||   الموقع بإشرف السيد محمد مرتضى العاملي / پايگاه اينترنتى تحت اشرف سيد محمد مرتضى عاملي مي‌باشد   ||   الموقع باللغة الفارسية   ||   شرح وتفسير بعض الأحاديث..   ||   لقد تم افتتاح الموقع أمام الزوار الكرام بتاريخ: 28/جمادی الأولی/ 1435 هـ.ق 1393/01/10 هـ.ش 2014/03/30 م   ||   السلام عليكم ورحمة الله.. أهلاً وسهلا بكم في موقع سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي.. نود إعلامكم أن الموقع قيد التحديث المستمر فترقبوا المزيد يومياً..   ||  



الصفحة الرئيسية

السيرة الذاتية

أخبار النشاطات والمتابعات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

المؤلفات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الأسئلة والأجوبة

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

التوجيهات والإرشادات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الحوارات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

النتاجات العلمية والفكرية

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الدروس

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الصور والتسجيلات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

مركز نشر وترجمة المؤلفات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

مختارات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

مركز الطباعة والنشر

شريط الصور


  • ابن عربي سني متعصب غلاف
  • رد الشمس لعلي
  • سياسة الحرب غلاف
  • زواج المتعة
  • الولاية التشريعية
  • كربلا فوق الشبهات جديد
  • علي ويوشع
  • طريق الحق
  • توضيح الواضحات
  • دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ط ايران
  • تخطيط المدن في الإسلام
  • تفسير سورة الماعون
  • تفسير سورة الكوثر (التاريخ العربي)
  • تفسير سورة هل أتى
  • تفسير سورة الناس(التاريخ العربي)
  • تفسير سورة الكوثر
  • تفسير سورة الفاتحة (التاريخ العربي)
  • السوق في ضل الدولة الإسلامية
  • سنابل المجد
  • سلمان الفارسي في مواجهة التحدي
  • الصحيح من سيرة الإمام علي ج 3
  • الصحيح من سيرة الإمام علي
  • صفوة الصحيح فارسي
  • رد الشمس لعلي
  • كربلاء فوق الشبهات
  • اكذوبتان حول الشريف الرضي
  • منطلقات البحث العلمي
  • مختصر مفيد
  • المقابلة بالمثل
  • ميزان الحق ط 1
  • ميزان الحق (موضوعي)
  • موقف الإمام علي (عليه السلام) في الحديبية
  • المراسم والمواسم _ إيراني
  • المواسم والمراسم
  • مقالات ودراسات
  • مأساة الزهراء غلاف
  • مأساة الزهراء مجلد
  • لماذا كتاب مأساة الزهراء (عليها السلام)؟!
  • لست بفوق أن أخطئ
  •  خسائر الحرب وتعويضاتها
  • علي عليه السلام والخوارج
  • ظاهرة القارونية
  • كربلاء فوق الشبهات
  • حقوق الحيوان
  • الحاخام المهزوم
  • الحياة السياسية للإمام الجواد
  • الحياة السياسية للإمام الحسن ع سيرة
  • الحياة السياسية للإمام الحسن ع
  • الحياة السياسية للإمام الحسن ع ايران
  • الحياة السياسية للإمام الرضا ع
  • إدارة الحرمين الشريفين
  • ابن عباس ـ ايران
  • ابن عربي سني متعصب
  • ابن عباس وأموال البصرة
  • دراسة في علامات الظهور مجلد
  • بلغة الآمل
  • براءة آدم (ع)
  • بنات النبي أم ربائبه غلاف
  • بنات النبي أم ربائبه
  • عرفت معنى الشفاعة
  • الصحيح1
  • الصحيح 2
  • الصحيح8
  • الجزيرة الخضراء
  • الجزيرة الخضراء
  • الصحيح
  • الغدير والمعارضون لبنان
  • الغدير والمعارضون
  • الأداب الطيبة المركز
  • الآداب الطبية في الإسلام
  • البنات ربائب
  • علامات الظهور
  • علامات الظهور قديم
  • أحيو امرنا
  • أهل البيت في آية التطهير
  • افلا تذكرون
  • ابوذر
  •  بنات النبي (صلى الله عليه وآله) أم ربائبه؟!
  • الإمام علي والنبي يوشع
  • براءة آدم (ع)
  • الغدير والمعارضون
  • الإمام علي والخوارج
  • منطلقات البحت العلمي
  • مأساة الزهراء عليها السلام

خدمات

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إتصل بنا





  • القسم الرئيسي : المؤلفات .

