح فيه أية قسوة، بل هو ـ مع ذلك كله ـ يراه الأب الرحيم الرؤوف المحب، الذي يتعامل معه من موقع الأبوة الحانية العطوفة، فقال له:

أولاً: {يَا أَبَتِ..}. وهي كلمة تنضح بالمحبة والولاء، والانقياد، والطاعة والرضا، وبالثقة بأبوته الحكيمة والمدبرة، والحانية، التي تتحمل مسؤولياتها بكل أمانة والتزام..

وهنا تكمن عظمة إسماعيل (عليه السلام)، في اختياره الحكيم، والذي لم تتدخل فيه أي من العوامل غير الإلهية.. مع أن الباب كان مفتوحاً أمامه على مصراعيه، ليبعد هذا الأمر عن نفسه، وإذا به يظهر الإصرار على أبيه بهذا المستوى. لا يختار إلا طريق ذات الشوكة، لنفسه ولأبيه، رغم أن رفض إسماعيل (عليه السلام) لو حصل لأسقط التكليف عن إبراهيم (عليه السلام)..

وعلى كل حال، فقد أكد إسماعيل (عليه السلام) هذا الإصرار، وهو يهون هذا الأمر على أبيه، لكي لا يجد كبير حرج في الإقدام عليه، حين قال له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}..

ولا شك في أن موقف إسماعيل (عليه السلام) هذا سيزيد من تعلق والده به، ومن صعوبة التخلي عنه، فكيف إذا كان هذا الأمر ـ القتل ـ سيتم على يديه، وبصورة مؤلمة لقلبه، وهي القتل بطريقة الذبح، التي هي ممارسة فعلية، وعن التفات، ومع رؤية بصرية لأمر هو بنفسه بالغ الصعوبة على النفس، حتى في حق غير البشر،

/صفحة 20/

فكيف إذا كان بحق الإنسان، وبحق الولد، وبحق إسماعيل (عليه السلام) بالذات ومع التفات إسماعيل (عليه السلام)، ومع اختياره ورضاه؟!

حضور الله في القلب:

ولمزيد من التوضيح، نقول: إن الإقدام على أي عمل يحتاج إلى حوافز، ودواع، فمثلاً: لو أن رجلين كانا يقتتلان، فقد يمر من هناك شخص، فيضحك، ولا يهتم لما يجري، لكن يمر شخص آخر، فيبادر إلى حل الإشكال، مع علمه بأنه قد يتعرض للضرب والأذى، ولكنه لا يتراجع، بل هو يواصل ذلك، في استجابة عفوية منه لنداء ضميره ووجدانه..

وكذلك الحال بالنسبة للتكاليف الشرعية الإلهية، فإنك قد تجد لدى بعض الناس رغبة في مخالفتها، لأنهم يسقطون أمام الدوافع الغريزية، أو المصلحية، أو العشائرية، أو الفئوية، أوغيرها..

وذلك مثل التكليف بالصوم، أو ببذل بعض الأموال، فإن حب الراحة وحب المال قد يدعو بعض الناس إلى المخالفة وكالجهاد في سبيل الله ضد العشيرة، أو ضد الأصدقاء والأحبة.. وما ذلك إلا لأن إيمانه بالله كان يقتصر على الاعتراف بوجوده، من خلال الدليل الذي فرض عليه هذا الإيمان والاعتراف، وقد تجده يستدل ويدافع ويثبت لك صحة ما يؤمن به، ولكن هذا الإيمان لا يؤثر في ممارسته العملية، ولا يخضع قلبه له، ولا يحصنه من مخالفة أوامره تعالى..

وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ

/صفحة 21/

قُلُوبُهُمْ}(1).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}(2).

فلا فرق بين هذا الشخص في ذلك وبين من ينكر وجوده سبحانه من الناحية العملية، فيحتاج لكي يلتزم بالأمر إلى روادع أخرى ـ كالتخويف من العقاب، أو دوافع وحوافز من قبيل الترغيب بمصالح، أو إثارة مشاعر عاطفية، أو طرح شعارات وطنية، أو إثارة عصبيات عنصرية، أو عشائرية، أو ما شابه..

ولكن الأمر بالنسبة لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) لم يكن كذلك، بل كان نفس حضور الله تعالى في قلبيهما هو الداعي لهما إلى ذلك.. ولم يكن ثمة أي إكراه ولا إجبار، بل كان هناك سعي منهما إلى تحقيق رضا الله سبحانه، ولو لمجرد إدراكهما لذلك عن طريق منام يحكي لهما ما يحبه الله.. بل حتى لو لم يكن هناك أمر ولا زجر، فإنهما سيريان نفسيهما أيضاً في موقع المطيع، والملزم بتحقيق ذلك الأمر.

وذلك كله يعطينا: أنه لا بد في الطاعة الحقيقية من إدخال الله سبحانه إلى قلب الإنسان المؤمن، وإلى وجدانه ليتفاعل مع فطرته، ومع كل كيانه..

فطبيعة قتل الإنسان لولده ـ وفقاً للمواصفات والحالات التي ذكرناها تدفع الإنسان إلى رفض هذا الأمر ومقاومته.. ولكن حضور الله سبحانه في قلب إبراهيم (عليه السلام)، وهيمنته على كل ذرات وجوده قد قلب الصورة، ليكون

ـــــــــــــــ

(1) سورة الحديد، الآية 16.

(2) سورة النساء، الآية 136.

/صفحة 22/

الله وحده هو المؤثر في كل حركاته وسكناته، من دون انضمام أي داع آخر إليه.. وهذه هي عظمة إبراهيم (عليه السلام) حقاً..

وتلك أيضاً هي عظمة إسماعيل (عليه السلام) الذي آثر الخيار الأصعب رغبة في الحصول على مقام القرب من الله، رغم أن أباه قد جرد له القضية عن أي دافع، حتى دافع الرغبة الشخصية، فضلاً عن دافع الخوف والرهبة والمراقبة لمقام الألوهية، فلم يتحدث له عن الله سبحانه، بل لقد أبعد عن مخيلته حتى صورة الأمر والزجر، الذي ربما يوجد درجة من الإحساس بالإلزام، واكتفى بقوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} فنسب الرؤية لنفسه، فلم يقل أُرِيت في المنام. لكي لا يذكره بما يحرجه، ولو في مستوى إرجاع الضمير، الذي يكون لفظ الجلالة أحد محتملاته، فضلاً عن أن يقول له: لقد أراني الله.. كل ذلك لكي لا يجد إسماعيل (عليه السلام) نفسه أمام أي إلزام يدعوه إلى الاستسلام، مهما كان نوعه، ومن أي جهة كان مصدره.

وهكذا يتضح أيضاً: أنه لم يكن دافع إسماعيل (عليه السلام) إلا قناعاته الفكرية، ولم تكن هذه القناعات بحاجة إلى تعزيز موقعها بحوافز أخرى أبداً..

سَتَجِدُنِي:

واللافت للنظر هنا: أن إسماعيل (عليه السلام) لم يقل لأبيه: سأصبر، بل قال له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.

فاختار كلمة {تَجِدُنِي} لأنه لم يرد أن يقدم لأبيه وعداًً بالصبر، لأن الوعد قد يوحي له بأن ما يعد به غير حاصل بالفعل.. وقد تمنع الموانع من حصوله في المستقبل.. أو قد يحصل البداء فيما يرتبط بالوفاء به، لأكثر من سبب. بل أخبر أباه بأن الصبر داخل في كينونته، وفي حقيقة وجوده، وما

/صفحة 23/

عليه إلا أن يتلمسه وأن يثيره فيه وأن يستفيد منه، فليس هو إذن من الأمور العارضة التي أثارها الانفعال أو أي عامل آخر. وسوف تزول بزوال ذلك العامل..

وذلك من شأنه أن يسهم في تشجيع أبيه على الإقدام على هذا الأمر، ويزيد من الترغيب به، ويبعد شبح التردد فيه..

إِنْ شَاء اللهُ:

ثم زاد إسماعيل (عليه السلام) في التأكيد على هذا الجانب حين بالغ في طمأنة والده إلى أنه لا يعتمد في صبره هذا على جهده البشري. بل هو فعل إلهي، ومرتبط بمشيئته تعالى.. فالله هو المتكفل إذن بهذا الصبر، وباستمراريته وجدواه. وهذا من شأنه أن يوجد حوافز لدى أبيه تدعوه لاتخاذ قراره بالتنفيذ، ويبادر إليه برضا وطمأنينة وسلام، ولذلك قال له: {إِنْ شَاء اللهُ}.

وهكذا.. يتابع إسماعيل (عليه السلام) محاولته إقناع أبيه بالإقدام على هذا الأمر، فيطمئنه إلى أن الله سبحانه سيكون معه، حين يجعله صابراً على هذا الأمر، وإذا كان الله هو الذي يمده بالصبر، فليس على الوالد أن يتوقف كثيراً أمام حسابات حجم الآلام التي سوف يواجهها ولده..

مِنَ الصَّابِرِينَ:

وتأتي كلمة {مِنَ الصَّابِرِينَ} لتبين لنا كيف أن إسماعيل (عليه السلام) يزيد في تهوين الأمر على أبيه، حين يلمح له إلى أن أمثال هذه الأعمال الشاقة قد تعرّض لها كثيرون، وقد صبروا عليها.. فلم لا يكون إسماعيل (عليه السلام) واحداً من هؤلاء الصابرين..

/صفحة 24/

إذن، فليس هذا الأمر فوق طاقة البشر، ليخشى منه أبداً، أو ليستعظمه، ويستفظعه..

وقد أظهر إسماعيل (عليه السلام) في كلامه هذا أنه لا يرى نفسه أهلاً لأن ينسب هذا الإنجاز لنفسه، بل لعله لا يرى ذلك إنجازاً مميزاً يحق له أن يتباهى به، كما نراه من الآخرين. بل هو تكليف من مالك الأمر والنهي، لا بد له أن يطيعه، وهو مبادرة إلى إنجاز ما يحبه الله سبحانه، حتى لو لم تكن هناك صورة عينية لهذا الأمر، وذلك كما لو كان هناك مانع يمنع من تسجيله وإنشائه، وقد اطلعنا على إرادة المولى له، ورغبته وترجيحه لإيجاده ولو عن طريق الرؤيا الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء..

وعلى كل حال، فإن على العبد أن يحقق مراد مولاه.. وذلك بمقتضى عبوديته ومملوكيته له.. وليس له أن يتعلل أو أن يترقب مكافأة منه.. ما دام أن كل شيء يعود إلى ذلك المولى ومصدره منه.. ولذلك لم ينسب إسماعيل (عليه السلام) إلى نفسه أية بطولة، فلم يقل: ستجدني صابراً، بل نسب صبره إلى الله سبحانه، فقال: {إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فإن كان ثمة من صبر فهو من الله تعالى تبعاً لمشيئته سبحانه..

كما أنه لم يقدم نفسه على أنه قد جاء بما لم يأت به غيره.. بل قدم نفسه على أنه واحد من كثيرين.. قد قاموا بمثل هذه الأمور العظيمة، وصبروا عليها..

واضح: أن هذا الوعي العظيم، وهذه الروح الطاهرة الفانية في الله، ستجعل أباه (عليه السلام) أعمق إدراكاً لمزايا ولده إسماعيل (عليه السلام)، وستجعله أكثر تعلقاً به، وسيزيد ذلك من صعوبة القيام بالأمر الذي هو بصدد الإقدام عليه..

/صفحة 25/

إنه إبراهيم:

وكل هاتيك المؤثرات لا بد أن تشد الإنسان إلى الوراء، وتمنعه من تنفيذ المهمة، لولا أن الذي يتصدى لهذا الأمر هو إبراهيم (عليه السلام).. شيخ الأنبياء، وأفضلهم، وأكرمهم عند الله بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).. إنه إبراهيم (عليه السلام) الذي لم يكن ليستجيب لهيجان العاطفة، وكوامن الحب والمشاعر، ودواعي الإعجاب التي تزيد من صعوبة الأمر عليه، والتي أججها إسماعيل (عليه السلام) وهو طفل صغير بموقفه الإيماني الرائع، ويقينه الراسخ، ودرجة وعيه وخلوصه..

إنه إبراهيم (عليه السلام) الذي كان يرى الله، والله فقط.. فما كان من هذا الأب الرحيم إلا أن باشر مهمته، واندفع في الحدث إلى الذروة، فجذب ولده، وألقاه على الأرض، وباشر تنفيذ الأمر الإلهي برضا وثبات.. {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(1) وتجلى مقام إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) في الإسلام والاستسلام لله سبحانه، الذي خلده الله تعالى له مثلاً عملياً حياً لكل جيل، وفي كل عصر، يعلمهم أن القيادة ليست مجرد أوامر ونواهٍ، تصدَّرُ للآخرين وليست مجرد شعارات وانتفاخات، واستعراضات إعلامية، من قبل من يستولي على مقاليد الأمور بالمال أو بالجاه أو بالقوة..

بل القيادة والإمامة هي اختيار من الله لمن بلغ هذا المستوى من الرضا والتسليم والاستسلام لله سبحانه. ومن هو على أتم الاستعداد للتضحية بكل غال ونفيس، حتى بالنفس والولد في طاعة الله سبحانه، حتى لو كان الولد هو إسماعيل (عليه السلام) في ميزاته وفي خصائصه.

ـــــــــــــــ

(1) سورة الصافات، الآية 103.

/صفحة 26/

فَلَمَّا أَسْلَمَا:

وهذا بالذات هو ما يفسر لنا سبب التفريع بالفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} حيث إن هذا الامتحان الصعب هو الذي جسّد إسلامهما واستسلامهما على صفحة الواقع، وأخرجه من مجرد القول والشعار ليكون هو الخلق، وهو الممارسة وهو الموقف والسلوك..

نتائج وآثار هذا البلاء:

وهذا النوع من البلاء، الذي يواجه فيه الإنسان المسؤوليات الجسام، ويندفع إلى امتثال الأوامر الإلهية مهما كانت صعبة وشاقة، بكل طمأنينة ورضا هو الذي يزيد في إيمان الإنسان، وفي درجة قربه من الله، ويؤهله لنيل منازل الكرامة.. ثم هو يزيد في بصيرته، ليكون أكثر وعياً وفهماً، ويصير سميعاً بصيراً، كما قال تعالى: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}(1).

ولأجل ذلك جاءه النداء الإلهي:

{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ}(2).

الأهلية لمقام الإمامة العظمى:

نعم إنه البلاء الذي يظهر الملكات الكامنة في داخل شخصية إبراهيم

ـــــــــــــــ

(1) سورة هل أتى، الآية 5.

(2) سورة الصافات، الآيتان 104 و105.

/صفحة 27/

وإسماعيل (عليهما السلام)، ويؤكد استحقاق إبراهيم (عليه السلام) لمقام الإمامة العظمى، حيث تحولت هذه الملكات والمزايا من القوة إلى الفعل.. ونجح في الامتحان الإلهي، وحقق معجزات كبرى في مواجهة البلاء الإلهي، وتحمل مسؤوليات الإيمان به، والدعوة إليه.

وكان تعرض إبراهيم (عليه السلام) لهذه البلاءات العظمى يهدف إلى تزكية نفسه، وإعداده لذلك المقام العظيم، فإن التكليف هو من النعم الإلهية، وفيه دلالة على أن من اختير له هو أهل للكرامة الإلهية. كما أن الابتلاء إحسان يجعل من الإنسان موجوداً مؤثراً وفاعلاً في الحياة، خصوصاً إذا كان هذا الابتلاء يجعل الإنسان مرهف السمع، حديد البصر، في حين أن أكثر الناس هم كالأنعام بل هم أضل..

وكان الأمر بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام).. هو الذي أظهر لكل المخلوقات والكائنات، العلوية منها والسفلية حقيقة إبراهيم (عليه السلام) ومقامه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ} إنه هو الذروة في البلاءات التي تعرض لها، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}(1) فالابتلاء ليس بالأمراض والمصائب الجسدية، بل هو بتحميله المسؤوليات الجسام، وبتهيئة الفرصة لتقديم التضحيات الكبرى التي تزيده إيماناً وطهراً وصفاء، وتؤهله لنيل مقامات القرب والزلفى..

وقد كان ذبح إسماعيل هو الكلمة التي جاء بها إبراهيم تامة وافية، ومطابقة لواقعه وهي الأكثر تعبيراً وصراحة وأدق وأوضح دلالة، على المؤهلات الواقعية

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، الآية124.

/صفحة 28/

الكامنة في شخصية إبراهيم (عليه السلام) والتي استحق بها هذا المقام، مقام الإمامة العظمى للناس.. ولكنها لا تصل إلى مقام الإمامة المتصلة بالنبوة الخاتمة، فإن عظمة مقام هذه، منسجم مع مقام هذا النوع من النبوة الذي هو الأكمل والأتم، والأعظم.

وفديناه بذبح عظيم:

ونيل إبراهيم (عليه السلام) لمقام الإمامة، هو المكافأة له على تحمله لهذا البلاء العظيم. ثم كانت مكافأة أخرى له ولولده إسماعيل (عليه السلام) أيضاً، الذي شكر الله له صبره، ووعيه، وإيمانه وطاعته، وفناءه في الله، وفداه الله بذبح عظيم.. {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.

نعم، ذبح عظيم يستمر في الأمم إلى يوم القيامة كشعيرة إلهية كبرى رسمها الله سبحانه على كل البشر، فأوجب الأضحية على كل من يحج إلى بيت الله الذي رفع إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) قواعده، وشيدا أركانه.. وأعليا شأنه..

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين.

عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)

جعفر مرتضى العاملي

3 شهر رمضان المبارك 1423 للهجرة.

/صفحة 29/

القسم الثاني:

كيف نفهم الموت والشهادة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

لتجدنهم أحرص الناس على حياة:

هناك أناس ينظرون إلى هذه الحياة الدنيا على أنها هي كل شيء بالنسبة إليهم، وليس قبلها ولا بعدها شيء، ويتعاملون مع كل ما ومن يحيط بهم على أساس هذه النظرة، ومن خلالها.

ومعنى ذلك: أن تصبح معاييرهم التي يقيسون بها الأمور معايير دنيوية، وعلى أساس الربح والخسارة فيها، وليس ثمة شيء وراء ذلك.

فلا غرو إذا كان الموت يمثل لهؤلاء الناس ـ حسب نظرتهم تلك ـ ضياعاً وخسراناً، وخيبة مُرّةً وقاسية، لأنهم يرون فيه نهاية سعادة وحياة، وبداية عدم وفناء، وربما بداية شقاء وبلاء، لا تحده حدود، ولا تقيده قيود.

إذن فلماذا لا يجنّبون أنفسهم كارثة الموت هذه، والتي ليس فوقها

/صفحة 30/

كارثة، ويحرصون على البقاء في هذه الدنيا، ليعيشوا فيها حياتهم حتى لو كانت أحقر، وأتفه، وأخسّ حياة. قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}(1). علماً بأنهم لا يجدون في توراتهم المحرفة التي يتداولونها اهتماماً بأمر الآخرة.. بالمستوى الذي يصبح هاجسهم الأول والأخير.. بل قد تجد فيهم فرقاً لا تعترف بالآخرة أو لا تعتقد بها إلا بدرجة ضعيفة وغائمة.

نظرة المؤمنين للموت:

أما الذين يؤمنون بالله، وبأنبيائه ورسله، وبالآخرة، فإنهم ـ بحسب ما علمهم إياه  القرآن، ونبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) ـ ينظرون إلى الموت نظرة تختلف كثيراً عن نظرة غيرهم. ويمكن تلخيص ذلك في ما يلي من نقاط:

خلق الموت والحياة:

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(2).

فالآية الكريمة قد ذكرت الموت، قبل أن تذكر الحياة. ثم صرحت بأن الموت مخلوق له تعالى، تماماً كما هي الحياة.

ثم ذكرت: أن السر في خلق الموت والحياة هو وضع الإنسان على المحك، بهدف دفعه لمواصلة تحركه نحو الأفضل والأحسن في مسيرته

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، الآية 96.

(2) سورة الملك، الآية2.

/صفحة 31/

التكاملية، في نطاق جوٍ مثير يهيمن عليه تنافس إيجابي، باتجاه تكوين وصنع الحياة، والتأثير فيها وإثارتها لتتجسد عملاً ذا ميزات جمالية تنمو وتتكامل في جماليتها من حسن إلى أحسن بصورة مطردة.

فالموت والحياة معاً لهما دورهما الإيجابي في بناء الحياة، وفي تكامل الإنسان في إنسانيته، من حيث إنهما ينتجان عملاً حسناً، بل ومتميزاً في حسنه وجماليته، يكون هو الرصيد الذي يؤهل الإنسان للمشاركة في الحياة الحقيقية التي لا تصلح إلا للإنسان الذي استوفى باختياره، وبجهده وعمله الدؤوب خصائصه، وميزاته الإنسانية، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(1).

وفي حياته الحقيقية تلك ـ أعني في الآخرة ـ يصبح أكثر وأعمق إحساساً بالأمور، حيث تتساقط الحجب التي تؤثر على مستوى إحساسه وإدراكه، ولأجل ذلك كانت هذه الحياة «حياة دنيا»، لتدني مستوى الشعور، والإدراك والإحساس فيها، لأنه محجوب بالوسائط، ومستند في الأكثر(2) إلى التخيل استناداً إلى صور ذهنية عن الحقائق الراهنة، ساهمت الحواس بإيصالها إليه. بالإضافة إلى حاجز الشهوات والهوى، وإلى الآثام والمعاصي التي تزيد من طغيان الجسد، وتضعف القدرات الروحية لديه،  فيتضاءل إحساسه بالحقائق، ويتقاصر فهمه عنها.

أما الآخرة فقد قال الله عنها: {إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا

ـــــــــــــــ

(1) سورة هود، الآية7.

(2) إذ إن بعض المدركات تكون عبر الإحساس الحقيقي بها، من قبيل الإحساس بالجوع والعطش، وكذا بعض الحقائق النفسية أيضاً.

/صفحة 32/

يَعْلَمُونَ}(1).

وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(2).

وخلاصة الأمر: أن الإنسان يجتاز مرحلة الموت، ليصل إلى عالم البرزخ ومعه رصيده العتيد، من عمل حسن وأحسن، ويتخلص من كل ما يحجزه عن مواصلة مسيرته التكاملية نحو الله سبحانه ليفوز بقربه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}(3)، فيصل إلى البرزخ الذي هو بمثابة بوتقة يتم فيها تأهيل من يحتاج إلى التأهيل لاستقبال الحياة الحقيقية، التي هي حياة الآخرة، بكل حيوية ونقاء وصفاء، ويكون هو بداية الفوز والنجاح، وهو باب الخير والفلج والفلاح، وأول طريق الأمن والسلامة والنجاة من المخاطر، التي تنشأ من طغيان الشهوات، ودواعي الغرائز والأهواء.

فبالموت يملك الإنسان المؤمن نفسه، ويتحرر من شهواته، ويستفيد من كل جهات وجوده، ومن طاقاته بصورة كاملة، وبه يخرج من سجن قاس ومرهق أيضاً.. وما أحلى أن يحصل الإنسان على حريته وأن يكون هو سيد نفسه، ويواصل انطلاقته نحو الله في رحاب ملكوته. ليحيا هناك الحياة التامة بكل وجوده وطاقاته وأحاسيسه، قال تعالى: {إِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ

ـــــــــــــــ

(1) سورة العنكبوت، الآية 64.

(2) سورة ق، الآية22.

(3) سورة الانشقاق، الآية6.

/صفحة 33/

لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(1).

ولا غرو أن يكون هذا الموت حبيباً ولذيذاً، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه»(2).

وقد وصف الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه فقال: «يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه»(3).

وسأل الإمام الحسين (عليه السلام)، القاسم بن الحسن (عليهما السلام): يا بني كيف الموت عندك؟!

قال: يا عم أحلى من العسل(4).

وحين قال ابن زياد لعنه الله للعقيلة زينب سلام الله عليها: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً(5).

وحين ضرب ابن ملجم لعنه الله، أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال صلوات الله وسلامه عليه: فزت ورب الكعبة(6).

ـــــــــــــــ

(1) سورة العنكبوت، الآية 64.

(2) نهج البلاغة [بشرح عبده] ج1  ص41  ط دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان.

(3) مقتل الحسين للمقرم ص262.

(4) اللهوف ص82 و83  ونفس المهموم  ص208.

(5) اللهوف ص67 ونفس المهموم ص371.

(6) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق ج3  ص303 وينابيع المودة ص65 ومقتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، لابن أبي الدنيا [مطبوع في مجلة تراثنا] سنة3 عدد3 ص96.

/صفحة 34/

إلى غير ذلك من نصوص كثيرة تدخل في هذا المجال.

هذا بالإضافة إلى ما يشير إليه قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}(1).

وبكلمة:

إن الموت هو سر الحياة، وهو يعطيها معناها ومغزاها، وقيمتها. وهو غاية زينتها وبهجتها، وهو سر الطموح، وسر الحركة الدائبة باتجاه الأفضل فيها، وسر سعي الإنسان إلى كماله، وكدحه إلى ربّه، وسرّ ملاحقته لأسرار الكون وخفاياه، ليستفيد منها في ترسيخ حالة الأمن والسلامة القصوى في حاضره وفي مستقبله على حدٍّ سواء.

هذا.. بالنسبة للمؤمن..

أما غير المؤمن فيرى في الموت خسراناً لنفسه، وبواراً لأهدافه وطموحاته، ولن يكون قادراً في الآخرة على نيل درجات القرب، ولا على الانطلاق في رحاب ملكوت الله سبحانه، أو الإحساس بجلاله وجماله، إحساساً حقيقياً وعميقاً، لا يقتصر على مجرد المعرفة الذهنية، بل هو سيكون منشغلاً بنفسه، وبآلامه في ظلمات الجحيم، حيث {يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}(2); وهو في الآخرة. كما في الدنيا أعمى، بل هو أضلُّ وأشقى قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي

ـــــــــــــــ

(1) سورة الفجر، الآيتان 28 و29.

(2) سورة إبراهيم، الآية 17.

/صفحة 35/

الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(1).

الموت قلادة على جيد الفتاة:

وما أروع ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا المجال، حيث قال في مكة وهو متوجه إلى كربلاء: «خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف إلخ..»(2).

فقد بين (عليه السلام) حتمية الموت وأنه هو زينة الحياة، يزيدها جمالاً، وبهاءً ورونقاً، ويعطيها المزيد من البهجة واللذة، تماماً كما هو الحال بالنسبة للقلادة إذا كانت على جيد الفتاة، فإنها تكون زينة لها، تشدُّ الأنظار إليها، وتزيد من تعلق القلوب بها.

ويستوقفنا هنا التعبير بكلمة: «جيد» التي توحي بالجودة، وهو تعبير مريح للنفس، مثير للكثير من المعاني اللذيذة في أعماقها.

كما ويلفت نظرنا أيضاً اختيار خصوص الزينة التي في هذا الموقع الحساس من جسد المرأة، بما يثيره من إيحاءات تنبعث من صميم الإغراء الأنثوي، وفي النقطة المركزية والأساس فيه.

ثم إنه (عليه السلام) يختار التعبير بكلمة «الفتاة» بدلاً من كلمة «المرأة» ونحوها. لأن الفتاة وليس سواها، هي التي تمثل القمة في الحيوية، والطموح، والجمال،

ـــــــــــــــ

(1) سورة الإسراء، الآية 72.

(2) اللهوف على قتلى الطفوف، لابن طاووس، ص25 ومقتل الحسين للمقرم  ص190 عنه وعن ابن نما  ص20.

/صفحة 36/

وما إلى ذلك.

فهذا موقع الموت، وهذه هي حساسيته، وبذلك تظهر أهميته.

الشهادة في معناها ومغزاها:

وإذ قد عرفنا، ولو بصورة موجزة ماذا يعني الموت للإنسان المؤمن، ولغيره.. فإن ذلك يفتح أمامنا باب معرفة ما يعنيه الموت إذا كان قتلاً وتضحية في سبيل الله سبحانه، وفي سبيل المستضعفين في الأرض.

ولتوضيح ما نرمي إليه هنا نبادر إلى القول: إن القرآن عندما استعمل كلمة شهيد، وشهداء، لم يرد بها مجرد القتل المذكور إلا بما هو مختزن لأمر جليل، وخطير، جعله هو العنوان الحاكي لهذا القتل، والمعبر عنه. ولكنه عنوان قد استهلك هذا المعنون في داخله، وأصبح هو معناه ومغزاه، والعنوان هو الشهيد. والشهداء.. وهي كلمة تعني حضور الحدث بصورة واعية. فالشهيد ـ التي تعني كثرة أو شدة وعمق الحضور الواعي ـ تشير إلى أن الشهيد قد  أراد الوصول إلى كنه حقيقة الحياة، وواقع الأمر وملامسته، مع مزيد من الإدراك والوعي له، وعميق الإحساس الوجداني والواقعي الحقيقي به، ثم معرفة قيمته الحقيقية على ما هو عليه في نفس الأمر.

فالشهود إذن هو تعبير جاد وصادق عن درجة من الحضور، إذ قد يكون الإنسان حاضراً لواقعةٍ ما،  ولكنه لم يشهدها، وذلك إذا لم يدركها بعمق راسخ، تتشارك فيه قوى الإدراك الباطنة والظاهرة في الوصول وفي الحصول.

وهذا الشهود يكون لكل مؤمن بدرجة ما، سواء أكان قد قتل في سبيل

/صفحة 37/

الله أم لا، فالأنبياء شهداء، والأوصياء، والعلماء و.. و.. شهداء. والمقتولون في سبيل الله أيضاً شهداء. فالله سبحانه يقول: {لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}(1); يريد التمكن من إدراك واقعهم، والإحساس به وملامسته بصورة أوفى وأتم.

ومعنى ذلك: أن القتل في سبيل الله، الذي ينشأ عنه أن يصبح المقتول شهيداً على الناس، سوف يتسبب بتساقط جميع الحجب، وزوال كافة الموانع عن إدراكه الحقيقي والعميق، وسوف يزيد من إحساسه الحقيقي والوجداني بما يحيط به، ليكون أكثر معرفة بواقع الحياة، وبدقائقها، وحقائقها، وبدور الخصوصيات والمؤثرات والمناشىء، ثم بالآثار والنتائج لكل فعل أو قول، أو موقف؛ فيصبح مؤهلاً لأن يكون شهيداً عليهم، ورقيباً على كل واقعهم، ليؤدي هذه الشهادة في يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ـ يؤديها من موقع الحاضر والناظر، والمتفاعل بكل وجوده مع كل ما يحيط به.

 التربية الإلهية:

وطبيعي: أن الوصول إلى درجة الشهادة على الناس يحتاج إلى تربية إلهية، ورعاية ملكوتية، تمنحه المعرفة الحقيقية، والرؤية الصحيحة، وتربّيه في سلوكه وفي مشاعره وأحاسيسه وعواطفه. وتصفي وتزكي روحه، ونفسه، وعمله، وكل وجوده وتوازن بين كل خصائصه ومزاياه، ليكون إنساناً إلهياً، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وليكشف الله من ثم عن بصره، وعن بصيرته، ليصل إلى درجة الشهود، ويختاره الله سبحانه ويصطفيه لنفسه، ويخصه

ـــــــــــــــ

(1) سورة البقرة، الآية 143.

/صفحة 38/

بكرامته، قال تعالى: {يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاء}(1).

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(2).

ترسيخ حالة الشهود بالجهاد الأكبر:

وقد عبر الإسلام عن جهاد الإنسان لنفسه بـ «الجهاد الأكبر»، لأنه صراع الإنسان مع أحب شيء وأعز ما ومن في الوجود عليه، وآثرهم لديه. وهو نفسه الأمارة ـ وليست اللّوامة ـ التي بين جنبيه. ذلك العدو القوي الذي يملك عليه مشاعره، وأحاسيسه، وعقله، ولا يمكنه أن يقتنع أو أن يتوهم أنه عدو له. كما أنهّ العدو الذي لا يمكن القضاء عليه، ولا الانفصال عنه، ولا التخلص منه، ولا إنهاء حالة الصراع معه.

وإن نجاح الإنسان في الجهاد الأكبر هذا يمنحه الفرصة للوصول إلى حالة الشهود تلك، لتزيد فيه قوة ورسوخاً، ولتطرد في تكاملها وتناميها، فيرى الأمور على حقيقتها، ولا تقتصر رؤيته على حيثيات الزينة الدنيوية وحسب.

وبسبب تنامي درجة الشهود، وكنتيجة طبيعية لدرجة الإدراك الموضوعي لحقائق الأمور، بعيداً عن الزبارج والبهارج، وبتفاعل جديد في حركة دائرية مطردة، يتم إنتاج مفردات جهادية جديدة: بالنفس، وبالمال وبسواهما. ويترسخ اليقين بهدف خلق الله الكون والحياة، كنتيجة طبيعية لدرجة ومستوى إحساسه وعيشه مع الله سبحانه، وانسجامه مع ألطافه وأهدافه، ومدى استعداده للحصول

ـــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران، الآية 140.

(2) سورة محمد، الآية 17.

/صفحة 39/

على المزيد، ثم المزيد من ذلك كله.

وهذا ما يجعلنا نفهم بعمق قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه»(1). لأن هؤلاء الخاصة هم المؤهلون لنيل درجة الشهود تلك، ولينتج ذلك من ثم المزيد من المواقف الجهادية الرائدة، في سبيل الله سبحانه، وفي سبيل المستضعفين، دونما رهبة من سلطان قاهر، ودونما رغبة في شيء من حطام الدنيا.

المحورية الإلهية هي الأساس:

وإذا كان الإنسان وهو يعيش مع الآخرين، ويتعامل معهم، في مختلف الشؤون الحياتية، يجد أن الكثير من مفردات تعامله هذا تتطلب منه أن يشعر بميزاته، وبخصوصياته الفردية، التي تخصِّص وجوده، وتميزه عما سواه. ويجد أن خصوصياته وميزاته هذه، تتصارع مع خصوصيات الآخرين، وميزاتهم الفردية.

ويدرك أن ثمة ساحة صراع بين رغبات ونزعات، وخصوصيات كل فردٍ، فردٍ، مع مثيلاتها لدى الأفراد الآخرين، مهما اختلفوا ومهما بلغ عددهم، فإن ذلك يفسح في ساحة الصراع، ولا يحددها.

فإذا استطاع كل منهم أن يتجاوز ذاته، وخصوصياتها، ويجرد فرديته من معالمها وميزاتها، ولونها، وطعمها، ورائحتها، فلا يبقى لها سمات طبقية، ولا عرقية، ولا قومية، ولا مهنية، ولا اقتصادية، ولا شكلية أو جمالية و.. و.. نعم.. إنه إذا استطاع ذلك، فلا يبقى ـ من ثم ـ ما يبرر تصادمها مع الخصوصيات الفردية

ـــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة الخطبة رقم 36  ج1 ص63.

/صفحة 40/

للآخرين، إذا كانوا هم أيضاً قد تخلصوا ـ كما تخلص هو ـ من أثقالها..

وبذلك يكون هذا الإنسان قد استبعد شطراً كبيراً من الموانع التي تعيق مسيرته التكاملية في الحياة. ويلتقي مع كل ما لدى الآخرين من طاقات ومن جهد، ويعملون معاً في بناء الحياة الإنسانية، باندفاع قوي وناجح باتجاه الأهداف السامية، والغايات الفضلى، التي تتجاوز ـ فيما هو التقدير الإلهي ـ هذه الحياة الدنيا، إلى حياة أسمى وأعلى. هي الحياة الحقيقية المثلى والفضلى.

بل إن هذا الإنسان إذا استطاع أن يسير وفق التخطيط الإلهي، لسوف يتمكن من أن يحوّل، بل يصْهَر ويذوِّب خصوصياته الفردية ويجعلها تصب في بوتقة الانصهار في الوجود المنطلق من الله وإليه، في المسيرة الكادحة والناجحة والرابحة إليه تعالى.

فيحوِّل الخصوصية الجمالية مثلاً، أو القومية، أو حتى الاقتصادية، ولو على مستوى التجمل الشخصي إلى إحساس عميق بالله سبحانه، وبتجلي نعمه وألطافه، ورعايته الربانية، ثم بقدرته، وحكمته، وعلمه، وقيّوميته.. ثم هي تؤهل الإنسان ـ من خلال ذلك ـ لسلوك طريق ذات الشوكة الموصل إلى الله سبحانه(1)، بدلاً من أن تعيقه عنه، وتثقل خطوه، وتستأثر بجهده العقلي،

ـــــــــــــــ

(1) إذ إن سواها لا يوصل إليه سبحانه، فلا يصح لأحد أن يقول: أصلي ركعتين، فذلك يغنيني عن الجهاد في سبيل الله.

فطريق ذات الشوكة هو العمل بالتكليف الشرعي الراهن مهما بلغ. وعدم تخير الأعمال عشوائياً، فإن اختيار ما سوى التكليف الراهن لا يوصل إلى الله، بل يبعد عنه، لأنه يوجب سخطه سبحانه.

/صفحة 41/

وبمشاعره، ثم بإرادته أيضاً.

وبكلمة واحدة، أن يصبح سلطان الهوى، والشهوة، والغريزة متناغماً ومنسجماً مع ذلك الهدف الكبير، فيميل إلى كل ما يوصل إليه، ويشتهي جميع ما يقربه منه، وينتهي به الأمر إلى أن تصبح الغريزة والهوى والشهوة كلها أيضاً في خدمة إنسانيته، وطوع إرادته التي لم تعد إرادة الفرد، وإنما هي إرادة الجماعة التي تطلقها وتحركها إرادة الله سبحانه، وليس أي شيء آخر سواها.

فإذا كانت المذاهب المادية تعمل على تأكيد خصوصية الفرد، وإثارة كوامن الأنانية، فتنتج عُجباً وغروراً وجبروتاً إلخ.. فإن الإسلام يعمل على استبدال محورية الفرد والأنا؛ ويسقط هذه التفاريق عن أن تكون سبباً في التفريق، ويصوغها من جديد، لتصبح وسيلة وسبباً في الجمع والتوحيد، ويحوّل الخصوصيات الفردية إلى روافد للخير، وحوافز للنمو والتكامل في الشخصية الإنسانية الجامعة، بعد تزكيتها وشحنها بالهدى والخير، وبالطاقات الكبيرة والمؤثرة، حتى تصبح في قبضة إرادة الإنسان، ولتكون الرصيد الذي يعتمد عليه، ويستفيد منه في سعيه وكدحه إلى الله ـ ليصبح ـ من ثَم ـ تجسيداً للإنسان الإلهي الذي هو في أحسن تقويم، ويكون الله بالنسبة إليه هو المآل والنهاية، كما كان سبحانه هو المنطلق والبداية.

وبهذه المحورية الإلهية، والبديلة عن محورية الأنا، يصبح الإنسان جامعاً لكل معاني الخير والصدقية، والواقعية، التي تستشرف كل هذا الوجود، وتهيمن عليه، من موقع الحكمة والمعرفة، والرعاية، والهدى والخير، والقوة و.. وتتكون له من ثم ـ حياة جديدة، وهوية جديدة، ولون وطعم جديدين،

/صفحة 42/

وتنشأ لديه رغبات، ونزعات، وطموحات، وخصوصيات، ومزايا جديدة وفريدة أيضاً.

وبذلك فقط يُحْفَظُ هذا الإنسان من الضياع، إذ بدون ذلك سيضطر لو أنه فقد معالم شخصيته الفردية، وواجه الصراع مع نزعات وخصوصيات الآخرين الفردية المتناقضة والمتناحرة ـ نعم سيضطر ـ للانكفاء من جديد إلى أحضان الأنا، وإلى آفاق الفردية، ويصبح سجينها وضحيتها، وما أشقاه من سجين، وما أغلاه من ضحية.