        • القسم الفرعي : الكتب .

              • الموضوع : الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل .

الإسلام ومبدأ المقابلة بالمثل

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 1/

الإسلام
ومبدأ المقابلة بالمثل
السيد جعفر مرتضى العاملي
الوكالة العالمية للطباعة والنشر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 2/

حقوق الطبع والنشر محفوظة
الطبعة الأولى
1409هـ ـ 1989م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 3/

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدين..

وبعد.. فإن الحديث عن ذلك الأمر، الذي قبله الناس على أنه مبدأ مفروغ منه. ألا وهو مبدأ «المقابلة بالمثل» في الحرب، وعن سائر ما يرتبط به من قضايا وأحكام، لهو حديث طويل، ومتشعب، ومترامي الأطراف، ولا يمكن لنا الإحاطة به ما دمنا لسنا بصدد دراسة مستوعبة وشاملة له في الوقت الحاضر على الأقل..

ولهذا.. فإن من الطبيعي: أن نقتصر في بحثنا هذا على الإلمام بمقاطع، وجهات محدودة، تتناسب في حجمها، وفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 4/

مستوى التعرض لها، مع الوقت المحدود، والفرصة المتاحة، والمناسبة التي اقتضته.. والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.

قم المشرفة

جعفر مرتضى العاملي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 5/

تمهيد:

الدفاع عن النفس:

إن مما لا ريب فيه، أن الشارع المقدس، حين شرع أحكامه، وسنّ قوانينه، لم يكن في منأى عن الواقع، ولا كان غافلاً عن مقتضياته، وتحولاته.. بل هو قد راعى أدق خصائصه، وأعمق كوامنه، فجاءت هاتيكم الأحكام، وتلك التشريعات، لتكون البلسم الشافي، والدواء الناجع، لكل ما يعاني منه الإنسان في هذه الحياة، كما وكانت خير معين، وأقوى دافع، وأسمى وسيلة لانطلاقة الإنسان في مسيرته التكاملية، في خصائصه الإنسانية، نحو تحقيق ذاته، والاستفادة من إمكاناته، وقدراته، على النحو الأفضل والأمثل..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 6/

وطبيعي. أن تمر في حياة هذا الإنسان، الكثير من المصائب، والبلايا، والرزايا، التي تستهدف حياته، ووجوده أحياناً، وخصائصه الإنسانية، التي هي موهبة إلهية، أحياناً أخرى.. وبعض ذلك يأتيه من قبل أبناء جنسه، الذين انساقوا وراء نوازعهم وأهوائهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم.

فكان حق الدفاع عن النفس، في مقابل أي تجن أو اعتداء، يتعرض له، هو الأمر الذي اقتضته فطرته، وفرضته عليه جبلته، وحكم به عقله، ورضيه له ضميره، ووجدانه..

وقد جاء الشرع ليؤكد على هذا ويقويه، ويعطي الإنسان الضوء الأخضر في هذا المجال.. فقرر أن له أن يدفع عن نفسه أي اعتداء، من أيٍ كان، حتى ولو كان المهاجم له والقاصد إليه مسلماً أيضاً، ولم يقبل منه أن ينتظر إلى أن يرتكب ذاك جريمته، ويحقق أهدافه. وقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تحث على الدفاع عن النفس، والإذن بقتل المهاجم، فلتراجع في مظانها(1).

هذا بالإضافة إلى الآية الآمرة بقتال الطائفة التي تبغي على طائفة أخرى.