 الأمن والرضا:

وهنا يحقق الإنسان أحلى أمنياته وأغلاها، وأروع أحلامه وأسناها، حيث يعيش حالة السلام والأمن في كل حياته، وفي صميم وجوده العتيد، وذلك من خلال شعوره بأن الله هو كل شيء في هذه الحياة، فهو المبدأ وهو المنتهى، ولتنعم نفسه بالرضا في ظل مصدر كل خير، وعطاء، وكل رغد ونعماء، وهو منتهى كل رغبة، وبيده ملكوت كل شيء.

ومن الواضح: أنه إذا كان الله سبحانه هو وحده مصدر كل خير وعطاء وقوة، و.. و الخ.. فإنه يكون وحده المستحق للعبادة، وهو مصدر العطاء وبه تكون الاستعانة على كل الأمور، ولا تصح الاستعانة بغيره أبداً.

وإذا كان الله هو مصدر كل خير وعطاء وقوة، فلا يملك الإنسان قوة ولا أي شيء ذاتي في نفسه خارج نطاق العطاء الإلهي، فلماذا يعجب هذا الإنسان بنفسه؟ ولماذا يستكبر؟ ولماذا يطغى؟ ولماذا؟ ولماذا؟

فالتوحيد الخالص يمنع العُجْب، ويمنع الاستكبار، وغير ذلك من رذائل..

/صفحة 43/

كما أنه إذا لم يكن أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعاً، فلماذا الرياء. فالتوحيد الخالص ينفي الرياء أيضاً.

وهكذا يقال بالنسبة لسائر الرذائل التي يبتلى بها هذا الإنسان الضعيف.

وواضح: أن هذا التحرر التام هو نتيجة التوحيد الحقيقي وتأكد رسوخ أساس العقيدة بالنبوة وبالمعاد أيضاً. فإن ذلك يفرض توحيد العبادة والعبودية، وتوحيد العمل والسلوك أيضاً.

كما أن هذا التوحيد في العبادة، وفي الأفعال، يجعل هذا الإنسان أوسع أفقاً وأرحب وعياً وأعمق فهماً على الحياة، ولسوف ينتج ذلك مزيداً من التأمل ومن الفكر العميق في أسرار الحياة والخلق واستكناه الحقائق.. ثم العمل الجاد الذي يكون في مستوى هذه النظرة الشمولية والواعية.

وفي التوحيد في العبادة ربط باللانهائي واللامحدود، الذي هو مصدر كل عطاء، وهو واهب القدرات، فما على الفكر من حرج إذن، إذا انطلق ليتصل بالمحدود، ليوظفه باتجاه اللامحدود وهو الله سبحانه، وليقوم بالإنجاز الكبير الذي سيكون بحجم الحياة كلها، وهي تستشرف الخلود في الآخرة.

هذا كله بالإضافة إلى إخراج الإنسان من حالة الانعزال والانفصال إلى حالة التواصل والتعاون والمشاركة، والفهم العميق لهذه المشاركة.

ومن أجل ذلك كان التوحيد في الاستعانة معناه الحرية الكاملة والحقيقية، حيث لا يشعر أنه بحاجة إلى أحد، لأن الجميع لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. ولأجل ذلك جاءت الاستعانة مطلقة ومن دون تقييد أو تحديد..

/صفحة 44/

ألا بذكر الله تطمئن القلوب..

وهذا الأمن والسلام، والرضا هو أساس الحياة، وهو المرتكز القوي والحقيقي والثابت لكل تخطيط، وعمل وبناء، ثم للوصول إلى الهدف الأسنى وتحقيق أسمى الغايات.

ويظهر بذلك مصداق قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(1).

وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(2).

توحيد العبودية والحب:

وحين نقرر: أن الله سبحانه لابد أن يكون هو المحور، وليس هو الفرد، والأنا.

فإننا نعني: أن يصبح الإنسان إنساناً إلهياً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فيكون التوحيد الخالص والصافي هو المحور والمرتكز الذي يثوب إليه الناس من كل متاهاتهم.

إنه توحيد العبودية والحب، وتوحيد الولاء، والانتماء. توحيد الفطرة الصافية، والوجدان الطاهر، والضمير الحي. لا التوحيد النظري الفلسفي، الذي لا يتجاوز حدود الفكر، والتصور العقلي.

التوحيد الذي يجتذب كل روافد الخير، والحياة، والطهر في عمق وجود

ـــــــــــــــ

(1) سورة الرعد، الآية28.

(2) سورة الفجر، الآيات 27 ـ 30.

/صفحة 45/

هذا الإنسان، لتصب في غماره، وتندمج، وتذوب في تياره العارم، وذلك عبر المسالك الفطرية والوجدانية الصافية، التي تتجسد حركة وسلوكاً، وموقفاً , وعملاً صالحاً.

هذه المسالك والروافد، التي تتجسد في العبادات الإسلامية وفي الارتباط الروحي العميق بكل الرموز الهادية إلى الله، والموصلة إليه. وفي مقدمتها أهل البيت (عليهم السلام)، فكما تكون الكعبة رافداً إنسانياً، كذلك كربلاء، وسامراء، والبقيع، والنجف الأشرف، ومشهد، وبغداد، هي الأخرى روافد إنسانية، وشعورية، ووجدانية، ومنار جهاد..

وما ذلك إلا لأن الإسلام أراد لهذا الإنسان، أن لا يتقوقع في الزوايا والخبايا، يتلهى بعباداته الفردية، مستفيداً من ذلك للهروب والتخلي عن المسؤوليات خارج نطاق الذات والشخص.

بل أراد سبحانه له أن يتخلص من نوازع الأنا، ومن خصوصياته الفردية، وأن يكون حاضراً، ومشاركاً قوياً في متن ساحة الصراع والتحدي، التي تثير فيه كوامنه ونوازعه الفردية، عبر الاحتكاك فيما بينها. وبين ما سواها في مختلف مجالات الحياة، وفي أدق تفاصيلها، ويلاحق ويتحمل المسؤولية تجاه كل حالاتها وشؤونها.

ولأجل ذلك: نجد أن الإسلام قد أراد أن يزج بهذا الإنسان حتى في عباداته الفردية والخاصة، في أوسع مجالات الحياة، وأكثرها صخباً، حتى إنك لتجده حين يشرّع له الصلاة، يطلب منه أن يجعلها جماعة، فإن أجره وثوابه يزيد بازدياد عدد المصلين، رغم أنه ثواب على أمر لا خيار ولا اختيار له فيه.

/صفحة 46/

ورد أنه (صلى الله عليه وآله) قد هدد بإحراق بيوت أناس على أهلها، لأن أهلها تركوا الصلاة جماعة.

كما أن ما يسمى بالاعتكاف ـ حسب المصطلح الفقهي ـ قد جعل شرطه الأساس أن يكون في المسجد الجامع، لا في زوايا البيوت، أو حنايا الصوامع. وما ذلك إلا لأن في أجواء الحذر والريبة، والعدوان، والخوف، والكيد والتحدي، يتم صقل شخصية الإنسان، وتظهر مواضع العوار فيه، وتسهل عليه وعلى آسيه(1) معرفة الداء، ليصف له الدواء الناجع والشافي.

وفقنا الله للسير على هدى الإسلام، إنه ولي قدير وبالإجابة حري وجدير.

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

جعفر مرتضى العاملي

ـــــــــــــــ

(1) الآسي هو المداوي.

/صفحة 47/

القسم الثالث:

آسية بنت مزاحم نموذج المرأة المجاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

فإن هناك من يظن أن على المرأة أن تعيش حالة التبعية للرجل، وتكون بمثابة الصدى، أو الظل له، تتلقى أوامره، وتخضع لإرادته. زاعماً أنها لا تقوى على الاستقلال عنه، ولا تستطيع أن يكون لها رأي، أو فكر، أو اعتقاد، سوى رأيه واعتقاده وفكره. وربما يحاول بعضهم أن يتخذ مما ورد من أن المرأة على دين زوجها، ذريعة بتأكيد هذا القول..

ولكن من الواضح: أن المرأة وإن كانت شديدة التأثر بزوجها، لكن الأمر لا يصل إلى حد فقدانها إرادتها بصورة تامة. والقول المأثور إنما سياقه سياق المبالغة ليفيد أن الغالب في النساء هو ذلك..

/صفحة 48/

 والأحداث والوقائع تشهد بما نقول، كما أن تعاليم الإسلام وما ورد في كتاب الله وصرح به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) يؤكد هذه الحقيقة.

فإن المرأة في الإسلام إنسان كامل، أهّلها الله لأن تكون موضع كرامة الله، وتتلقى الخطاب الإلهي، والتكليف الرباني.. وتتوجه إليها الأوامر والزواجر التي تناسب واقعها الذي تفرضه طبيعة خلقها، ويفرضه الكمال المنشود في تكوينها، وفي الصنع الإلهي للبشرية في سياق هدايتها نحو الكمال، وسوقها نحو الغايات الكبرى التي أراد الله لها أن تسعى إليها، وتحصل عليها.

فكانت المرأة هي ذلك المخلوق، الذي لا مجال لأن يُفرض عليه الرأي والاعتقاد، ما دامت تملك العقل والتمييز، والإرادة والاختيار، وينسحب ذلك على مختلف الشؤون والحالات، خصوصاً فيما يرتبط بالناحية  الاعتقادية والإيمانية.

فها هو أعظم المستكبرين، وأشدهم علواً وعتواً، والذي بلغ في استكباره حداً ادعى فيه الربوبية ـ ها هو ـ قد عجز عن فرض إرادته على المرأة، رغم أنها كانت محاصرة بكل القوى ومحاطة بظروف شديدة القسوة، من شأنها أن تُسقط إرادتها، ولكنها كانت أقوى من ذلك كله، ففرضت إيمانها وإرادتها، وهزمت كل تلك القوى العاتية، وباء ذلك المستكبر المدعي للربوبية بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة.. وأقصد بها:

آسية بنت مزاحم امرأة فرعون بالذات.

نعم.. وهذه هي المرأة التي أراد الإسلام لها ـ كما أراد لمريم بنت

/صفحة 49/

عمران، وخديجة، والزهراء عليهن السلام ـ أن تكون النموذج الرائد، والمثل والأسوة للنساء في هذه الحياة، وأن تكون مظهراً لإرادة الله تعالى على هذه الأرض، وتجسيداً لحكمته، وإظهاراً لبديع صنعه..

فماذا عن هذه المرأة النموذج الفذ، والمتفرد، التي فاقت نساء عصرها، ونالت الأوسمة الكبرى، ولكن لا من الناس العاجزين والقاصرين، وإنما من مصدر الكمال والقدرة، والعزة والكبرياء، حيث قدمها الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) لتكون نموذجاً، وقدوة، وأسوة، ومثالاً يُحتذى، وقمة للكمال الإنساني، فاقت نساء عصرها كلهن صلوات الله وسلامه عليها، فكانت بحق سيدة نساء عالمها كله.

آسية بنت مزاحم المرأة الشهيدة:

لقد كانت آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون ـ كما يقول المجلسي ـ «امرأة من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة ومخلصة وكانت تعبد الله سراً.

وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل، فعاينت حينئذٍ الملائكة يعرجون بروحها، لما أراد الله بها من الخير، فزادت يقيناً، وإخلاصاً، وتصديقاً.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون، يخبرها بما صنع بها.

فقالت: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا.

فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك؟.

فقالت: ما اعتراني جنون، لكن آمنت بالله، ربي، وربك، ورب العالمين.

فدعا فرعون أمها، فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت، أو لتكفرن بإله موسى.

/صفحة 50/

فخلت بها أمها، فسألتها موافقة [فرعون] فيما أراد، فأبت، وقالت: أما أن أكفر بالله، فلا والله لا أفعل ذلك أبداً.

فأمر بها فرعون حتى مدّت بين أربعة أوتاد، ثم لا زالت تعذب حتى ماتت، كما قال الله سبحانه: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ}(1).

وعن ابن عباس:

«قال: أخذ فرعون امرأته آسية، حين تبين له إسلامها يعذبها لتدخل في دينه، فمر بها موسى (عليه السلام) وهو يعذبها، فشكت إليه بإصبعها، فدعا الله موسى أن يخفف عنها، فلم تجد للعذاب مساً، وإنها ماتت من عذاب فرعون لها.

فقالت وهي في العذاب:

{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}(2).

فأوحي إليها: أن ارفعي رأسك، ففعلت، فأُريت البيت في الجنة بني لها من درّ، فضحكت.

فقال فرعون: انظروا إلى الجنون الذي بها، تضحك وهي في العذاب»(3).

وقيل: إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى (عليه السلام)، ووقوع الغلبة على السحرة، أسلمت.

فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها، فأبت. فأوتد يديها ورجليها بأربعة

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج13 ص164.

(2) سورة التحريم، الآية11.

(3) بحار الأنوار ج13 ص164. عن عرائس الثعلبي ص106 و 107 طبع مصر.

/صفحة 51/

أوتاد، وألقاها في الشمس. ثم أمر أن يُلقى عليها صخرة عظيمة، فلما قرب أجلها قالت:

{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}(1).

فرفعها الله تعالى إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب، عن الحسن وابن كيسان.

وقيل: إنها كانت تعذب بالشمس، واذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وجعلت ترى بيتها في الجنة، عن سلمان(2).

للبيان والتوضيح:

ولتوضيح بعض ما يرتبط بهذه المرأة المجاهدة الصابرة، آسية بنت مزاحم الشهيدة، نذكر هذا المقطع من كتاب: «مأساة الزهراء» فنقول:

1 ـ إن آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل، هو فرعون بالذات.

2 ـ وفرعون هذا هو الزوج المهيمن والقوي، وهو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية.

3 ـ وفرعون الرجل والزوج، لا يملك شيئاً من المثل والقيم الإنسانية والرسالية، ولا يردعه رادع عن فعل أي شيء، وفي أي موقع من مواقع حياته، فهو يسترسل مع شهواته، وطموحاته، ومصالحه، بلا حدود ولا قيود، ودونما وازع أو رادع.

ـــــــــــــــ

(1) سورة التحريم، الآية11.

(2) بحار الأنوار ج13 ص164 و165 عن مجمع البيان ج10 ص319.

/صفحة 52/

أما آسية فعلى النقيض من ذلك، ترى نفسها محكومة لضوابط الدين والقيم والمثل، وهي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها، ولا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها.

4 ـ وفرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده، وذاته، حتى ليدعي الربوبية، ويقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى}(1)، فلا يرى أن أحداً قادر على أن يخضعه، أو أن يملي عليه رأيه وإرادته، بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه وطموحاته.

فرعون هذا تتحداه امرأته!! في صميم كبريائه، وفي رمز استكباره وعلوه، وعنفوانه، وعمق طموحاته، في ادعائه الربوبية، وفي كل ما يرتكبه من موبقات، وما يمثله من انحراف.

5 ـ وفرعون ملك لديه الجاه العريض، وغرور السلطان، وعنجهيته، وجاذبيته، وعنفوانه، وزهوه. وما أحب تلك المظاهر الخادعة إلى قلب المرأة، وما أولعها بها.

وإذا كانت المرأة تميل إلى الزهو، فإنها إلى زهو الملك العريض أميل، وإذا كان الجاه العريض يستثيرها، فهل ثمة جاه كجاه السلطان، فكيف وهو يدعي الربوبية لنفسه؟!

6 ـ أما المغريات فهي بكل صنوفها، وفي أعلى درجات الإغراء فيها، متوفرة لفرعون، فلديه الدور والقصور، والبساتين، والحدائق الغناء، ولديه

ـــــــــــــــ

(1) سورة النازعات، الآية24.

/صفحة 53/

اللذائذ والأموال، والخدم والحشم، ولديه الزبارج والبهارج وزينة الحياة الدنيا.

وهل ثمة أحب إلى قلب المرأة من القصر الشاهق، ومن الأثاث الفاخر، واللائق، ومن وصائف كالحور، وغير ذلك من بواعث البهجة والسرور؟!

7 ـ وعند فرعون الرجال والسلاح، وكل قوى القهر، والتسلط، والجبروت، والهيمنة، ولذلك أثره في بث الرهبة، والرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد، والخلاف.

8 ـ وعند فرعون أيضاً المتزلفون، والطامعون، والطامحون، الذين هم وسائله وأدواته الطيعة، التي تحقق رغباته، وتلبي طلباته، مهما كانت، وفي أي اتجاه تحركت.

9ـ وهناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية. والجهل الذريع، والافتتان الطاغي بالحياة الدنيا، هذا الواقع الذي تفوح منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية، وتنبعث فيه الأهواء، وتضج فيه الجرائم.

10ـ وفي محيط فرعون، تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة وحاضرة من أجل لذة غائبة عنها، مع أن الإنسان كثيراً ما يرتبط بما يحس ويشعر به، أكثر مما يرتبط بما يتخيله أو يسمع به، بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة إلى لذة أخرى مماثلة لها، فكيف يؤثر الانتقال إلى ما هو غائب عنه، ولا يعيشه إلا في نطاق التصور والأمل بحصوله في المستقبل، ثقة بالوعد الإلهي له.

بل إنها (عليها السلام) تريد أن تستبدل لذة وسعادة ونعيماً حاضراً بألم وشقاء، وبلاء، بل بموت محتم لقاء لذة موعودة.

/صفحة 54/

11ـ وبعد ذلك كله، إن هذه المرأة لا تواجه رجلاً كسائر الرجال، بل تواجه رجلاً عُرف بالحنكة، والدهاء، والذكاء.

فكما كان عليها أن تواجه استكباره، وسلطانه، وبغيه، وكل إرهابه، وإغرائه، فقد كان عليها أيضاً أن تواجه مكره، وأحابيله، وتزويره، وأساليبه الذكية الخداعة، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه.

وقد ظهرت بعض فصول هذا الكيد والمكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى (عليه السلام)، ومع السحرة الذين جاء بهم هو، فآمنوا بإله موسى (عليه السلام).

خلاصة:

كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون، التي هي من جنس البشر، ومن لحم ودم، لها ميولها، وغرائزها، وطموحاتها، ومشاعرها، وأحاسيسها.

وقد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر وثبات، ولم تكن تملك إلا نفسها، وقوى إرادتها، وقويم وعيها، الذي جعلها تدرك: أن ما يجري حولها هو خطأ، وجريمة، وانحراف وخزي، فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة والإيمان، وواجهت كل وسائل الإغراء والقهر، ولم تبال بحشود فرعون، ولا بأمواله، ولا بجاهه العريض، ولا بزينته ومغرياته، ولا بمكره وحيله وحبائله..

وطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يهيء لها سبل النجاة من فرعونية فرعون، ومن أعمال فرعون، ومن محيط القوم الظالمين.

ولم يؤثر شيء من ذلك كله، من البيئة والمحيط وغير ذلك، في زعزعة

/صفحة 55/

ثقتها بدينها وربها، أو في سلب إرادتها، أو في سلامة وصحة خيارها واختيارها.

وكان دعائها:

{إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1).

فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون، وعن ممارسات فرعون نجاة، وتعتبر الابتعاد عن دنس الانحراف والخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضاً..

وهي لا تريد من الله قصوراً ولا زينة، ولا ذهباً ولا جاهاً، بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى. المعبر عنه بكلمة: {عِنْدَكَ}، وبمقام الرضا، على قاعدة: «رضا الله رضانا أهل البيت»، كما قالت زينب (عليها السلام).

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين..

ـــــــــــــــ

(1) سورة التحريم، الآية11.

/صفحة 56/

/صفحة 57/

القسم الرابع:

أثر العترة في بقاء الإسلام

ألقي هذا البحث في قاعة الأسد بدمشق في مؤتمر عن «أهل البيت (عليهم السلام)» عقد برعاية المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق وذلك في شهر شعبان سنة 1417ﻫ.ق.

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وأشرف بريّته، محمد وآله الطيبين الطاهرين.. واللعنة على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين..

وبعد..

آيات كريمة:

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ

/صفحة 58/

لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).

وقال تعالى:

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(2).

وقال عز من قائل:

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(3).

وقال تعالى كذلك:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(4).