وقال الجصاص: «.. لا نعلم خلافاً: أن رجلاً لو

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الوسائل ج11 ص91ـ94 فثمة أحاديث كثيرة وكذا في التهذيب ج6 ص157و158و166و167 والكافي ج5 ص51و52و53.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 7/

شهر سيفه على رجل، ليقتله بغير حق: أن على المسلمين قتله، فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله، وقد قتل علي بن أبي طالب الخوارج، حين قصدوا قتل الناس».

وقال أيضاً: «.. وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل: أن لا يقاتله، ولا يدفعه عن نفسه، حتى يقتله..»(1).

ثم قال: «.. وما أعلم مقالة أعظم ضرراً على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة. ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين، واستيلائهم على بلدانهم، حتى

ـــــــــــــــ

(1) راجع: أحكام القرآن للجصاص ج2 ص402 وشرح النووي على صحيح مسلم، بهامش القسطلاني ج10 ص336ـ338.

وذكر أ: أن الحشوية قد ذهبوا إلى ذلك استناداً إلى ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) إذا تواجه المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار، فقيل يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه.. وقوله (صلى الله عليه وآله): أن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل، لا تقتل أحداً من أهل القبلة.. ونحوهما من الروايات التي ذكر قسم منها في صحيح مسلم، بهامش إرشاد الساري ج10 ص334 فما بعدها إلى عدة صفحات ولكنهم غفلوا عن ان المراد بالحديث الأول: قصد كل منهما قتله الآخر ظلماً، على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة.. والحديث الثاني، يأمر بترك القتال في الفتنة، وكف اليد عن الشبهة، وأما قتل من استحق القتل، فلم بنفه بذلك..

كما أن الجصاص قد اعتبر قتل الناس بغير حق من مصاديق الفتنة والبغي، وقد أمر الله بالفئة التي تبغي، وبقتالهم حتى لا تكون فتنة.. راجع: أحكام القرآن ج2 ص402و403. وراجع: أيضاً: فتح القدير ج5 ص63 والجامع لأحكام القرآن ج16 ص317.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 8/

تحكموا، فحكموا فيها بغير حكم الله.

وقد جرّ ذلك ذهاب الثغور، وغلبة العدو، حين ركن الناس إلى هذه المقالة، في ترك قتال الفئة الباغية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإنكار على الولاة والجوّار، والله المستعان..»(1).

وقال: «.. ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك، وأن القاصد لقتل غيره ظلماً، يستحق القتل، وأن على الناس كلهم أن يقتلوه، قوله تعالى:

{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل: أن من قتل نفساً بغير نفسٍ، أو فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً الخ..}(2).

السؤال الذي ينتظر الإجابة:

وبعد.. فإن من الواضح: أن العدو حين يشن حربه العدوانية، فإنه يستخدم أساليب معينة، ويقوم بأعمال حربية ذات طابع معين، يراها مناسبة له لتحقيق أهدافه.. فهل أجاز الإسلام مقابلة هذا العدو بالمثل، وضربه بنفس الطريقة التي رضيها هو أسلوباً للتعدي على الحرمات؟! أم أنه يحتم الاقتصار على أمور معينة، لا يرضى بالتعدي عنها أو تجاوزها في أي من الظروف والأحوال؟!..

ـــــــــــــــ

(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص403 وراجع: فتح القدير ج5 ص63، والجامع لأحكام القرآن ج16 ص317.

(2) المصدر السابق ج2 ص401ـ403.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 9/

ونحن في مقام الإجابة على هذا السؤال، لابد لنا من التعرض في بحثنا إلى أمور كثيرة.. ولعل أبرزها:

الإشارة إلى أن هذا الأمر مما يقره العقل، وينسجم مع الفطرة..

ثم إيراد بعض الآيات القرآنية، التي تعرضت لأمر المقابلة بالمثل بصورة عامة، وطرحته على أنه قاعدة عامة، ومبدأ مقبول، في مجال التعامل مع الذين يحاربون الله ورسوله، ويكيدون للإسلام، وللمسلمين. مع نقل بعض ما قاله العلماء حول الآيات..