ـــــــــــــــ

(1) سورة الجمعة، الآيتان 2 و3.

(2) سورة الحديد، الآية 25.

(3) سورة الأعراف، الآية 157.

(4) سورة الأحزاب ، الآيتان 45 و46.

/صفحة 59/

مفاد الآيات:

إن هذه الآيات قد أشارت إلى أمور هامة، نذكر منها ما يلي:

الأمر الأول:

أنها قد حددت مهمات النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن سبقه من الأنبياء بما يلي:

ألف: تلاوة آيات الله سبحانه على الناس الذين بعث إليهم وفيهم.

ب: تزكية نفوسهم، وتصفيتها من كل الشوائب التي علقت بها، بسبب الشرك والانحراف. وإعادة الفطرة إلى سابق نقائها، وسلامتها، وطهرها.

ج: تعليمهم الكتاب بكل ما فيه من شرائع، وأحكام، وعقائد، وسياسات، وأخلاق، وسلوك، وعبر، وحقائق ترتبط بكل ما في الكون والحياة.

د: تعليمهم الحكمة، التي جُعِلَ تعليمها عدلاً لتعليم الكتاب. وهي تعني الوقوف على الحقائق والدقائق والتفاصيل، ليمكن للإنسان أن يحسن التقدير، وليستلهم عقله وقلبه صواب الحكم، وصحة العمل.

ﻫـ : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

و: أن يضع عنهم إصرهم [أي ثقلهم]، والأغلال التي كانت عليهم.

الأمر الثاني:

قد ذكرت الآيات الكريمة: أنه إذا ما واجهت الأنبياء التحديات في مهماتهم تلك ـ ولابد أن تواجههم ـ فقد أنزل الله الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، ليكون هذا الحديد مفيداً في حل أي مشكل، وإزاحة أي خطر.

/صفحة 60/

وقد روي عن علي (عليه السلام) قوله: «الخير كله في السيف. وما قام هذا الدين إلا بالسيف. أتعلمون ما معنى قوله تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}؟! هذا هو السيف»(1).

بل إن نفس الآية المتقدمة التي ذكرت إنزال الحديد قد عقبت ذلك بالقول:

{وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}(2).

ثم خلصت إلى القول:

{إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} في إشارة صريحة إلى الحاجة إلى التذكير بقوة الله وبعزته، وفي صراحة لا لبس فيها بالحاجة إلى نصر الناس للرسل في مهماتهم التي يتصدون لها، وفي مواجهة التحديات والأزمات.

وهذا النصر للرسول هو الذي أشارت إليه أيضاً آية سورة الأعراف، حيث قررت أنه لا بد من الاتباع، والتعزير [أي التوقير] والنصر حين تمس الحاجة إلى ذلك.

إذن، فهناك سلطة ذات قوة، يكون الحديد أحد وسائلها في مجال التنفيذ، ولا يقتصر الأمر على مجرد التبليغ للأحكام، والتعليم لها.

الأمر الثالث:

لقد ذكرت الآيات أيضاً: أن مسؤولية النبي (صلى الله عليه وآله) لا تنحصر بالذين

ـــــــــــــــ

(1) شرح نهج البلاغة ، للمعتزلي الشافعي ج20 ص308 .

(2) سورة الحديد، الآية25.

/صفحة 61/

عاصروه، بل تتعداهم إلى آخرين من الأميين لما يلحقوا بهم، فهو رسول الله للبشرية جمعاء منذ بعثته، وإلى يوم القيامة.

فهو يتحمل إذن مسؤولية هدايتهم، ورعايتهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير أرواحهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة، ثم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ثم أن يضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم.

الأمر الرابع:

إن الهدف من إرسال الرسل بالبينات، وإنزال الكتاب والميزان، ـ أي المعايير والضوابط والأحكام، ليكون العمل وفق الحكمة ـ هو أن يقوم الناس أنفسهم بالقسط والعدل، من موقع إحساسهم بالواجب، وبالمسؤولية الرسالية والإنسانية.

طبيعة التشريع الإسلامي:

ولكي تستكمل الفكرة عناصر وضوحها نشير إلى أن هذا الإسلام العزيز إنما يهدف إلى إرجاع الإنسان إلى فطرته، وتطهيرها من شوائب الانحراف، ثم صياغة خصائصه الإنسانية بالنحو الذي يحقق الأهداف الإلهية التي يؤهله الله لها.

إنه يريد أن يتدخل في كل شؤون هذا الإنسان، وأن يهيمن حتى على نواياه، وخلجات نفسه، وعلى عواطفه، ومشاعره، وأحاسيسه، وتصوراته، فضلاً عن روحياته، وكل خصائصه، وميزاته.

إنه يريد منه أن يواجه التحدي ليس في مجال الأمن والدفاع وحسب، وإنما في السياسة، والاقتصاد، والتربية، والعلاقات، وفي مختلف مجالات الحياة أيضاً.

إنه يريد منه أن يطبق نظام عقوبات صارمة، على قاعدة: النفس بالنفس

/صفحة 62/

والعين بالعين. وأن يقطع اليد، والرجل، وأن يسجن، ويجلد، وينفي، ويصادر، وأن يكبح جماح أصحاب الأهواء، ومحترفي الجريمة، بل إن عليه أن يمنع الانحراف من الظهور في كل محيطه..

هذا كله عدا عن جهاده للمستكبرين، وإحباط كيد العتاة والجبارين.

وأهم من ذلك كله هو مواجهته لشهواته، وغرائزه وأهوائه، وطموحاته، ورفض كل المغريات التي تحيط به، وما أشدها من مواجهة، وأعظمه من جهاد، هو الجهاد الأكبر الذي يصغر عنده كل جهاد بالسيف، حتى في بدر العظمى!!

هذا هو السؤال:

وقد اتضح مما سبق أن المقصود من تعليم النبي (صلى الله عليه وآله) للكتاب ليس هو مجرد تلاوة ألفاظه على مسامعهم، بل المراد تفهيمهم شرح معانيه وحقائقه، وبيان مراميه ودقائقه. لأن مغزى هذا التعلم هو خروج الناس من الضلال المبين إلى الهدى؛ كما صرحت به الآية الشريفة نفسها، وهذا كله يدفع السؤال التالي إلى الواجهة ليقول:

أين هو تعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) للكتاب، الذي هو تبيان لكل شيء؟! وأين هي بياناته لحقائقه ودقائقه. ولإشاراته ودلائله؟

وأين هي الحكمة التي جعلها الله عدلاً للكتاب، وقد علمها (صلى الله عليه وآله) للناس؟! فهل تجد في كتب المسلمين من هذه الحكمة، ومن تعليم للكتاب، ما يكفي لتطبيق هذه الآية الكريمة، وتجسيد معناها، بالنسبة لمن عاشوا مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعاصروه؟! فضلاً عن الآخرين الذين لما يلحقوا بهم ـ وهم أجيال كثيرة جداً، متعاقبة، ومتلاحقة إلى يوم القيامة

/صفحة 63/

ـ وهو مبعوث إليهم جميعاً أيضاً، وهم جزء من مهمته ومسؤوليته. فكيف استطاع (صلى الله عليه وآله) أن يقوم بهذا الواجب، وأن ينجز مهمته تجاههم. من تلاوة الآيات عليهم، وتزكيتهم، وتربيتهم، ورعايتهم، وتعليمهم الكتاب، وتعليمهم الحكمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم، ووضع الإصر عنهم، والأغلال التي تكون عليهم؟! وهو الأمر الذي يحتم عليهم مواجهة طواغيت العصور المتعاقبة، وكل الجبارين والعتاة، فكيف واجههم (صلى الله عليه وآله). وفرض الهيمنة الإيمانية عليهم، واستفاد من الحديد ومن البأس الشديد في أوقات الشدة، والخطر الداهم، عبر الأجيال المتلاحقة؟!

قبل أن نجيب على هذا السؤال نقول:

إذا كانت طبيعة هذا الدين تحتم فرض هيمنة قد تحتاج إلى الاستفادة من الحديد لأجل إنجاز المهمات الجسام، وصيانة المنجزات، وكان المتولي لفرض هذه السلطة في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) كان الخلاف في أمر الإمامة والسلطة والهيمنة قد ظهر بصورة عنيفة وقاسية، بل كان أعظم وأخطر خلاف في الأمة، حتى ليقول الشهرستاني:

«وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية ، مثلما سُلَّ على الإمامة في كل زمان»(1).

ويقول البعض أيضاً: إن ترك أمر الإمامة من دون حل (!!) كان «سبباً لأكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع

ـــــــــــــــ

(1) الملل والنحل ج1 ص24.

/صفحة 64/

الشقاق والحروب المتواصلة، التي قلَّما يخلو منها زمن، سواء أكان بين بيتين، أو بين شخصين»(1).

وإذا كان أمر الإمامة حساساً وخطيراً إلى هذا الحد، فكيف يمكن أن نتصور أن يكون الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) قد تركاه من دون حل، خصوصاً وأن الله هو الذي يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي}(2).

الجواب القرآني:

على أن الإجابة على ما طرح من تساؤل، تتضح بصورة أتم بالعودة إلى القرآن الكريم حيث نجد فيه الإجابة الكافية والوافية فهو تعالى يقول:

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(3).

فإن هذه الآية قد نزلت في مناسبة إعلان يوم غدير خم، فيما رواه المسلمون بطرق كثيرة، ومتواترة.

وقد أظهرت هذه الآية الكريمة: أن هذا البلاغ المطلوب يصادم توجهات كثير من الناس، وأن نصيبه منهم هو الرفض الشديد إلى درجة احتاج النبي (صلى الله عليه وآله) معها إلى العصمة والحفظ منهم.

وأظهرت أيضاً: أنه بلاغ شديد الخطورة، بحيث لولاه لم يمكن للرسول (صلى الله عليه وآله)

ـــــــــــــــ

(1) محاضرات في التاريخ الإسلامي لمحمد الخضري، ج1 ص167.

(2) سورة الشورى، الآية 10.

(3) سورة المائدة، الآية 67.

/صفح65/

تهيئة سبل إنجاز مهمته، التي هي أساس وعنوان رسوليته {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(1).

ولاسيما بالنسبة لمن يأتون بعده، مع أنه مبعوث إليهم، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}(2). وقد قلنا: إن تلك المهمات هي تلاوة الآيات عليهم ، وتزكيتهم ، وتعليمهم الكتاب والحكمة، وإلخ..

بل إنه ـ بدون هذا البلاغ ـ لا يكون قد حقق الإنجاز المطلوب منه حتى بالنسبة للأمم التي عاصرته، بل وحتى بالنسبة للذين أسلموا معه، وصاروا صحابته، والذين أظهر القسم الأعظم منهم الإسلام بعد فتح مكة في السنتين التاسعة والعاشرة، أي قبيل وفاته (صلى الله عليه وآله). حيث بدأت القبائل في سنة تسع توفد جماعات منها لإعلان الإسلام والولاء، فسميت تلك السنة بـ «سنة الوفود».

ثم توفي النبي (صلى الله عليه وآله)، ولم يكن الإسلام قد تجذر أو استحكم في قلوب الكثير من هؤلاء الناس. فحاول أهل مكة أن يرتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) لكن سهيل بن عمرو قام فيهم، ونصحهم، وذكّرهم بوعد النبي (صلى الله عليه وآله) بأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح لهم؛ فثبتهم بذلك.

وهذا موقف محمود ومشكور لسهيل.

ولو أنهم مضوا في ردّتهم لحدثت كارثة حقيقية على مستوى المنطقة بأسرها، وبالنسبة لمستقبل هذا الدين. ولكن الله سلَّم، وله المنة والحمد.

ـــــــــــــــ

(1) سورة المائدة، الآية67.

(2) سورة الجمعة، الآية3.

/صفحة 66/

خلاصات وبيان:

وخلاصة الأمر: أن هذا البلاغ، الذي احتاج الرسول (صلى الله عليه وآله) معه إلى العصمة، والحفظ الإلهي من الناس كان جزءاً من الخطة الإلهية في نطاق تمكين النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من القيام بمهماته الخطيرة في هداية الأمة، ورعايتها من موقع رسوليته، ومبعوثيته لها، سواء في ذلك من عاصره، أو من جاء بعده وهي هداية أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون له من خلال الرعاية والتنئشة الهادية، وفق المعايير التي توصل إلى الأهداف الإلهية التي أراد الله سبحانه للأمة أن تصل إليها، وذلك بدءاً بالتزكية، ثم بتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، وانتهاءً بحراسة الواقع الإيماني، وصيانته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة شرع الله سبحانه، من موقع الهيمنة والسلطة، حيث يكون الحديد بما فيه من بأسٍ شديد، وسيلة صيانة للحق، وسبب حفظ للدين.

التصريح والتوضيح:

ولكي تصبح الفكرة أكثر وضوحاً وتألقاً نقول:

لأن الإسلام بما له من مواصفات وخصوصيات، وشؤون وحالات، ثم بما له من شمولية وعمق، وما يحتاج إليه من ظروف ومناخات وقدرات ووسائل وأدوات.

ولأن هذا النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) مبعوث للناس جميعاً، سواء في ذلك من عاصره ممن أسلم، أو لم يسلم، ومن جاء بعده من الأمم إلى يوم القيامة.

/صفحة 67/

ولأن مهمته (صلى الله عليه وآله) لا تنحصر ببلاغ الأحكام الشرعية(1)، وبعض التفاصيل الاعتقادية، بل تتعدى ذلك إلى تزكية نفوسهم، وتصفية أرواحهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة، وإقامة شرائع الله وأحكامه، ونشر بيارقه، وأعلامه.

ولأن طبيعة التشريع، وخصوصيته، وطبيعة التحديات التي ستواجه هذا الدين. تفرض امتلاك قدرات عملية، فربما يكون الحديد بما فيه من بأسٍ شديد أحد مظاهرها.

نعم، من أجل ذلك كله، وسواه، مما تقدمت الإشارة إليه، جاءت الخطة الإلهية متناسبة مع طبيعة الهدف، ومنسجمة مع حقائق الإسلام والإيمان، ومنطلقة منها، وتوصل وتنتهي إليها.. فكان بلاغ الناس لذلك الأمر الذي يعني فقده أن يفقد الإسلام كينونته، ويخسر حياته الفاعلة والمؤثرة: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(2).

ـــــــــــــــ

(1) بل إن بعض التشريعات، وكذا بعض الحقائق عن الكون، وعن الحياة، وشؤونها ، لم يكن يمكن له (صلى الله عليه وآله) بيانها لعامة الناس، فلو أنه (صلى الله عليه وآله) قال لهم: إذا صعد الإنسان إلى القمر مثلاً، فإن عليه أن يصلي بهذه الطريقة، أو بتلك، أو لو قال لهم: إنه يمكن أن يرى من في المشرق من في المغرب بواسطة جهاز تلفاز، وأن حكم النظر إلى صور الخلاعة فيه هو كذا. أو تحدث لهم عن جهاز الكمبيوتر، أو اللاسلكي، أو نحو ذلك مما اكتشف حديثاً، فإنهم سوف لن يساورهم أي شك في أنه ساحر أو مجنون. ولصدهم ذلك عن الإيمان بنبوته، وعذرهم في ذلك واضح.

(2) سورة المائدة، الآية67.

/صفحة 68/

وكان هذا البلاغ يحتاج إلى العصمة الإلهية أيضاً، فكيف بما بعد هذا البلاغ؟!

الاختيار الطبيعي:

وكان أهل البيت (عليهم السلام) هم عنوان هذا البلاغ، ومداه. وهم روحه وحياته، ومحتواه إذ بجهادهم وجهدهم، وقيادتهم للأمة، يتحقق الإنجاز الكبير، والخطير، ويكون بقاء هذا الدين، وذلك لأنهم:

1ـ هم التجسيد الحي للنموذج الخالص، والمرآة الصافية التي تعكس الإسلام: عقلاً، وروحاً، وأحاسيس، ومشاعر، وميزات، وخصائص، ثم نهجاً وموقفاً، وحركة، وسلوكاً. وكيف لا، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً، وهم صفوة الله من خلقه، وخيرته من عباده.

2ـ إنهم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وهم عيبة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهم أحد الثقلين اللذين لن يضل من تمسك بهما .وهم أيضاً سفينة النجاة ومصباح الهدى.

ومن خلال هذين الأمرين تبرز أمام أعيننا حقيقتان:

إحداهما: أن هذين الأمرين يمكّنان أهل البيت من إنجاز مهمة التزكية الروحية، وتصفية النفوس، وتطهير الفطرة وتخليصها من كل الشوائب التي علقت أو تعلق بها.

الثانية: إن هذه المعرفة الهادية، والعلم الزاكي، المتدفق من منبعه الأصفى، هو الذي يرفد الفكر ليتحرك وفق الضوابط والمعايير، التي لا يتنكر لها، ولا يشذ عنها. لينتج الوعي والهدى والصلاح في الأمة كلها.

فالرسول يستطيع بهذه الطريقة أن يحفظ للأمة المبعوث إليها حقها في

/صفحة 69/

تعلم الكتاب والحكمة، وفي التزكية الروحية، وفي إقامة شرع الله، وفي وضع الإصر والأغلال عنهم. ويعمل على نشر أحكام الدين، وشرائعه في الوقت المناسب، وبالأسلوب والطريقة المناسبة.

ويكون بلاغ الرسول هو ذلك القرار الإلهي بإعطائهم (عليهم السلام) حق ممارسة الحاكمية، ويحمِّلهم ـ من ثم ـ مسؤولية الرعاية، والهداية، والتزكية، بكل ما لذلك من مسؤوليات، ومستلزمات، ومن آثار وتبعات.

وهذا يستبطن إلزام الأمة بالطاعة وبالتسليم لهم، وهم الأئمة الأطهار، الاثنا عشر (عليهم السلام)، والثقل الذين لن يضل من تمسك بهم وبالكتاب، وهم سفينة النجاة. التي تحمل هذه الأمة إلى ساحل الأمان، لتسير باطمئنان في دروب الخير، والهدى، والصلاح، والسداد.

وذلك هو ما نفهمه من تلك الآيات الكريمة والمباركة. وخصوصاً قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(1).

عصمنا الله جميعاً من الزلل والخطل، في الفكر، وفي القول والعمل، إنه ولي قدير، وبالإجابة حري وجدير.

والحمد لله رب العالمين.

جعفر مرتضى العاملي

ـــــــــــــــ

(1) سورة المائدة، الآية67.

/صفحة 70/

/صفحة 71/

القسم الخامس:

المرجعية الرشيدة: اتجاه واحد

كتب هذا المقال لمناقشة ما جاء في مقال للدكتور حسن سلمان نشرته جريدة السفير البيروتية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين،  والصلاة والسلام على رسول الله وآله الأطهار..

وبعد..

إن مشكلتنا في حياتنا الفكرية هي أننا ندعي الدعاوى العريضة، ولكننا حين يبلغ الحق مقطعه نعود لننكمش داخل سجن خصوصياتنا الفردية، ونتقوقع في أعماق ذلك السجن العتيد والفريد.

إننا نقول للناس: لابد من النقد البناء، فإذا جاء النقد البناء اعتبرناه جريمةً لابد من العقاب عليها ـ ولن يكون ذلك العقاب أقل من سحق من ينقدنا إلى درجة الإبادة.

ولا حرج إذا اتهمناه بأنه يعمل لصالح المخابرات الأمريكية أو غيرها، وحين يراد تلطيف الأجواء فلا ضير في أن يقال: إن هذا المسكين ـ بسبب طيبته وسذاجته ـ قد وقع تحت تأثير أجواء مخابراتية من حيث لا يدري.

/صفحة 72/

فإن لم يمكن اتهامه بذلك، فلابد من اتهامه بأنه ينطلق من موقع العقدة بسبب قضية مالية أراد منا مساعدته فيها، ولم نجد مبرراً شرعياً لذلك. أو من موقع الحسد، والقصور عن الوصول إلى الموقع والمقام الذي وصل إليه الآخرون.

وفيما عدا ذلك فهناك تهم كثيرة، وجاهزة. ويمكن توزيعها على الأشخاص، حسب قياساتهم عند الحاجة أما أفعالهم أو أقوالهم الخاطئة أو المتناقضة، فلا بد أن تبقى في موقع القداسة، لا ينالها تغيير ولا تبديل، وهناك الكثير من المبررات الموهونة أو الموهومة الجاهزة.. وعلى الناس أن يصدقوها وأن يتقبلوها بقبول حسن، ومن دون أي نقاش.

وقد كنا نود أن لا نعرض أنفسنا لذلك كله، ولكن وبعد أن طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، أحببنا أن نجرب حظنا مرة أخرى بمداخلة صغيرة ومحدودة جداً، حول ما يطرحونه من نظريات، حول المرجعية.. واتجاهاتها، فلعل الجمل يلج في سم الخياط، دون أن يصغر الجمل، أو أن يتسع سم الخياط عن حده، وينقلب إلى ضده. فهل تحدث المعجزة، ونسلم من الاتهامات مع أننا نقطع وعداً على أنفسنا أن لا نسمح لأنفسنا بتجاوز الخطوط الحمر في النقد البناء والموضوعي، بل نبقى في حدود نقد الحواشي ولا نتعداها إلى المتون، حيث هناك السرّ المصون والمكنون، الذي لا مجال للإشارة إليه، ولا للدلالة عليه.

إن ما نريده هنا هو فقط تسجيل تحفظ على العموميات والمطلقات التي أوردها في هذا المجال..

/صفحة 73/

ونستطيع أن نلخص فكرتنا وتحفظاتنا في ضمن النقاط الآتية:

1ـ قالوا: هناك اتجاهان فيما يرتبط بالمرجعية: قديم، وحديث.

وقد سموا الاتجاه الحديث بالمرجعية الرشيدة، أو الشاملة، والمعاصرة، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من حداثة وتجديد وشمولية، ووعي لكل ما يمثله العصر.

واعتبروا فلاناً من الناس، الذي أثارت آراؤه في العقيدة وفي الدين موقفاً حاسماً من مراجع الأمة وعلمائها(1)، اعتبره محبوه على أنه أحد أهم دعاة التيار الثاني، وأحد صانعي هذا الاتجاه، وأنه قد ساهم في وضع أسس هذا الاتجاه مع آية الله السيد الشهيد الصدر منذ الخمسينات.

ثم ميّز ما بين الاتجاهين:

أولاً: بأن الاتجاه القديم التقليدي: يرى أن الأهلية للمرجع تتمثل بمدى تعمّقه بالفقه والأصول، وشؤون العبادة الأخرى.

أما الاتجاه الثاني: فيضيف إلى ذلك الإيمان بقيام المجتمع الإسلامي وضرورة الفهم للعصر الذي يعيشه المرجع. ويكون حاضراً في أية قضية من قضايا الساعة التي تواجه الناس في حياتهم.

وثانياً: إن المرجعية التقليدية تقع على أعباء الفرد، ومجموعة صغيرة تسمي نفسها بالحاشية.

ـــــــــــــــ

(1) وسوف نعبر عن هذا البعض بكلمة «فلان» في سائر الموارد في هذه المقالة، فليلاحظ ذلك.

/صفحة 74/

أما الثاني: فينطلق من العمل المؤسساتي للمرجعية. أي بتوسيع نطاق المجموعة التي ترعى شؤون الأمة القيادية، وإعطاء الصلاحيات لأكثر من اتجاه.

وقبل أن نذكر توضيحات لهذا الأمر. نذكّر القارئ بالنقاط التالية:

أولاً: إن من الواضح: أن المرجعية إذا كانت تعني مجرد رجوع الجاهل بالحكم الشرعي إلى أهل الخبرة في الفتوى الشرعية المستنبطة من أدلتها. فهذه الفتوى لا تحتاج إلى مؤسسات، ولا إلى توزيع المسؤوليات القيادية لهذا الاتجاه أو ذاك.

وإذا كانت المرجعية تعني قيادة الأمة، فلم نجد أحداً يدعي: أن هذه المرجعية القائدة لا تحتاج إلى معرفة بالزمان وأهله، وإلى الانفتاح على قضايا الساعة التي تواجه الناس في حياتهم. لاسيما مع وجود النصوص الإسلامية الصحيحة والصريحة الدالة على هذا الأمر.

كما أننا لم نجد أحداً ينكر حاجتها إلى الأجهزة الفاعلة، والمؤسسات الكبيرة الواسعة.

ثانياً: إننا لا ندري متى وكيف أسس الشهيد الصدر مع فلان من الناس للمرجعية الرشيدة. فهل لم تكن قبل هذين الرجلين مرجعيات رشيدة، وقوية، وفاعلة؟!

ألم يكن الشيخ المفيد (رحمه الله) مثلاً، أو السيد البروجردي، أو الميرزا الشيرازي قائداً رشيداً للأمة ؟! وألم يكن السيد الإمام الخميني قائداً رشيداً للأمة، ومنفتحاً على قضاياها ومشاكلها وشؤونها ؟!

/صفحة 75/

وألم يكن يؤمن بالعمل المؤسساتي المنظم ؟!

وألم يكن يحمل همّ الأمة، ويعيش أحداث العصر بوعي وبعمق؟!

ألم يؤسس دولة عتيدة وقوية، ويضع لها دستوراً فريداً ومتميزاً ؟!

ألم يكن هو رائد العمل المؤسساتي في هذا العصر؟!

ألم يطلب من كل أقاربه، حتى من أولاده الذين كانوا يملكون كفاءات عالية في إدارة الأمور، أن لا يتدخلوا في شيء من شؤون الدولة؟

أم أنه أخذ نظام المرجعية الرشيدة من هذا الشخص، أو ذاك؟! ومتى؟ وكيف؟

وهل مؤسسات فلان أعظم من مؤسسات السيد موسى الصدر، والسيد الإمام الخميني، والسيد الحكيم، والسيد الخوئي. والبروجردي، والكلبايكاني وغيرهم ممن امتدت مؤسساتهم إلى كثير من بلدان العالم، وهي مؤسسات متنوعة المقاصد والاتجاهات؟!

أليست المؤسسات التي أنشأها فلان قد كانت أساساً راجعة في تمويل إنشائها، وفي كل حركتها إلى الإمام الخميني، والسيد الخوئي وغيرهما من المراجع العظام، الذين كان وكيلاً لبعضهم بقبض الحقوق، وصرفها في مواردها التي يقررها له هؤلاء المراجع؟‍‍

وكيف ترعى مؤسسات فلان شؤون الأمة ككل؟! وأين ؟!

ثالثاً: بالنسبة لحاشية المرجع، نتساءل: هل هؤلاء الأفراد الذين يستعين بهم المرجع في إدارة الأمور، هم الذين أطلقوا على أنفسهم اسم: [الحاشية]؟! أم أن غيرهم هو الذي يطلق عليهم هذه التسمية؟!..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 76/

وهل أصبح الجهاز العامل عند فلان أكبر من حاشية أي مرجع آخر وأوسع؟! وهل الجهاز الذي يدير الشؤون عنده يتعدى حدود أفراد جمعية.. من الجمعيات ؟!

والسؤال الأهم هو: هل إن مختلف الشؤون والصلاحيات قد أعطيت عند فلان لفئات أخرى غير مجموعة الأبناء والأخوة والأصهار، الصغيرة؟!

وهل هناك أية صلاحيات مطلقة للآخرين، لا تخضع لهيمنة وقرارات هؤلاء الأفرع الثلاثة ؟!

وهل روعيت مواصفات معينة في اختيار هؤلاء للهيمنة على الشؤون؟!. وهل روعيت الشمولية وغيرها من أمور؟!

رابعاً: وفي الخمسينات كان فلان!! في مقتبل شبابه حيث إنه إنما ولد في سنة 1935م وغادر النجف في سنة 1966.

فهل كان موقعه العلمي في الخمسينات يسمح له بالتأسيس للمرجعية؟! مع أنه كان لا يزال طالباً، كمئات غيره من الطلاب الآخرين؟!

سواء أكان التأسيس منه بالاستقلال أم كان بالاشتراك مع الآخرين، من أمثال آية الله الشهيد الصدر، وحتى لو كان في الستينات، فهل يمكن أن نتصوره مؤسساً للمرجعية في بلد كان مليئاً بالأفذاذ من العلماء، وبالفلاسفة، والمحققين ؟! وبالمراجع الكبار؟‍

2 ـ أما قول البعض:

إن فلان، هو صاحب مشروع أو فكرة المرجعية الشمولية..

فلا ندري كيف عرف حفظه الله أن فلاناً!! بالذات هو صاحب هذه

/صفحة 77/

الفكرة دون سواه؟

ولماذا لا يكون صاحبها هو آية الله السيد الشهيد الصدر، حيث خفي علينا الفرق بين المرجعية الرشيدة التي يطرحها الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه، وبين المرجعية التي يطرحها فلان: مع علمنا بأن آية الله الشهيد الصدر كان هو الطليعة الرائدة، وكان أكبر سناً، وأسبق طرحاً لهذا الموضوع فيما يظهر مما بأيدينا من معطيات..

بل لماذا لا يكون آية الله العظمى الإمام الخميني هو صاحب هذه الفكرة ورائدها، كما يظهر من كل مواقفه، وأقواله؟!

بل لماذا لا يكون السيد القائد الخامنه ئي هو صاحب هذه الفكرة.

ولماذا لا يكون صاحب هذه الفكرة هو شخص آخر من مراجعنا الأفذاذ، الذين تصدوا لقضايا الأمة الكبرى والحساسة قبل هؤلاء جميعاً، من أمثال صاحب الموقف الرائد العظيم الميرزا الشيرازي، الذي أفتى بتحريم التنباك، فأفشل بذلك المخطط الاستعماري البغيض.

ومن أمثال مرجع الشيعة في بلاد الشام: الشيخ عبد الله نعمة، الذي دفع السوء عن النصارى وردّ عنهم حينما استجاروا به في سنة 1860م. وقد كان لهذا الحدث العظيم أثر هام في بلاد الشام، وقد ذكر المؤرخون تفاصيله الهامة والمثيرة.

ومن أمثال مراجعنا العظام، ومن معهم من العلماء الأعلام، في قيادتهم لثورة سنة 1920م في العراق ضد الاستعمار.

وكذلك العلماء الذين حاربوا الروس دفاعاً عن الأمة في إيران، وعلى

/صفحة 78/

رأسهم السيد محمد الطباطبائي الذي لقب لأجل ذلك بالمجاهد.

هذا فضلاً عن العلماء والمراجع الذين عاشوا قضية الحكم، وخاضوا صراعاً حاداً عرف باسم «صراع المشروطة والاستبداد في إيران».

3 ـ وبعد ما تقدم، فهل يمكن، أو على الأقل هل من مبرر لأن يقول أحد من الناس عن المرجعيات التقليدية [حسب اصطلاحهم]: إنها تنطلق من الحاجات الصغيرة، وإذا انطلقت في بعض العناوين الكبيرة ؛ فإنها تشبه أن تكون قفزة في الفراغ، ويعزي ذلك إلى عدم وجود الجهاز بالمستوى الذي يلاحق فيه حركة الواقع الذي أفرزته الفتوى أو الموقف.

ونقول:

هل كانت ثورة العشرين، ودولة الإسلام في إيران، بكل منجزاتها ومؤسساتها، وكذلك كل جهود ومؤسسات السيد الحكيم، والإمام الخميني، والسيد الخوئي، والبروجردي، والكلبايكاني، في الداخل والخارج، وجهاد وجهود السيد القائد الخامنه ئي ـ هل كانت هذه كلها وسواها ـ بمثابة قفزة في الفراغ، ومنطلقة من الحاجات الصغيرة؟!

وهل ما قام به الشيخ موسى كاشف الغطاء من الصلح بين الدولتين العراق وإيران، حتى سمي بـ «المصلح بين الدولتين» قد كان قفزة في الفراغ، ومن خلال أنه يعيش القضايا الصغيرة ؟!

وكذلك الحال بالنسبة للسيد أسد الله الشفتي، الذي جرّ الماء من الفرات إلى النجف الأشرف متمماً بذلك ما شرع به صاحب الجواهر (رحمه الله)، فهل كان هو وصاحب الجواهر يعيشان الحاجات الصغيرة؟!

/صفحة 79/

وهل السيد الشفتي الملقب بـ «حجة الإسلام» الذي كان حاكماً في أصفهان، ويقيم بها حدود الله وأحكامه بصلابة وحزم، هل كان هو الآخر لا يحمل هموم الأمة، ولا يعيش قضاياها، وإنما ينطلق من الحاجات الصغيرة، ويمارس القفز في الفراغ؟

ولم يكن لديه جهاز يلاحق القضايا الكبيرة؟!.

هذا كله عدا عن تصدي الشيخ جعفر كاشف الغطاء لمتابعة شؤون الحرب، التي شنها الأعداء على إيران، مصدراً تعليماته بذلك للشاه القاجاري لإيران من موقع ولاية الفقيه، حسبما جاء في كتابه كشف الغطاء.

ألم يبنِ المراجع في إيران وغيرها: المدارس، والمستشفيات، والمستوصفات، وحتى الجسور الكثيرة الكبرى، وغير ذلك، إلى جانب المؤسسات، الإعلامية، والجمعيات الخيرية وغيرها.

ولنفترض أن فلاناً!! قد عاش في ظل حكم الشاه المقبور، أو أي طاغوت آخر، فهل كان سيجد نفسه قادراً على إنشاء المؤسسات ـ كمبرة الإمام الخوئي، وإذاعة البشائر، وغير ذلك من مؤسسات خيرية، ساهم المراجع العظام في تمويلها بصورة رئيسية، أو بصورة تامة.

وهل سيكون قادراً على أن يمارس حريته في التعبير عن رأيه السياسي بوضوح؟

أم أن للبنان خصوصيته الفريدة، التي سبقه للاستفادة منها سماحة الإمام السيد موسى الصدر، الذي كان له الفضل في إطلاق المؤسسات الكبرى والمتنوعة في هذا البلد لبنان، وكذلك الحال بالنسبة لجهود علماء آخرين غير

/صفحة 80/

السيد الصدر أيضاً.

أم أن كل هؤلاء وأولئك قد قاموا بقفزة في الفراغ، وينطلقون من الحاجات الصغيرة، ولم يكن لديهم جهاز يلاحق حركة الواقع.

وهل لدى فلان!! الآن جهاز بالمستوى الذي يلاحق فيه حركة الواقع؟. وأين هو هذا الجهاز؟!

4 ـ أما ما قاله فلان!! عن المرجعية الرشيدة: إنها سوف تكون في واجهة الأحداث، تصنع الأحداث، لا تركض خلف الساحات، ولا تمارس أفعالاً كردات فعل، كما كانت في السابق.

فنقول فيه: إنه وإن كان يكفينا في التعليق على هذه الفقرة ما ذكرناه آنفاً، لكننا آثرنا أن نعود فنذكّر، بأن الإمام الخميني (رحمه الله) لم يكن يركض خلف الساحات، ليمارس أفعالاً كردات فعل.

والسيد الحكيم لم يكن كذلك أيضاً.

والشيخ الميرزا الشيرازي في فتواه الشهيرة لم يكن كذلك أيضاً.

وثورة العشرين هي الآخرى لا ينطبق عليها هذا التقييم.

وعلماؤنا الذين نشروا الدين من موقع مرجعيتهم في الدولة الصفوية وقبلها في دولة (سربداران)، وفي كثير من المواقع الحساسة في التاريخ القديم والحديث، لم يكونوا كذلك أيضاً.

ولنفترض: أن المرجعية كانت محاصرة بالطاغوت، كما كان الحال في عهد الشهيد الصدر، والسيد الخوئي. والسيد الحكيم، وكما في عهد الشاه في إيران، فكيف يرى دورها فلان؟!

/صفحة 81/

ولو ابتلي هو نفسه بهذا الطاغوت، فكيف سيكون موقفه يا ترى، فهل سنبقى دائماً نسمعه يتحدث بنفس الأسلوب التحريضي الحاد، وبنفس المستوى من التحدي، وإطلاق الشعارات؟! أم أن كل شيء سيتغير؟! ويصبح ذلك الإنسان العقلاني، الهادئ.. الذي يتظاهر بأنه مشغول بأمور أخرى يصور للناس بأنها أساسية وهامة؟!

وهل سيكون قادراً على الاستمرار بكل خططه المؤسساتية، بنفس الحدة والشدة؟

5 ـ أما ما يقولونه، من أن: «ساحة المرجعية الشيعية بالخصوص مازالت قلقة تعيش قيادات أخرى غير ما هو مطروح بالفعل من قبل قم أو النجف. لكن التعقيدات الموجودة والتي يلمسها ويعرفها الجميع تمنع أن يطرح هذا الاسم أو ذاك».

أما هذا فهو يدفعنا لسؤال هؤلاء عن ذلك الرجل الفذ القادر على أن يكون هو التجسيد الحقيقي للمرجعية الرشيدة ذات الاتجاه الحديث، الذي تمنع التعقيدات من ذكر اسمه؟!

فهل ثمة أسماء لا تزال مجهولة لم يطرحها أهل الخبرة بالعلماء؟!، أو لم تطرح هي نفسها رغم عدم شهادة أحد من أهل الخبرة لها؟!

والذي نريد التذكير به هنا هو أن هؤلاء إما يحاولون تسويق دعوى ـ قد أثبتنا بطلانها ـ هي أن رائد فكرة المرجعية الحديثة والشاملة والمعاصرة، هو فلان، الذي يوافقهم في اتجاهاتهم، التي تعاني الكثير من الإشكالات في نواح عقيدية وإيمانية وأحكامية و.. إذ إنهم يرون أن التسويق له سيجعل لهم نصيباً

/صفحة 82/

في هذا الأمر، ولكنهم يتناسون أن نفس هذا الذي ينحلونه هذا الأمر، قد كان إلى الأمس القريب يطرح مرجعيات الآخرين، كالسيد السيستاني، والسيد الكلبايكاني، والسبزواري، والسيد الخوئي. وغيرهم، مع أنه لا يرى فيهم مؤهلات المرجعية الحديثة والمعاصرة.

ولكنه لا يطرح مرجعية السيد الخامنه ئي، مع أنه يشهد له بالحداثة والمعاصرة، فما هذا الاضطراب في المواقف والممارسات؟!.

ولا يصح الاعتذار عن ذلك بأن من الجائز أن يكون في نظره ليس هو الأعلم.

نعم، لا يصح هذا الاعتذار، لأن هذا البعض نفسه، لا يشترط الأعلمية في المرجع. مع أن السيد الخامنه ئي يستطيع بحكم قدراته وموقعه، والإمكانات المتوفرة لديه أن ينطلق بالمرجعية المؤسساتية إلى أقصى مدى ممكن. حسب تعابير هؤلاء..

وقد زاد هذا البعض في الطنبور نغمة، أنه حين بدأ بالدعوة إلى مرجعية نفسه قد رجح إسقاط اشتراط شهادة أهل الخبرة بالاجتهاد، والأهلية للتقليد، والأعلمية. مع اتفاق العلماء على أنه لابد من شهادة الآخرين من أهل الخبرة بذلك كله. كما أن شهادة الإنسان لنفسه لا تكفي ولا تجدي، مهما كان مأموناً وموثوقاً لدى الناس.

وأما حديث هؤلاء الناس عن الخوف من طرح بعض الأسماء فهو مما يضحك الثكلى !! فهل بقي اسم لطامح أو طامع لم يطرح على الساحة؟! حتى إنك لتجد أن فلاناً (!!) الذي صرح أفذاذ المجتهدين، ومنهم آية الله العظمى

/صفحة 83/

الشيخ التبريزي، بعدم اجتهاده، ومنهم آية الله السيد كاظم الحائري، الذي يعرفه أكثر من أي شخص آخر..

بل إن من المصرحين بأنهم يشكّون في أصل اجتهاده الشيخ النوري الذي كان في البداية مناصراً له، ثم ظهر له عدم صحة موقفه هذا، فتراجع عنه..

ويبقى لنا سؤال هنا، وهو: من أي شيء يخاف الناس، حتى لا يستطيعون الجهر بالاسم السحري، الذي لا يزال سرياً، ومغموراً ومستوراً؟!