ثم نذكر بعض الروايات التي تؤيد هذا المبدأ أو تشير إليه..

ونذكر كذلك بعض ما يرتبط بالعمل بهذا المبدأ بالنسبة للمشركين..

ثم يأتي دور الحديث عن البغاة، الذين خرجوا على أمير المؤمنين، وغيرهم، وتطبيق الآية القرآنية التي في سورة الحجرات عليهم.. مع الإشارة إلى رأي أمير المؤمنين، وأصحابه حول إيمان، أو كفر الذين حاربوهم..

وكذلك لسوف نتحدث عن وسائل الحرب مع البغاة، وعن معاملة البغاة على أساس مبدأ المقابلة بالمثل.

كما ونشير إلى أننا إذا قبلنا بهذا المبدأ، وتوصلنا إلى أنه معمول به إسلامياً، فهل يبيح لنا: أن نستعمل الوسائل، ونقوم بنفس الأعمال التي يستعملها، ويقوم بها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 10/

العدو ضدنا، بنحو مطلق؟! أم أن ذلك يختص ببعض الموارد دون بعض؟.

وهل أن ضرب العدو لمدن وقرى المسلمين، وقتل النساء والأطفال، يبيح لنا ضرب مدنه وقراه، حتى ولو كان فيها النساء والأطفال أيضاً؟!..

وإذا جاز ذلك بالنسبة للعدو من غير المسلمين، فهل يجوز ذلك بالنسبة للمحاربين البغاة؟! أم لا يجوز ذلك؟!.

وأخيراً. فهل يمكن أن نعتبر أمير المؤمنين (عليه السلام) قد خرج على هذا المبدأ ـ مبدأ المقابلة بالمثل ـ ورفضه، وأدانه، في قضية منع الماء، وإباحته في حرب صفين؟ أم أنه كان ثمة سرّ آخر يكمن وراء موقفه ذلك؟!..

إلى أمور أخرى اقتضى البحث الإشارة إليها، من دون محاولة التوسع والاستقصاء، إلا في حدود معينة فرفضتها طبيعة هذا البحث.

فإلى ما يلي من صفحات..

والله هو الموفق والمسدد..

وهو ولينا.. وهو الهادي إلى سواء السبيل..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 11/

الإسلام ومبدأ
المقابلة بالمثل

الأحكام الشرعية بين العقل والفطرة:

إن من المعروف المتداول: أن الأحكام الإلهية، قد جاءت منسجمة مع أحكام العقل ومع مقتضيات الفطرة، ولا تشذ عنها في شيء..

مع الأخذ بنظر الاعتبار: أن العقل ـ بسبب محدودية الوسائل التي يملكها، أو تقع تحت اختياره ـ قد يكون عاجزاً عن إصدار بعض الأحكام، بسبب عدم قدرته على إدراك الواقع، وما يحيط به من ظروف، وما يرتبط به من أمور.. الأمر.. الذي يجعل هذا الإنسان يلجأ إلى الاعتماد على ما لا يصح الاعتماد عليه ـ عقلاً ـ من الإمارات الظنية، والمشهورات، والحدسيات، مع العلم بأن دين الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 12/

سبحانه لا يصاب بالعقول. أي الناقصة، ولا بالعقول التي لا تملك الوسائل الكافية للوصول إلى الواقع في كثير من الموارد، ولا سبيل لها إلى الإحاطة به على النحو الأكمل والأفضل..

مع العلم بأنه لو قدر لهذا العقل، أن يطلع على الواقع، على حقيقته، وبجميع ما له من شؤون وحالات، فلسوف يصدر حكمه مطابقاً تماماً لحكم الإسلام، لا يختلف عنه في شيء، ولا يشذ عنه على الإطلاق.

ولكن من الواضح: أن هذا العجز إنما يتجلى في موارد خاصة، هي الأقل كمية وأهمية، وليس قاعدة كلية، تنسحب على جميع الموارد والأحكام.. فهناك الموارد الكثيرة، والكثيرة جداً، التي ينكشف فيها الواقع للعقل، فيجد فيها مجاله، ويصدر أحكامه، بكل ثقة وحزم وصراحة. وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء، أو التي، بمجرد أن يلتفت إليها، يدرك وجه الحكم فيها.