وهل لمن يهمسون ويجهرون بذلك: أن يذكروا لنا طرفاً من هذه التعقيدات المانعة والرادعة؟!

6 ـ ويستوقفنا أخيراً قول هؤلاء: «إن الأمور لو تركت إلى الناس أنفسهم لاختاروا من بين الأسماء الكثيرة المطروحة على الساحة خياراً توفيقياً عملياً، هو مجلس شورى بين الفقهاء والعلماء، يملأ الفراغ الحاصل في ساحة المرجعية. ولكان فلان(!!) ألمع الأسماء المطروحة ضمن هذا الاتجاه.

وعلى كلٍ، فإن القرار النهائي والفعلي سوف يعود إلى الناس، ولو بعد حين».

ونقول لهؤلاء:

لا ندري من الذي يقيد الناس، ويمنعهم من اختيار شخص أو أشخاص ليكونوا مجلس شورى للمرجعية ؟!

إلا أن يكون هو حاجز الدين، والالتزام بالحكم الشرعي، الذي يجعل الإنسان التقي والعاقل. يعرف حده فيقف عنده، فليست القضية هي قضية عدد من رؤوس الباذنجان أو البطيخ، يختارها الناس، أو لا يختارونها.. إنها

/صفحة 84/

قضية الدين وبراءة الذمة، وقضية الأمة في التزامها بأحكام الله، وسيرها في الخط الصحيح والصريح..

وكما أنه ليس من حق السائق، والحداد والبقال: أن يعطي شهادة جامعية في الطب، أو في الفيزياء لهذا الشخص أو ذاك. فإنه لا يحق له أيضاً أن يعطي وسام جدارة واستحقاق لمقام المرجعية، من خلال معرفته كحداد أو صائغ، أو سائق، أو بقال, ولا أن يعين لنا الأعلم بأمور الشريعة، والأعرف بشؤون الأمة، الحائز على كل المواصفات والمؤهلات القيادية اللازمة، من تقوى وورع، وحزم، وشجاعة، ووعي، وغير ذلك مما لا بد من توفره في من يتصدى لهذا الأمر الخطير.. بصورة مميزة، وجامعة، وفريدة.

ومتى كان للناس الذين لا يملكون الخبرات الكافية في مجالات الفقه والأصول والرجال والحديث و.. متى كان لهم القرار النهائي في شأن المرجعية، وشوراها؟!

وهل سأل الناس أهل الخبرة ـ ولم يجيبوهم ـ عن الأعلم، والأتقى، والأورع، الجامع لكل المواصفات اللازمة للقيادة وللمرجعية الشاملة، ليتولوا هم هذه المهمة دونهم؟! ـ أوهل سألوهم عنه، ودلوهم عليه ليمكنهم أن يمنحوه منصب المرجعية، أو على الأقل العضوية في شوراها؟!

هل سألوهم عنه، كما يسألون الأطباء الثقات والمتمرسين عن الطبيب الأمين الحاذق، القادر على نجاة ولدهم من مرضٍ خطير، قد يؤدي أدنى خطأ في معالجته إلى كارثة حقيقية، تؤثر على حاضره وعلى مستقبله ومصيره؟!.

وثمة كلام واسع حول جدوى شورى الفقهاء في حل المشكلة من

/صفحة 85/

الناحية الشرعية، حين يكون رأي أكثرية أفراد الشورى يختلف مع رأي الأعلم إذا كان بينهم، وكان إلى جانبه أقلية لا تحسم الأمر لصالح الأخذ به، من حيث عدد الأصوات.

فهل ثمة من مبرر شرعي للأخذ برأي غير الأعلم لمجرد كثرة الأصوات إلى جانبه، وترك رأي الأعلم الذي لم يوفق إلى ذلك؟!.

وهل شورى الفقهاء هي الحل الأمثل في قضايا الاجتهاد والتقليد، وفي قيادة الأمة وهدايتها؟!.. بغض النظر عن الأبعاد والأهداف الداعية إلى طرح كهذا، وبغض النظر عن سلبياته من حيث إنه يفسح المجال أمام أصحاب الطموحات، ويخضع أمر الانتخاب إلى معايير وضوابط ليس من المفروض أن يكون لها دور في مجالات كهذه.

وبعد.. فإننا نستميح جميع الأخوة الذين يعيشون تحت تأثير هاتيكم الشعارات، العذر على هذه المداخلة (المداعبة الفكرية) التي يفترض فيهم أن يتقبلوها من موقع الحب والرضا.

والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطاهرين.

/صفحة 86/

/صفحة 87/

القسم السادس:

الترجمة والتعريب

تقديم لمقدمة السيد هاشم الميلاني لكتاب منتهى الآمال.

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

تقديم:

إن من البديهي: أن الناس كما يختلفون في طبائعهم، وفي سلائقهم، فإنهم يختلفون ويتفاوتون أيضاً في أمور أخرى. فالتنوع والاختلاف ظاهر في التوجهات والطموحات، ثم يتبلور ذلك بصورة وبأخرى ولو جزئياً على شكل بوادر ولمحات في كثير من المفاهيم والتصورات. ثم في مجال الممارسة وتسجيل الموقف.

ولكن هذا التنوع يترافق مع وجود قواسم مشتركة تهيمن على المسار العام، وتتحكم فيه. وإليها يرجع الغالي، وبها يلحق التالي.

/صفحة 88/

التنوع في المجالات كافة:

وطبيعي أن يتجلى هذا التنوع والاختلاف ـ إن صح التعبير ـ بصورة إيجابية، وبناءة، وحتى خلاقة في مجالات كثيرة على شكل صور وجودية حية، فيها الكثير من الإبداع والجمال. وتحمل في حناياها لمحات ولفتات، تعتصر منا دون اختيار المزيد من الإعجاب بها، بل الانبهار المحيّر في أحيان كثيرة.

ثم هي تسهم ـ شئنا أو أبينا ـ في إثراء الفكر، وفي صقله، ثم في بلورة الملامح الجمالية وصياغتها، وتعطيها المزيد من النقاء والصفاء، حتى لتصبح قادرة على أن تعكس نفسها في مرآة الفطرة والوجدان، بكل ما لديها من طاقات وقدرات في نطاق التنوع والخلاقية في أبعد مدى لهما.

 حتى العلوم النقلية:

ولا يمكننا استثناء المجالات الثقافية، وتدوين العلوم والمعارف، حتى ما كان منها بصورة تقريرية من هذه الظاهرة؛ فإن ذلك ينسحب حتى على علوم الحديث، والسيرة، والتراجم والتاريخ أيضاً؛ لأن اختلاف السلائق فيها قد ترك له آثاراً بارزة على وعينا لها، من أنه قد هيأ المناخات لإبراز حقائق، وتأكيد ملامح متنوعة وأساسية، قد أفادت الباحثين كثيراً، حينما فتحت لهم آفاقاً رحبة، زاخرة وزاهرة. ومرصعة بالكثير الكثير من الدرر النادرة والفاخرة.

 ضرورة الانفتاح على تراث الآخرين:

وما تقدم يؤكد لنا ضرورة الانفتاح على كل التراث الفكري لسائر الشعوب والأمم، للوقوف على تجاربهم، والإفادة من منجزاتهم في إثراء الفكر الإنساني، وبلورة التجربة الحضارية، مادام أن ذلك يفتح أمام الإنسان

/صفحة 89/

آفاقاً جديدة ويسهل له الحصول على وسائل وأدوات لو انضمت إلى ما لديه، لجعلته أكثر فاعلية، وأبعد أثراً في الهيمنة على نواميس الحياة، وتذليل صعوباتها، والتمكن من قدراتها، مهما اختلفت وتنوعت.

الترجمة وسيلة:

وإذا كان حاجز اللغة هو أول ما يواجه الإنسان في حركته نحو الوصول إلى ذلك والحصول عليه، فإن الوسيلة الطبيعية والمعقولة هي استخدام أسلوب الترجمة للفكر المدون لأمة من الناس، إلى اللغات الحية الأخرى التي تنطق بها سائر الأمم.

حيث إن ذلك من شأنه أن يتيح الفرصة لأكبر عدد من الناس، للاطلاع على ما توصل إليه الآخرون، والوقوف على منجزاتهم الحضارية، ثم على خصائصهم الفكرية، والحياتية على اختلافها.

فمؤسسات الترجمة تصبح إذن ضرورة لابد منها، ولا غنى عنها لأية أمة تريد أن تخرج من حالة الجمود والانغلاق، والتقوقع، لتنطلق في مسيرتها الحياتية التكاملية، بقوة وثبات.

لأن ذلك يجعل هذه الأمة قادرة على أن ترفد فكرها، وثقافتها، وحركتها بصورة مستمرة ودائبة, وسيزيدها ذلك قوة، وحيوية، وتجذراً وأصالة، ورسوخاً.

 الأمانة والدقة:

وعلى هذا الأساس اهتم العلماء بالترجمة، ثم اهتموا أن تكون الترجمة لأي مضمون تحتوي لشروط أساسية، هي:

/صفحة 90/

1ـ الدقة .        

2ـ الأمانة.       

3ـ الصفاء.      

4ـ الوضوح.

حيث يفترض أن يصبح ذلك المضمون، ولو في نطاقه الخاص ركيزة في موقع لا يحتله سواه في مجمل التكوين الفكري، أو النفسي، أو الحضاري للأمة.

ولابد من التأكد من سلامة تلك الركيزة، ومن ثباتها، وقوتها، وصلابتها؛ إذ بدون ذلك يحدث الخلل، وتتسرب العاهات من هنا وهناك؛ لتشكل عثرات تؤلم وتدمي، وشراكاً بل شباكاً تعيق، أو سهاماً تصيب؛ فتصمي.

مشكلة الجمال والطراوة:

ولا نريد هنا: أن نتجاهل ما يقرره الكثيرون من أن للترجمة من لغة إلى لغة أخرى، سلبية تحرج من يتصدى لهذه المهمة، ويفترض فيه أن يتحمل مسؤولية ما يقدمه من نتاج، وما يبذله من جهد.

وهذه السلبية هي: أن عملية الترجمة تحدث نوعاً من الخلل في الأسلوب البياني، وتوجب التدني والانحطاط في مستوى الأداء. بالإضافة إلى ظاهرة التفكك والشتات في الناحية التعبيرية، الأمر الذي يفقد الترجمة قسطاً وافراً من الجمالية والطراوة، التي كانت للنص الأول والأساس.

فيحدث لدى المترجم نتيجة لذلك تجاذب مثير فيما بين الرغبة بالحفاظ على الناحية الجمالية، والاحتفاظ بطراوة التعبير وعذوبته، وبين ما

/صفحة 91/

يفرضه واقع الالتزام بأصول الترجمة ومبانيها.

فجاء الأسلوب التوفيقي ليقترح قدراً من التحرر من الناحية التعبيرية والبيانية، بحيث يتم التخلي عن الناحية الأسلوبية والتعبيرية لصالح الاحتفاظ بروح المعنى، وأصله بصورة عامة.

وقد كان لهذا الأسلوب أنصاره والمدافعون عنه، ومعارضوه والمنتقدون له.

وربما بدا للبعض: أنه ليس ثمة خيار إلا اختيار أحد الطريقين، والتخلي عن الآخر، فإما الدقة والحرفية من دون أسلوب، وإما الأسلوب والتعبير، دون أن يكون ثمة دقة في البيان والأداء.

 ليس ثمة مشكلة حقيقية:

غير أن الذي يبدو لنا هو: أنه ليس ثمة مشكلة حقيقية، تستعصي على الحل، إذا أخذنا بنظر الاعتبار: أن لكل لغة خصائصها ومميزاتها، التي لو روعيت لأمكن تلافي كثير مما يقف هؤلاء وأولئك عنده.

فمثلاً، إذا كان من خصائص لغة ما: أن يتأخر الفعل ويتقدم المفعول، فلا يجب مراعاة ذلك حين النقل إلى لغة أخرى، ليس من خصائصها ذلك، بل يجري فيه وفق الأصول والضوابط المرعية في اللغة المنقول إليها.

وكذا الحال لو كان تقديم كلمة يفيد تخصيصاً، أو تعظيماً، أو تحقيراً في لغةٍ، وكان ما يفيد ذلك في لغة أخرى نحو آخر من البيان، فلابد من التزام ضوابط اللغة المنقول إليها للاحتفاظ بتلك الخصوصية بالذات.

وما ذلك إلا لأن الألفاظ قوالب للمعاني، سواء في ذلك المفردات، أو التراكيب في خصائصها المختلفة. فلابد من صب تلك المعاني في قوالبها

/صفحة 92/

بالطريقة التي تحفظ لنا المعاني المقصودة دون تفريط في النواحي الجمالية، ولا إضرار بمستوى الطراوة في الأسلوب، والعذوبة والرصانة في البيان.

المؤسسة الإسلامية للترجمة:

وحين نريد أن نتحدث عن «المؤسسة الإسلامية للترجمة» فإننا يمكن أن نقول:

إنها حركة واعية ومسؤولة، في نطاق إثراء الفكر الإسلامي، وخطوة سديدة على طريق تحقيق الهدف الأقصى ببناء الصرح الثقافي والحضاري الشامخ والعتيد.

وقد اختارت كتاب «منتهى الآمال» ليكون باكورة أعمالها، وهو تأليف عالم جليل، ومحدث خبير وقدير، عرفت تآليفه بالمتانة والرصانة، إلى جانب عذوبة في التعبير، وسهولة في التقسيم والتبويب، ثم هو يقدم لقارئه مطالب مختارة ومنتقاة ؛ تظهر ما لدى المؤلف من ذوق رفيع، ومن صفاء قريحة، وسلامة سليقة.

وحين لاحظت بعض صفحات ترجمة هذا الكتاب للأخ الكريم الفاضل، والألمعي الكامل السيد هاشم مرتضى الميلاني، وجدتها على درجة مقبولة من الوضوح والسهولة، وقد روعيت فيها الأمانة والرصانة إلى درجة تعبر عن الجهد المشكور الذي بذلته هذه المؤسسة لإنجاز هذا الكتاب القيِّم.

فشكر الله سعي المترجم، وسعي القائمين على هذه المؤسسة، والعاملين فيها، والمنتسبين إليها، ووفقهم وسددهم لما هو أهم، ونفعه أتم وأعم.

والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى، محمد وآله الطاهرين.

قم المشرفة ـ ليلة الثلاثاء 4 شهر رمضان المبارك سنة 1414ﻫـ.ق.

جعفر مرتضى العاملي

/صفحة 93/

القسم السابع:

الباحث التاريخي

مقابلة مع مجلة بقية الله العدد 54 السنة الخامسة ـ بيروت.

من أين ينطلق الباحث التاريخي؟

الباحث التاريخي كأي باحث آخر، إنما يبحث عن الحقيقة، ويهتم بإبرازها بالحلة التي تليق بها، وكل باحث منصف، إذا واجه أي مشكلة على الصعيد العلمي والعملي، سواء في حقل التاريخ أم في الاعتقاد أم في التفسير أم في أي حقل آخر. فإنه ينطلق لحلها من خلال ما يتوفر لديه من معطيات، يستطيع بواسطتها أن يضع لها الحلول المناسبة التي يرى أنها هي الأقرب إلى الواقع، وهي الأصح، والأكثر ثباتاً أمام النقد.

وليس لدى الباحث التاريخي أية وسائل تختلف عما لدى غيره من الباحثين فكل الوسائل التي يتوسل بها الباحثون في العلوم الإنسانية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإبعاد المزيّف، وتنقية الفكرة؛ أية فكرة كانت، كل هذه الوسائل قد يحتاجها الباحث التاريخي.

فقد يحتاج إلى وسائل البحث في علم التفسير، وإلى وسائل البحث في

/صفحة 94/

الشؤون الاعتقادية، وإلى وسائل البحث في الجغرافيا، ووسائل البحث في أي علم إنساني، باعتبار أن هدفه الأساس، هو الكشف عن دور وتأثيرات الكائن البشري في الواقع الخارجي. وهذه التأثيرات تختلف وتتفاوت، فربما تصب في خانة التكوين الاجتماعي، أو التكوين النفسي، أو الرؤية والفهم لواقع وحقيقة إنسان ما، أو مجتمع ما، أو تصب في خانة التحولات والتقلبات الطبيعية التي مرت على أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب وتأثرت أو تأثر بها، ومن خلال هذا التأثير تنطلق هي لتمارس سلوكاً، أو لتسجل موقفاً على أساس هذه الخلفية التي نشأت من خلال التأثر بالأحداث.

إذن فليس لنا أن نحدد للباحث التاريخي نقطة للبدء؛ لأن كل النقاط مرشحة لأن تكون هي البداية لمعالجة ما يريد معالجته، ويريد أن يعرف الصحيح من غير الصحيح فيه، فهو إنما ينظر في العناصر المكونة لهذا الحدث، والمؤثرة فيه، والناتجة عنه، ولكل عنصر جذوره في نهج آخر أو في علم آخر أو جو آخر، الأمر الذي يدفع به إلى أن يلاحق هذه الجذور، ويبحث عنها ويكتشفها.

إذن فقد يضطر الباحث التاريخي لأن يمارس دور الباحثين في علوم ومجالات أخرى، حتى بالنسبة لقضية واحدة يواجهها، لأن هذه القضية كما قلت قد ترتبط بالتكوين الفكري وقد ترتبط بالتكوين النفسي، أو الحالات الروحية للإنسان، وقد ترتبط بوضع معين في العلاقات السياسية، أو لها ارتباط في النواحي العقائدية وما إلى ذلك.

/صفحة 95/

السؤال:

فهل نستطيع أن نقول: إن نقطة البدء هي طلب الحقيقة؟

الجواب:

أحسنتم يمكن هذا بل هذا هو الأساس.

السؤال:

ما هي عناصر البحث التاريخي؟ وعناصر النجاح للباحث ؟ نريد التحديد.

الجواب:

قد أشرت إلى ما يرتبط بهذا السؤال، وقلت: إن عناصر البحث التاريخي لا يمكن تحديدها بجهة معينة فقد يكون المؤثر في الحدث الإنسان نفسه، بسبب دوافع شهوانية أو بسبب طموحات باطلة وقد تنشأ من دوافع غريزية معينة، أو من رؤية خاصة للحياة وللكون، وقد تنشأ من عوامل طبيعية، فلا يمكن أن نقول إذن: إن المفروض بالباحث التاريخي هو أن يقتصر على وسائل محددة في مجالات بحثه، لأنه ـ وكما قلت ـ قد يضطر إلى استخدام كافة الوسائل لاكتشاف الحقيقة بكل خصوصياتها وبكل مفرداتها الصغيرة والكبيرة، باعتبار أن هذا الإنسان مؤثر في هذا الكون ومتأثر به أيضاً، ولا ينحصر التأثر في ناحية ما وفي خصوصية بعينها.

/صفحة 96/

السؤال:

النقطة التي ينطلق منها والعناصر التي يستخدمها الباحث، هل هي التي تؤثر بنجاحه وبفشله مباشرة؟

الجواب:

هذه قضية ترتبط بمدى قدرة الباحث على تشخيص طبيعة المفردات التي يواجهها، والتي تمكنه من التعرف على الوسائل التي تنفع في كشف الحقيقة فيها، ثم العمل على الوصول إليها والحصول عليها.

مثلاً حينما يكون الباحث باحثاً إسلامياً فيعرف أن هناك ثورة حقيقية في عالم المفاهيم، وفي العقائد، وفي بناء الإنسان، حدثت ببعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلابد أن يبحث في كثير من القضايا التي ليس لها خصوصية تاريخية مئة في المئة، إذ إن الإسلام قد جاء ليمارس صناعة الإرادة لهذا الإنسان الذي كثيراً ما يخضع للمتغيرات التي تطرأ على الفكر، وعلى المفاهيم، وعلى الحالات النفسية له، كما أن كثيراً من القضايا قد تكون خاضعة لمتغيرات الطبيعة، فلو حصل زلزال ما في بلد ما؛ فإنه قد يؤثر في البنية الاجتماعية فتنشأ عنه مشكلات إنسانية حين يتسبب بدمار منطقة كبيرة، فلهذا التدمير آثاره على روحية الناس وفي البنية الاجتماعية التي ستنشأ على أنقاضه، كما أن له آثاره في العمل السياسي، وفي الشعارات السياسية التي ربما تتأثر بنتائج الزلزال.