ولعل أكثر ما يتجلى ذلك ويتضح، فيما يرتبط بالضوابط والمعايير العامة، التي تحكم حركة التشريع، وتهيمن عليه في المجال العام، وتمثل الركائز، والمنطلقات له، فإنها لابد من أن تكون منسجمة مع أحكام العقل، ومع مقتضيات الفطرة، بصورة صريحة وواضحة.. ولكل أحد أيضاً..

وقلنا: «كل أحد» من أجل أن نصل إلى حقيقة: أننا حين نجد آراء العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ وعلى اختلاف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 13/

مللهم، ونحلهم، وأذواقهم، ومشاربهم، واتجاهاتهم، وثقافاتهم ـ حين نجد آرائهم ـ تتفق مع موضوع ما، وتصدر عليه حكماً واحداً، وصريحاً، وقطعياً، فإننا نقطع بأن هذا هو حكم الإسلام فيه أيضاً بلا شبهة، ولا ريب..

وهكذا نقول أيضاً: بالنسبة لمقتضيات الفطرة الصحيحة والسليمة، التي لم تلوث، ولم تتأثر بما هو وافد عليها، وغريب عنها، فإن غريزة الدفاع عن النفس مثلاً، موجودة حتى لدى الحيوان، فنجده يدافع عن نفسه، حين يواجه أي عدوان من الخارج، وكذا الطفل الصغير، وليس ذلك استناداً لحكم عقل، ولا هو نتيجة تفكير واستنتاج، وإنما هو انسياق مع الفطرة، واستجابة لدوافعها..

ومن هنا نعرف السر، وكذلك الحدود المفروضة لمقولة: إن أحكام الإسلام منسجمة مع أحكام العقل، ومع مقتضيات الفطرة، وإنما المعيار والميزان لأحكامه.. ولندرك على أساس ذلك: أن كل ما يتنافى معها بصورة قاطعة، أو مع المنطلقات الأساسية لأحكامهما، في مرحلة الثبوت والواقع، وحتى في مرحلة الإثبات أيضاً إذا لوحظ توافق جميع الآراء على ذلك، أو كان مما يدركه العقل لأول وهلة ـ نعم.. إن كل ما يتنافى مع العقل والفطرة، فليس من الإسلام، لا من قريب، ولا من بعيد.. وبعدما تقدم فإننا نقرر الحقائق التالية:

إن من الطبيعي أن يكون الدفاع عن النفس مما تقضي به الفطرة، وينسجم مع أحكام العقل، مادام أن المعتدي ظالم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 14/

والفطرة لا تنسجم، والعقل يأبى الظلم، كما أن منع المظلوم من ممارسة حقه في الدفاع عن نفسه ظلم آخر، لا يقبله الإسلام، ولا يأذن به..

كما أنه لو توقف رد العدوان، وتحقيق النصر على العدو، وحفظ النفس والحياة، وكيان الإسلام على أمور لا توازي في أهميتها الإسلام والحياة، فيجوز المبادرة إليها وارتكابها، بمقتضى حكم العقل والفطرة أيضاً، ولأجل ذلك، فقد جوز الإسلام الكذب في الحرب، والخدعة فيها، وذلك انسجاماً مع قواعد التزاحم، التي يقرها العقل، ويلتزم بها.

ولكن ذلك لا يعني أننا نقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، لأن الهدف والوسيلة سواء، مادامت تستمد منه قيمتها وقدسيتها وسموها، ولأجل ذلك، فهناك حدود شرعية، لابد من الالتزام والإلزام بها، تحدد وتنظم التحرك في مساحة المسموح بها، في مجال الحركة نحو الهدف، ولا يتنافى الكذب والخديعة مع هذه القدسية وإنما ينسجم معها، وسنوضح هذا الأمر مرة أخرى إن شاء الله تعالى.

ومن جهة أخرى، فإن كثيراً من الأوامر والزواجر، والإجراءات والتدبيرات الحربية الصادرة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعن وصيه، وأوصيائه (عليهم السلام) من بعده، قد جاءت وفق الأحكام العقلية وتدبيرات العقلاء، أي أنها صدرت عن النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام)، من حيث هو عاقل ومدبر، بل رئيس العقلاء وسيدهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 15/

يفكر بالأصلح، والأجدر والأجدى للإسلام وللمسلمين، لا من حيث هو نبي وإمام، ومبلغ الحكم إلهي منزل..

وليكن من الأمثلة، التي نسوقها شاهداً على ذلك الخندق في حرب الأحزاب، بمشورة سلمان المحمدي، وجعل المسلمين جبل احد خلف ظهورهم، ووضع الرماة على ثغرة في الجبل في حرب أحد، ثم استعمال السيف، والرمح، والدرع، وغير ذلك من وسائل في الحرب، ولابد من ملاحظة: أن هذه الأوامر، والزواجر، محكومة لضوابط ومعايير وأحكام إلهية، وفطرية، كلية، وعامة..

هذا.. إلى جانب أحكام شرعية إلهية، تتعلق بكثير من الموارد في الجهاد أيضاً، لابد من الالتزام بها تعبّداً كموضوع الخمس في الغنيمة، وكثير من أحكام الأسرى، واستعمال بعض الأساليب التدميرية، وغير ذلك.

وأخيراً.. فإن مبدأ المقابلة بالمثل، بهدف ردع المعتدي عن عدوانه، وحفظ كيان الإسلام والمسلمين، حيث يتوقف الأمر على ذلك.. لا يشذ عن هذه القاعدة العقلية الفطرية أيضاً، وإن كان الشارع قد حدد له حدوداً، ووضع له قيوداً ـ كما سنشير إليه.

وهذا المبدأ، حيث يتوقف الحفظ للإسلام، ودفع العدو، والنصر عليه، يصبح، من الأمور الواضحة، والثابتة، التي لا تحتاج إلى برهان، أو استدلال، أو استشهاد بالآيات والروايات، فإن الأدلة السمعية، والحالة هذه، تكون إرشاداً إلى حكم العقل، وقضاء الفطرة.. نعم. يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 16/

تعميم هذا المبدأ بحاجة إلى ملاحظة إطلاق الروايات والآيات، كما هو معروف وظاهر..

ولكننا مع ذلك.. وعملاً بقوله تعالى: {قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي..} ولأجل قطع دابر أي شك: أو ترديد، أو شبهة، يمكن أن تراود ذهن البعض، وكذلك من أجل قطع الطريق على كل الإيحاءات المغرضة والمسمومة، الرامية إلى التشكيك بهذا الأمر الواضح، توصلاً إلى ما هو أعظم وأدهى. ومن أجل أن نعرف إن كان لدينا دليل سمعي، يمكننا الرجوع إلى عمومه، أو إطلاقه، حيث تمس الحاجة إلى ذلك..

نعم.. من أجل ذلك كله.. لسوف نحاول استنطاق الآيات القرآنية، وبعض الأحاديث الشريفة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، من دون محاولة الاستيعاب والاستقصاء، على أمل أن يتلقاها المنصفون والواعون بقبول حسن، فنقول:

مع الآيات القرآنية:

أما بالنسبة للآيات القرآنية، فإن المتتبع لها يجد العديد منها قد رأى العلماء والمفسرون، على اختلاف مذاهبهم، ونحلهم، ومشاربهم واتجاهاتهم: أنها دالة على مبدأ المقابلة بالمثل، ورأوا: أن ما نزل منها في موارد ومناسبات خاصة، لا يختص بتلك الموارد والمناسبات، بل يتعداها إلى غيرها أيضاً..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 17/

ولا ريب في أن هذه الآيات بمجموعها، بل ومعها كثير غيرها ـ لتدل ـ تصريحاً، أو تلويحاً على أن مبدأ المقابلة بالمثل أمر مقرر ومقبول إسلامياً.. وقد صدرت بعض الأوامر وجعلت بعض الأحكام على أساسه بالذات. ونذكر هنا الآيات التالية:

الآية الأولى:

قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام. والحرمات قصاص. فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا: أن الله مع المتقين}(1).