إذن فقد يؤثر هذا الزلزال في كثير من تصرفات المجتمع وفي كثير من توجهاته وحالاته، وربما ينشأ عنه وضع اقتصادي معين، له تأثيره في صنع الحدث، وفي اهتمامات الناس، وفي حركتهم، إذاً فلا نستطيع نحن أن نفرض

/صفحة 97/

على أي باحث أن يعتمد في بحثه وسيلة بخصوصها، بل ربما يضطر لأن يبحث في كثير من الأمور التي قد نجدها في ظاهر الأمر بعيدة عن القضايا التاريخية مع أن هذه القضايا التاريخية قريبة منها في واقع الأمر، ولها مساس مباشر فيها أحياناً. وهذا أمر طبيعي جداً.

والخلاصة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحدث تغييراً جذرياً في عالم المفاهيم، والعقائد، وفي البنية الاجتماعية، والسياسية، وفي التركيبة القبلية والعشائرية، والأسرية، وفي كل شيء، فلابد للباحث التاريخي أن يستفيد من هذا كله، كوسائل لكشف الحقائق، إذ لا يمكنه فصل الحدث عن التحولات التي نشأت، أو التي ربما أثرت في نشوئه، أو أصبحت الحضن الدافئ الذي نشأ وترعرع فيه..

السؤال:

ما هي المعوقات التي يواجهها الباحث ؟

الجواب:

المعوقات التي يواجهها الباحث تكون أحياناً من داخل ذاته، وأخرى من خارجها، ومعنى ذلك أنها قد تكون ناشئة عن أن رؤيته غير متكاملة، ربما لأنه لم يستوعب كثيراً من القضايا التي تؤهله لأن يفهم الحدث، ويتعامل معه بسلامة وبدقة، ولا يؤهله ما حصل عليه لأن يلاحق المؤثرات والنتائج الحقيقية، وطبيعة وجزئيات الظروف التي نشأ الحدث في محيطها، فيكون هذا معوقاً داخلياً له، من حيث إن ذلك يفقده القدرة على أن يواجه الحدث بشمولية، وعمق، ودقة، وبانفتاح وبمرونة أيضاً.

/صفحة 98/

كما أن كثيراً من الناس ربما يواجهون الحدث بنوع من الجفاء والقسوة، وبالنهج الأكاديمي الجاف جداً، الذي لا يقبل الانعطاف ولا يستجيب لما تقتضيه الحالات الإنسانية، التي كان لها تأثيرها في كثير من الأحيان في صنع الحدث. وهذا معوّق داخلي آخر أيضاً..

وهناك معوقات خارجية تأتي من خارج روح وعقل الباحث، ومن خارج الوسائل التي تتوفر لديه، وذلك من قبيل التزوير المتعمد الذي لابد من اكتشافه من خلال التعرف على الشواهد الدقيقة التي تعنى بنقل الحدث كما هو، وإن كانت قد تختلف في التعرض للخصوصيات وللتفاصيل، كمن يروي لك الحدث ـ وهو صادق ـ بطريقة تختلف عما يرويه لك ذاك وهو صادق أيضاً، وقد يكون السبب في الاختلاف هو الاختلاف في المستوى الفكري للناقل، أو بسبب عوامل جعلته يلتفت لأمور لم يلتفت إليها الآخر، بل التفت إلى غيرها.

فكل منهما قد تلقى الحدث بملكاته، وبوعيه المنبثق من داخل ذاته، ومن داخل فكره، وبما ينسجم مع حالاته وتوجهاته، ففهم كثيراً من المؤثرات والنتائج من خلال ما يعيشه هو، ومن خلال مستواه الفكري، والروحي، والنفسي، ومن خلال ثقافته، والمحيط الذي نشأ الحدث فيه.

وأحياناً تنشأ من خلال هذه النقول مفارقات ترجع إلى أهداف سياسية أحياناً، ومصلحية أحياناً أخرى، كما أن كثيراً من القضايا التي يعيشها الناقل نفسه تنعكس على ما ينقله، وعلى مستوى الدقة فيه، وعلى ما يريد ويختار هو أن يظهره وما يختار أن يخفيه، ولذا يحتاج الباحث إلى مهارة فائقة لاستخراج الخصوصيات ليس من خلال الناقلين فقط، وإنما من خلال فهمه

/صفحة 99/

لمحيط الحدث ولمناشئه، وإنما يتم ذلك بقراءة نصوص أخرى، وبالاستناد إلى فهم عام للسياسات والتوجهات، والحالات الاقتصادية، والنفسية للمجتمع.

كما أن مما له دور في الإعاقة التي نتحدث عنها هو قلة المواد أحياناً أو في وجود خلل في رؤية الباحث أحياناً أخرى وقد يكون السبب هو عجزه عن استشراف مختلف النصوص التي تصب في الاتجاه الصحيح..

أضف إلى ذلك: أنه قد يكون هناك حدث يحتاج فهمه إلى دراسة تاريخ حقبة، والاطلاع على الحياة السياسية، والاقتصادية، والتطور الاجتماعي والمفاهيم التي كانت سائدة لدى الناس آنذاك، وإهمال هذه النواحي قد يجعل الباحث في موقع العجز عن إعطاء النتائج الصحيحة.

إن مشكلتنا في البحوث التاريخية هي أنها ليست كسائر البحوث، بل البحث التاريخي ولاسيما إذا كان تاريخاً للبشر وللناس بما هم بشر وبما هم ناس، هو الأصعب على الإطلاق، ومن يريد أن يكون باحثاً حقيقياً، ويرضي في بحثه ضميره ووجدانه لابد أن يكون في مستوى من العلم متميز جداً.. ولا أقل من أن يكون في مستوى الاجتهاد، وصاحب رأي حتى في سائر العلوم الأخرى سوى علم التاريخ.

فإذا أردت أن تبحث في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكان قول النبي (صلى الله عليه وآله) ، وفعله وسكوته حجة، وله تأثيره العميق في كل حركة للناس، وكل موقف، وكل قضية حدثت في زمنه (صلى الله عليه وآله)، فمن تاريخه (صلى الله عليه وآله) قد تكتشف مفهوماً عقائدياً لابد أن تلتزم به وتعقد قلبك عليه، وقد يكون منشأ لارتباطات وأحاسيس، وسبباً في حب وبغض وولاء وعداء لبعض الفئات والأشخاص من موقع

/صفحة 100/

المسؤولية العقائدية أيضاً، ثم هو قد يكون له تأثيره في فهم آية أو رواية، أو في فهم حكم شرعي، وتكليف إلهي.

وكما قد يكون للموقف الواحد ارتباط بكل ذلك، وله تأثيره في النفس، وفي السلوك، وفي المشاعر، فإنه أيضاً قد يكون له ارتباط بعلوم أخرى كعلم الجغرافيا مثلاً، كما لو قيل: إن فلاناً وهو في طريقه من مكة إلى المدينة مر على مصر، فجرى له كذا. فلابد أن يرصد الباحث هذا الخطأ ويقول: إن مصر لا تقع في طريق مكة إلى المدينة.

وقد يرد عليك نص يتحدث عن فلان ابن فلان، وما جرى له، وإذا بعلم الأنساب يقول لك: ليس لهذا الرجل ابن أصلاً..

وقد يقال لك إن ذا الشمالين مثلاً فعل في سنة خيبر كذا.. ثم تجد أن ذا الشمالين، كان قد قتل في غزوة بدر قبل خمس سنوات أو ست. وهناك قضايا ترتبط أيضاً بعلم الرجال، أو بعلم التفسير، أو بعلم الشريعة والأحكام، والعقائد، وغير ذلك، كما أن هناك كثيراً من القضايا ترتبط بالقضايا السياسية، أو بالتأثيرات والتأثرات الاقتصادية، فيحتاج الباحث في التاريخ إلى معرفة كافية في مختلف هذه العلوم التي تفيد في تأكيد أو تفنيد هذا الحدث أو ذاك، ولها ارتباط به بنوع من أنواع الارتباط.

السؤال:

هل الأسباب المذكورة هي التي توجد التناقض بين الباحثين حول نفس الموضوع؟! أم أن هناك أموراً أخرى؟

/صفحة 101/

الجواب:

إن مراجعة الأعمال التاريخية التي بين أيدينا تعطينا أن كثيراً من الباحثين يعتمدون وسائل ناقصة في بحوثهم، وبعض الباحثين يحاول استنباط الحدث من خلال مقارنات ومناسبات يجدها في هذا النص، وذاك النص، فيحاول الربط بين النصين من خلال اعتبارات ذوقية، ولمناسبات استحسانية، فهذا النوع من الناس لا يصح عدّه باحثاً أصلاً.

وهو ينتهي إلى أن تصبح الأهواء والتعصبات والسياسات هي الحاكمة، ويعطيها الفرصة للتلاعب بأفكار البشر وبمصائرهم، ومفاهيمهم، واعتقاداتهم. كما هو واضح.

وهناك فريق آخر يحاول أن يجعل النص الأقدم الذي وصل إليه هو المعيار، وينطلق للتشكيك بكل نص آخر فيه زيادة عليه.. وهو أيضاً عمل غير سليم، فإن ما وصل إلينا ليس هو كل الحقيقة، فهناك مصادر لم تصل إلينا وقد كانت معتمدة لدى القائلين والمؤلفين، وهناك نُقول تداولها رواتها بطريق المشافهة، ثم لحقها التدوين، بعد مرور ردح من الزمن عليها، وقد تكون هي الأقرب للواقع من سواها مما ألفه المؤلفون، وخضعوا فيه لقهر السلطة، والتزموا سياستها وحققوا مرادها.

وكمثال على ذلك نقول:

لو أردنا البحث في قضية السقيفة أو ما جرى على الزهراء (عليها السلام) مثلاً، فسنجد أن هذا يقول: لا يعقل أن في الصحابة الذين جاهدوا ونصروا الإسلام أن يتجرؤوا على الزهراء (عليها السلام)، وأن يحرقوا بابها، ويسقطوا جنينها. وذاك يقول:

/صفحة 102/

بل يمكن ذلك، وقد فعلوا أكثر من ذلك، فقد قالوا عن النبي (صلى الله عليه وآله): إنه ليهجر، فكيف لا يتجرأ على الزهراء (عليها السلام)، مع أنه لابد أن يدرس واقع هؤلاء الناس من الصحابة وميولهم، ونفسياتهم، وطموحاتهم، وتاريخهم وحتى الجغرافيا البشرية والتركيبة السكانية التي كانت قائمة في المجتمع إبان الحادثة، ولا يكفي الاعتماد على الاستحسانات والربط الذوقي بين النصوص، وحين نقرأ موضوع الفتوحات في صدر الإسلام فإن من كتب فيها قد عظّم، ومجّد، وبجّل، وامتدح، واعتبرها الإنجاز العظيم للخلفاء والفاتحين، مع أنها لو درست بواقعية لخرج الدارس لها بنتيجة: أنها أضرت في الناحية العقائدية والسلوكية للمسلمين، فهل كانت الفتوحات قربة إلى الله؟ وهل كان الفاتحون مخلصين في عملهم؟ أم كانوا يبحثون عن الأموال والنساء؟! والمخلصون منهم قد يكونون غير قليلين ولكن هل هم الذين كانوا في موقع القرار؟! والقوة الفاعلة والمؤثرة في مصير الفتوحات ونتائجها؟! أم لم يكن الأمر كذلك؟!..

أما أن نأتي ونبحث هذا الأمر ونحن مبهورون بالشعارات، فلا يكون همنا سوى التعظيم والتمجيد دون التدقيق في واقع ما حصل، فذلك غير صحيح ولا سليم.. خصوصاً إذا كانت الوقائع قد أظهرت أن بعض تلك المشاهد التي طواها الزمن قد كانت وهمية ومفتعلة، لأن هذا التاريخ كتبه الحكام أو أشرفوا على كتابة كثير من فصوله، فلا يعقل أن يكتب هؤلاء ما يضر بسياستهم وبأهدافهم..

وعلى كل حال، فإن هذه مفردات لم يحسن الباحثون النظر إليها ولم تكن نظرتهم هي نظرة من يبحث عن الواقع بتجرد ونزاهة، وصفاء قريحة،

/صفح103/

وحرية فكرية، بل إن الكثيرين منهم قد تقيدوا بمفاهيم مسبقة منعتهم من التفكير بطريقة صحيحة، فإن القيود ليست دائماً تفرض من الخارج، بل قد يقيد الإنسان نفسه بمفاهيم نشأت من دون داع ودون مبرر، فتحكم فكره وعقله. وموضوع الفتوحات من هذا القبيل.

السؤال:

إننا أحياناً ربما نجد أن موضوعاً يكون من المسلمات عند الناس، ثم يأتي من ينقضه ولا يصدقه، فمثلاً مثلث برمودا الذي شككتم بصحته؟

الجواب:

أنا لم أشكك بصحة المثلث نفسه، وإنما شككت بالتطبيق الوارد في رواية أريد منها غزو فكر وعقيدة الناس، وأن تهيمن على فكرهم وارتباطهم بأقدس إنسان على الأرض، وقد قلت: إنه لا شك في أن في مثلث برمودا حالات غير طبيعية، لكن لم يكن ذلك هو القاعدة، بل كان الاستثناء، فلماذا يعرض للناس على أساس أنه القاعدة ولا استثناء فيه؟! إن ما يحصل في مثلث برمودا، في بعض أيام السنة، حالات هيجان غير عادية، وهذا الأمر لا يختص بمثلث برمودا، بل هناك بحر الشيطان في ماليزيا، وفي اليابان هناك مناطق شبيهة تحدث فيها بعض الظواهر اللافتة، فلماذا اختص مثلث برمودا بهذا الاعتناء؟! وارتبط اسمه بأقدس إنسان على وجه الأرض دون سائر المناطق؟!..

ولماذا لا يقال: إن جزر برمودا الآن هي مراكز سياحية وهي من أكثر مناطق العالم تردداً لوسائل النقل الجوية والبحرية فيها باستثناء تلك الأيام

/صفحة 104/

التي تحدث فيها تحولات غير عادية، كما أشرنا؟!..

ولماذا لا يقال أيضاً: إنه قد كانت هناك حرب بين القوتين الكبيرتين أمريكا وروسيا، وكان للحرب المخابراتية تأثيرها من خلال إطلاق إشاعات من هذا القبيل..

والسؤال هو التالي:

إن مثلث برمودا يطرح على أنه هو الجزيرة الخضراء، وعلى أنه الحقيقة المسلّمة التي لا يمكن اختراقها، والسر المبهم الذي لم يكتشف لغزه بعد، وتلك جزيرة برمودا موجودة، وهي ليست لغزاً، فإن الناس يذهبون إليها ويعيشون فيها، وهي مركز سياحي كبير ويمكننا أن نذهب، ونرى ونشارك في كل النشاطات فيها.

السؤال:

ما هو تفسير اختفاء بعض الطائرات؟

الجواب:

ليس هناك تفسير خاص، هذه حرب مخابراتية كانت فيما بين قوى الشر في تلك الحقبة.. وهناك حالات جوية تحدث في بعض الأيام بسبب أنه موقع جغرافي معين له طبيعة خاصة، فتنشأ في بعض أيام السنة هذه الحالات فتحدث كوارث، وتغرق السفن بشكل طبيعي، وقبل أيام غرقت سفينة من أكبر سفن العالم بشكل طبيعي، بسبب حالات مماثلة في هذا البحر العظيم.

كما أن من الواضح: أن أكثر الأشياء غموضاً عند الباحثين هو البحر، فكلما عشت في البحر ساعة اكتسبت خبرة جديدة، وعرفت أموراً لم تكن

/صفحة 105/

تعرفها، وليست هناك سيطرة على البحار والأوقيانوسات العالمية، بل يأتيهم البحر كل يوم بجديد.

السؤال:

ضمن الكلام عن الجزيرة الخضراء ذكرتم أنها واردة؟

الجواب:

لا، بل هذا موضوع مختلق من أساسه.

السؤال:

قد وردت مثلاً في بحار الأنوار؟

الجواب:

إن صاحب البحار يذكرها ويشكك فيها أصلاً، وهي رواية مختلقة بلا شك، وقد أثبتنا ذلك بالأدلة القاطعة في كتابنا: «دراسة في علامات الظهور والجزيرة الخضراء»، ويكفيها سوءاً أنها تثبت أمراً قامت الأدلة القاطعة على خلافه، فقد ورد فيها أن القرآن محرف ومنقّص منه بصورة عمدية. وقد ثبت بالأدلة القاطعة التي لا مجال لنقضها أن القرآن مصون عن أي تحريف، بل هو قد وصل إلينا بتمامه حرفاً حرفاً، وهذه الرواية قد استدل بها القائلون بالتحريف. ولكننا نجد ـ مع الأسف ـ أن ذلك الشخص الذي ألف كتاباً لإثبات صحة هذه الرواية، قد تحاشى ذكر الفقرات التي تعرضت لتحريف القرآن.

فلماذا فعل ذلك؟ أليست هذه خيانة؟! أليس هذا من التدليس على القارئ؟!..

/صفحة 106/

السؤال:

هل من ضمن الأمثلة للأمور التي تصبح مسلمة مثال ذي النورين، حيث يقولون: إن عثمان بن عفان قد تزوج من ابنتي الرسول، وهناك رأي معروف لكم بالنفي؟

الجواب:

قلت: إنه لم يكن للرسول (صلى الله عليه وآله) سوى بنت واحدة هي الزهراء وذكرت أحد عشر دليلاً على هذا الأمر في كتيب طبع باسم: «بنات النبي أم ربائبه» وفي: «الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)» حديث عن هذا الأمر أيضاً.

السؤال:

هل يتمتع كل باحث بالجرأة على مخالفة التيار، إن صح التعبير، لا أقول تيار الشيعة؟

الجواب:

كثير من الباحثين لا يلتفتون إلى أن هذا الأمر أو ذاك بحاجة إلى بحث وتدقيق، فيوردونه على أساس أنه أمر مسلم. وهنا تكمن المشكلة وربما يحتاج الالتفات إلى ذلك إلى مفتاح، وسبب.. كذلك الذي حدث لي عندما قرأت حديث الإفك، فقد لفت نظري أن الرجل المذكور بشكل أساسي في هذا الحديث وهو سعد بن معاذ لم يكن حياً حين حصلت هذه القضية، أو على الأقل يظن بذلك ظناً قوياً.. فكان هذا هو الباب الذي دخلت منه، ثم وجدت كثيراً من الأشخاص إما كانوا قد ماتوا، أو كانوا صغار السن، لا يصدر منهم ما نسب إليهم، أو أنهم لم يكونوا في المدينة آنئذ، وإنما قدموا إليها بعد

/صفحة 107/

سنوات. بالإضافة لمخالفة الحديث لنصوص القرآن وغير ذلك..

إذاً قد يغفل الإنسان ولا يلتفت إلى أن هذا الأمر أو ذاك، يمكن أن يناقش فيه، لكن الذي يتصدى للبحث يصبح شكاكاً بدرجة كبيرة، وعليه أن ينظر إلى كل ما يعرض عليه بعين الريب..

وهذه الحالة إنما تنشأ من كثرة الممارسة، وإلا فكثير من الذين يتصدون للبحث إنما يسعون لإيجاد مناسبات ذوقية واستحسانية واستنسابية بين النصوص حتى لا تواجه بالاستهجان، ويستبعدون ما يرونه مضراً ببعض النواحي العقائدية أو الروحية، كما فعل محمد حسنين هيكل في كتاب «حياة محمد» الذي هو في الحقيقة نفس سيرة ابن هشام والطبري، ولكنه صاغ ذلك صياغة حسنة ومألوفة، وحذف الأسانيد، ووصل الأحداث ببعضها واستبعد الاختلافات والخ..

غير أن مما لا شك فيه أن ملاحظة المناسبات في النصوص التاريخية لا تكفي لجعل هذه الحقيقة أو تلك ثابتة أو ليست ثابتة، إذ لابد من «العرش ثم النقش» أي لا بد من إثبات أن هذا النص صحيح غير مزيف وغير محرف، وأنه قد حدث بالفعل، ثم بعد ذلك يبحث عن المناسبات، وعن الصياغات المناسبة له..

السؤال:

علماء الفقه، الذين يهتمون بعلم الحديث وعلم الرجال بمرحلة نجد أن كل واحد منهم يفتي اعتماداً على هذا الحديث أو الحادثة التاريخية، فيعارضه الثاني أو يختلفان في الاحتياط الوجوبي والاستحباب.. فما هو السبب؟!

/صفحة 108/

الجواب:

قد قلت: إن بعض الباحثين قد لا يلتفتون لوجود خلل في الحديث الذي يستندون إليه في أحكامهم، مثلاً، لو قرأ شخص قصة ذي الشمالين التي تقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سها في صلاته، وسلم على ركعتين. فقال له «ذو الشمالين»: قَصُرَتِ الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فقال النبي (صلى الله عليه وآله): كل ذلك لم يكن. ثم سأل النبي (صلى الله عليه وآله) الناس عن ذلك، فأجابوه بالإيجاب. فسجد (صلى الله عليه وآله) سجدتي السهو، وأكمل صلاته.

هذه القضية قد يقرؤها إنسان فيحكم من خلالها بأنه يمكن أن يسهو النبي (صلى الله عليه وآله) في صلاته، لأنها تدل على ذلك، ثم يحكم من خلال ما ذكرته الرواية من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد تكلم بانياً على سهوه وقال (صلى الله عليه وآله): [كل ذلك لم يكن]، ثم أتم صلاته، ويحكم بأن التكلم المبني على السهو لا يبطل الصلاة، فيستخلص من هذه القضية أحكاماً شرعية عديدة، ثم يأتي باحث آخر، فيقول له: إن هذه القضية كاذبة، لأنها تعارض الحكم العقلي الثابت: أن النبي لا يسهو ولا يخطئ ولا يعصي، فلا يصح لأحد أن يفتي استناداً إلى هذه الرواية. أو أن هذا الباحث الآخر يلفت نظر الباحث الأول إلى أن هذه القضية غير صحيحة، لأن ذا الشمالين قد قتل في حرب بدر، فكيف يكون موجوداً بعد خمس سنين منها في غزوة خيبر؟!

وقد يختلف الباحثون في توثيق رجال الرواية؛ فيوثقه شخص اعتماداً على نصوص لديه، ويضعفه آخر اعتماداً على نصوص أخرى ظفر بها هو، ولم يطلع عليها ذاك، فتختلف النتائج في الأخذ والرد تبعاً لذلك.

/صفحة 109/

ومن جهة أخرى نلاحظ أن قدرة الإنسان على تتبع النصوص واستخراجها من المصادر لها مدخلية في طبيعة استنتاجاته، فقد يكون الإنسان عالماً ومحققاً، ولكن لم تتوفر لديه المصادر الكافية التي توفرت لباحث آخر، فاكتفى بالأخذ من مصادر قريبة المأخذ، وربما يطمئن إلى عدم وجود شيء آخر فيما عداها، فيبادر إلى الإفتاء بمضمونها.

ولكن قد يكون هناك فقيه آخر قد ساورته الشكوك بوجود أمور أخرى في مصادر أخرى، فإذا تتبع النصوص والجزئيات، ومختلف الدقائق واستخرجها وأفتى بمضمونها، فتختلف فتواه عن فتوى ذاك الأول.. وللاختلاف في الفتوى أسباب ومناشئ أخرى ليس هنا محل إيرادها.

والحمد لله رب العالمين.

جعفر مرتضى العاملي

/صفحة 110/

/صفحة 111/

القسم الثامن:

تساؤلات حول ظهور القائم الحجة (عجل الله فرجه)،

وعلامات آخر الزمان

مقابلة مع مجلة بقية الله العدد.... السنة...ـ بيروت.

السؤال:

هل للعولمة تأثير على حركة ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه)؟

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين..

العولمة هي محاولة صوغ نظم وقيم جديدة يرتكز عليها النظام العالمي الذي يفكرون فيه، وهؤلاء الذين يسعون إلى صوغ هذه النظم، وإلى التلاعب بالقيم وإيجاد بدائل عن بعضها، والاستغناء عن البعض الآخر، إنما يفعلون ذلك لأهداف ترتبط بمصالحهم، أو لأهداف فئوية، أو طبقة بعينها. ولا يريدون للشعوب أن تعيش العالمية بالمعنى الصحيح، لأن نظمهم وقيمهم لا

/صفحة 112/

تُصلح المجتمعات العالمية ولا تحل مشاكلها، وإنما تؤثر على فطرتها، وتنسف الكثير من القيم الحقيقية المقبولة التي من شأنها حفظ مسيرتها. حيث إن الحق هو الذي يحفظ الوجود، وبه يتنامى الإنسان ويتكامل، وهؤلاء الذين يسعون إلى العولمة إنما يريدون أن يُخضعوا البشرية لمجموعة نظم تسلب اختيارها، وتجعل كل جهدها وحركتها في خدمة أهدافهم، وتهيمن على مسيرتها، وتمتص خيراتها وقدراتها وإمكاناتها، وسينتج عن ذلك تخريب لفطرة الشعوب، وبلبلة في المفاهيم، وغياب للقيم.

وهذا الأمر يعرقل حركة الظهور، لأن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لا بد أن يظهر في محيط قادر على احتضان حركته، والدفاع عنها وحمايتها، فإذا لم تكن هناك فطرة صحيحة، وقيم واقعية إلهية، فلا يمكن أن يوجد ذلك المجتمع الذي يحمي حركة الإمام (عجل الله فرجه) ويساعد على انتصارها في معركتها مع الفريق الظالم.

إذن لا بد أن يكون هناك نوع من عدم العولمة، لتكون هناك مجتمعات قادرة على أن تنفلت من نير الاستعباد العولمي، تتنامى، وتتربى، فيها كوادر وذهنيات وطموحات تتناسب مع فكر الإمام (عجل الله فرجه) وتوجهاته، وتُربي له الجنود الذين سيكونون حماة دعوته.

السؤال:

ولكن الروايات تقول بأن الإمام (عجل الله فرجه) سيظهر بعد أن تُملأ الأرض ظلماً وجوراً، وقد فسر البعض هذا الأمر بأن ظهوره (عجل الله فرجه) مرتبط بكثرة الفساد والظلم؟

/صفحة 113/

الجواب:

الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لا يخرج بطريقة المعجزة المطلقة، بدليل أن خروجه سيترافق مع القتال والاستشهاد، وستكون هناك حروب فيها انتصارات، وفيها مآسي، فلو كانت القضية قضية إعجاز إلهي لما كان تأخر الظهور إلى هذا الوقت، ولما احتاج (عجل الله فرجه) إلى الحرب.

فالله تعالى يريد للناس أن يمارسوا حرياتهم واختيارهم بحيث لو أنه بقدرته الغيبية والإلهية قد سلب هذا الاختيار منهم، لكان تعالى ظالماً لهم (تعالى الله عن ذلك) والله ليس بظلام للعبيد..

لا بد للناس أن يمارسوا اختيارهم، ولذلك فإن بعضهم يحارب الإمام (عجل الله فرجه)، فلو كانت القضية غيبية، لكانوا مُنعوا من هذه الحرب.

وأما التدخل الإلهي فإنه إن حصل، فإنما يحصل في خارج دائرة اختيار الإنسان وليس في محيطه، مثل التدخل الذي حصل في قضية النبي إبراهيم (عليه السلام) حين قال للنار: كوني برداً وسلاماً. لكنه سبحانه لم يمنع جنود النمرود من جمع الحطب، ولم يحبس أقدامهم عن المشي في هذا السبيل، ولم يمنعهم من إضرام النار والاتيان بالمنجنيق، ولا من الإمساك بإبراهيم (عليه السلام)، وحمله، ووضعه، وإرساله إلى النار.

بل اشتعلت النار، وحصل كل شيء أرادوه، ثم تدخل الله خارج دائرة اختيارهم، وقال للنار: كوني برداً وسلاماً..

السؤال:

هل يصح الجزم بتطبيق علامات الظهور على مفردات الواقع؟

/صفحة 114/

الجواب:

علامات الظهور هي قضايا تحدثت عنها مجموعة نصوص ذُكرت في كلام الرسول والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد ربطت بعض هذه النصوص بعض علامات الظهور بالإمام أو بالزمان القريب من ظهوره.

وبعضها الآخر ورد تحت عنوان ما يحدث في آخر الزمان، مما أطلق عليه اسم الملاحم والفتن، آخر الزمان وفيه إشارة إلى الإمام (عجل الله فرجه) لأنه هو الذي يتوّج جهود الأنبياء، وتُبنى دولة المؤمنين على يديه.

وبعض الأحاديث التي رُبطت بالظهور كانت صريحة وظاهرة الانطباق، وعلى سبيل المثال في قضية انتقال الحوزة من النجف الأشرف إلى قم. قد صرحت الرواية بحصول ذلك عند قرب ظهور الإمام القائم (عجل الله فرجه). لكن هذا القرب لم يتحدد مقداره.

وقد تحقق الأمر، وانتقلت الحوزة في أوائل السبعينات. فهنا لا إشكال في التطبيق.

أما التطبيق بالنسبة للقرب ومقداره، وتحديد الوقت، فإنه في غير محله وهو عبارة عن تكهنات، ورجم بالغيب..

وعلامات الظهور هي أشياء محددة قالها النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام، لأجل الربط على قلوب شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وهم يواجهون التحديات والشبهات والضغوطات الهائلة. فإذا انطبقت انطباقاً صريحاً فلا إشكال، وإلا فنحن لسنا بحاجة إلى محاولة تمحّل الانطباق والتماس التأويلات بشكل غير ظاهر.

/صفحة 115/

السؤال:

يُقال إن المهدي (عجل الله فرجه) عند ظهوره يخاطب العالم كلّ بلغته، ويشاهده من في الشرق والغرب، فهل يمكن اعتبار الستالايت والإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة من مقدمات ظهور الإمام (عجل الله فرجه)، لأن هذه الوسائل تنطبق على ما جاء في الروايات؟

الجواب:

هذه ليست من علامات الظهور، ولكن لا بأس بها لتقريب الفكرة لأجل تيسير الإيمان بالأمور التي وردت في الروايات.

إن وجود هذه المخترعات ييسر لنا الإيمان بصحة وصدور الروايات التي تتحدث عن أن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) يشهدون على الخلق ويرون أعمالهم، ولكنهم لا يرون الأعمال بهذه الوسائل كشاشة التلفاز، ولا يسمعون أقوالهم بواسطة جهاز إرسال، بل هناك إمكانات زوّدهم الله بها لا تخطر لنا على بال. فهذه الاختراعات إذن يمكن أن تقرّب لنا التصديق واليقين بتلك الأمور الأكثر دقة، وتيسر فهمها لنا، وإن لم نستطع أن نعرف حقيقتها بدقة.

وأيضاً هناك رواية عن أن من في المشرق يسمع من في المغرب، فيمكن تطبيقها على آلات الاتصال الموجودة اليوم.

ومن أمثلة تيسير الإيمان ببعض الحقائق، أننا مثلاً لم نعد نتحير: كيف يستطيع ملك الموت أن يقبض روح من في المشرق والمغرب في لحظة واحدة. بحيث يكون واقفاً أمام كل واحد منهم في نفس اللحظة. فقد بدأنا ندرك أن هذا ليس محالاً عقلاً، لكن لا نستطيع نحن أن نكتشف حقيقته

 

/صفحة 116/

بسبب قصور فينا.

وأيضاً يقول القرآن الكريم: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}(1).

وقوله: {إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}(2).

وهناك بعض الروايات قد أشارت أيضاً إلى التصرف في الزمان، ومعنى ذلك أن التصرف بالزمن ممكن، كما أن التصرف بالمكان ممكن أيضاً، كما ورد في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}(3) وكما في موضوع طي الأرض للأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وكما ظهر في موضوع معراج الرسول إلى السماوات كلها في ليلة واحدة.. فالمكتشفات يسّرت لنا الإيمان بهذه الأمور، وإن لم نستطع أن ندرك حقيقتها بطريقة مباشرة.

السؤال:

هل لقيام الكيان الصهيوني علاقة بظهور الحجة (عجل الله فرجه) وكيف؟

الجواب:

ما نقرؤه في القرآن الكريم يدلنا على أن هناك دولة ستنشأ. وأن هناك إفساداً وعلواً واستكباراً من اليهود سيحصل في آخر الزمان. وسيكون لهم مع أهل الحق صولات وجولات، ونزاع عظيم.

ـــــــــــــــ

(1) سورة المعارج، الآية4.

(2) سورة الحج، الآية47.

(3) سورة الأنبياء، الآية104.

/صفحة 117/

وقد بدأ تحقق هذا الأمر قبل خمسين سنة، ولا نزال نعيش أحداثه، ونشاهد فصوله..

وقد ترافق ذلك مع موضوع انتقال الحوزة من النجف الأشرف إلى قم، وقلنا إن الأحاديث أشارت إلى أن ذلك سيحصل (عند قرب الظهور)، وها قد مضى نحو ثلاثين سنة على انتقال الحوزة.

وذلك كله يدل على أن الحدث الإسرائيلي الذي ترافق مع قرب الظهور هو الآخر إنما حصل عند قرب ظهور قائمنا (عجل الله فرجه) بحسب النص.

لكن السؤال هنا: هل سيحصل بداء في قصر وطول الزمان ما بيننا وبين الإمام (عجل الله فرجه)؟ وما هو مداه؟ وكيف سيكون التعامل مع الأحداث؟ وهل هذا التعامل مع الأحداث سيؤخر الظهور أم سيقربه؟ هذا ما لا نعلمه!

السؤال:

ما هي علامات الظهور الحتمية، والعلامات غير الحتمية؟ وما الفرق بينهما؟ ولماذا يكون هناك فرق؟

الجواب:

العلامات الحتمية هي المتصلة بالظهور مباشرة، لأجل الدلالة على الإمام (عجل الله فرجه)، حتى لا يبقى عذر لمعتذر على وجه الأرض، فيقول: إنه ما عرف الإمام، أو شك فيه.

فهذه العلامات، ومنها الخسف بالبيداء، وخروج الشمس من مغربها، وخروج السفياني. والأمور الأخرى التي ذكرت في الأحاديث، تكون لقطع العذر، وإقامة الحجة.

أما العلامات غير الحتمية فقد ورد في الروايات، أنها تكون في معرض

/صفحة 118/

البداء، ويمكن هنا توضيح البداء بصورة مختصرة جداً، فنقول:

البداء هو في الحقيقة إخبار عن الأمور بحسب ما تقتضيه طبائعها، دون أن يخبر عن الطوارئ والعوارض، كأن نقول: إن هذه السيارة بحسب وضعها العادي تخدم عشر سنوات، لكن لم نقل: إنها بعد عشرة أيام ستتعرض لحادث مروع وتتحطم.

أو نقول: هذا الإنسان يعيش مئة سنة بحسب تكوينه الطبيعي وما يقتضيه قانون الحياة، ولكن لا نخبر أحداً عن أن إنساناً سيقتله وهو في سن الثلاثين رغم معرفتنا بذلك، أو لا نقول: إنه إذا وصل رحمه سيعيش مئة وثلاثين سنة، وإذا قطع رحمه فينقص من عمره ثلاثون عاماً.

فالذي يكتب في اللوح ـ لوح المحو والإثبات ـ وقد يطلع الله عليه بعض ملائكته أيضاً، يقتصر على ذكر ما اقتضته القوانين والحكمة، والرسول (صلى الله عليه وآله) يخبرنا به، لكن لا يخبرنا عن الموانع والأشياء المستجدة. أما ما في أم الكتاب ففيه ذلك كله.. لكن الرسول إنما يخبرنا بما في لوح المحو والإثبات لأننا لو عرفنا ما في أم الكتاب، وهو المطابق لعلم الله تعالى لصرنا جبريين، ولأصبحنا لا نخطط، ولا نعمل ولا نتنامى، ولشُلت الحياة.

فالبداء شيء مهم جداً في ديمومة الحياة، وفي الطموح للمستقبل، بل إن الاطلاع على بعض الأحداث المستقبلية قد يفسد الحياة، ويضر بالعلاقات الاجتماعية وغيرها..

وهذا المبدأ مهم أيضاً في علامات الظهور، فإنه يمنع أيضاً شعورنا بالجبرية، والخمول، والاستسلام للظالمين، وخلاصة القول: أن الاعتقاد بالبداء

/صفحة 119/

في علامات الظهور لازم، والاعتقاد بعلامات الظهور لازم أيضاً، بحيث لو وُجد أحدهما دون الآخر لوقعنا في الخلل.

السؤال:

هل يمكن لأحد أن يرى الإمام الحجة (عجل الله فرجه)؟

الجواب:

يمكن ذلك، وليس هناك مانع من رؤية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، ولكن لا يصح لأحد أن يدّعي أنه يحمل منه مهمات ورسائل ونحو ذلك.

وقد رآه كثير من علمائنا ولكنهم بقوا في دائرة عدم الادعاء، ولم يقل أحد منهم أنه كُلّف بمهمة ما.

السؤال:

كيف نميز بين من يرى الإمام (عجل الله فرجه) حقيقة، وبين من يدّعي ذلك كذباً؟

الجواب:

على من يرى الإمام (عجل الله فرجه) أن يثبت ذلك بشكل قطعي بعد أن يعلم بأن هذا الذي رآه هو الإمام بشكل جازم أيضاً، وكيف يستطيع أن يثبت ذلك؟ وأنى له به؟..

ولا بد للذي يتمكن من رؤية الإمام (عجل الله فرجه) أن يكون قد بلغ من التقوى والانضباط والورع، بحيث يراه كل البشر على خط الله، وفي صراط الحق. وأن لا يدّعي أنه كلّف بأي مهمة أو تكليف، خصوصاً فيما يرتبط بالتعديات على حقوق البشر، كأن يقول: رأيت الإمام (عجل الله فرجه) وقال لي: إن فلاناً فاجر..

/صفحة 120/

فهذا ما لا يفعله علماؤنا. وهم يتسترون على رؤيته له (عجل الله فرجه) ما أمكنهم، فالمعلن به متهم في دينه، وفي نواياه، وفي تقواه.

السؤال:

ولكن هناك من يتحدث عن أخذ تكاليف خاصة من الإمام (عجل الله فرجه)؟

الجواب:

هذا ليس صحيحاً، ولا يوجد تكليف خاص، وهؤلاء هم الذين ورد الحديث الشريف ليقول عنهم: من رآنا فكذبوه. أي من ادعى ذلك،  وأعلن به، وأراد أن يستفيد منه في التعرض للآخرين.. حتى ولو بكسب تعظيمهم، وإكرامهم، وطاعتهم له.. فكذبوه..

وكما قلت: إن هؤلاء متهمون في دينهم، وفي تقواهم، وفي نواياهم.

والحمد لله رب العالمين..

/صفحة 121/

كلمة أخيرة:

بسمه تعالى، وله الحمد والصلاة والسلام على محمد وآله..

وبعد..

فقد أردنا لهذا الكتاب أن يكون على درجة من الاختصار، والوضوح، وقد اقتصرنا فيه على موضوعات يسيرة.. من أجل أن لا نرهق القارئ نفسياً وعملياً حين نكلفه قراءة مئات الصفحات، فإن كُبر حجم الكتاب، وطول بحوثه قد لا يروق له، لما يتوقعه من صعوبة إنجاز قراءته..

وعلى كل حال، فإن ما يهمنا هو تقديم ما هو مفيد، ونافع.. وميسور، وخفيف المؤونة، ونرجوا أن نكون قد وفقنا فيما نرمي إليه..

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

حرر بتاريخ 20/11/1423 هـ . ـ 24/1/2003م.

عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً) ـ لبنان

جعفر مرتضى العاملي


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=94
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29