فنجد في هذه الآية فقرات ثلاث تدل على مبدأ المقابلة بالمثل، وقد قرر المفسرون ـ وكذلك بعض الروايات ـ دلالة الآية على ذلك بصورة قاطعة، وحيث إن نقل أقوالهم وعباراتهم الصريحة في ذلك مما يطول به المقام، فإننا نكتفي بنقل بعضها، ونكل أمر الإطلاع على سائرها إلى من يتعلق غرضه بذلك، فنقول:

قال الشوكاني: «.. إن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة عليكم، فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصاً»..

وقال: وقوله: {فمن اعتدى عليكم} الخ.. في حكم التأكيد لقوله تعالى: {والحرمات قصاص}(2).

ـــــــــــــــ

(1) البقرة 194.

(2) راجع: فتح القدير ج1 ص192.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 18/

وقال السيد العلاّمة الطباطبائي رحمه الله تعالى: «.. والمعنى: أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدوا النبي وأصحابه عن الحج عام الحديبية.. إلى أن قال: ولو هتكوا حرمة الحرم، والمسجد الحرام بالقتال فيه، وعنده، جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام، بياض خاض، عُقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات.. إلى أن قال: فالمعنى: أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام، لانه شرع القصاص في جميع الحرمات، وإنما شرع القصاص في جميع الحرمات، لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل»(1).

وقريب منه ما ذكره: الفاضل الجواد، والمقداد السيويري، والأردبيلي، وصاحب الجواهر، والزمخشري، والقرطبي، والطوسي، والنيسابوري، والشوكاني، والطبرسي، والرازي، والجصاص، والراوندي، وغيرهم(2)، ولذا فلا نرى حاجة إلى ذكر كلماتهم، فإنهم

ـــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان ج2 ص63.

(2) راجع: الجامع لأحكام القرآن ج2 ص355و356 وجواهر الكلام ج21 ص32 وفتح القدير ج1 ص192 وزبدة البيان ص310 ومسالك الأفهام إلى آيات الأحكام ج2 ص325و324 وأقصى البيان ج1 ص423 والتبيان ج1 ص150و151 وكنز العرفان ج1 ص237 وغرائب القرآن للنيسابوري، بهامش الطبري ج1 ص131و134 وفقه القرآن ج1 ص336و337 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص261و262 ومجمع البيان ج1 ص287و288 وتفسير الرازي ج5 ص134 والدر المنثور ج1 ص206و207 وفي ظلال القرآن ج1 ص191.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 19/

جميعاً، قد أكدوا على أن الآية بصدد بيان مبدأ المقابلة بالمثل، وتكلموا حول ذلك مشروحاً، فليراجع كلماتهم من أراد..

ولكن من الواضح: أن الآية وإن كانت مطلقة، إلا أنه يمكن تقييدها بصورة ما لم يكن ذلك من الأمور المحرمة في الشرع بصورة مطلقة، أو بغير ذلك كما سيأتي توضيحه، فإن المطلق يحمل على المقيد، في مثل هذه الموارد..

وقال الفاضل المقداد، بعد كلام له في تقرير مبدأ المقابلة بالمثل في الآية، وعموم الحكم، قال: «.. وفي الآية أحكام:

إباحة القتال في الشهر الحرام، لمن لا يرى له حرمة، أعم من أن يكون ممن كان يرى الحرمة، أولا، لأنه إذا جاز قتال من يرى حرمته، فقتال غيره أولى..

أنه يجوز مقاتلة المحارب المعتدي بمثل فعله، لقوله: الحرمات قصاص..»(1).

وسيأتي عن القرطبي، أنه: «لا خلاف بين العلماء في أن هذه الآية أصل المماثلة في القصاص فمن قتل بشيء، قتل بمثل ما قتل به، وهو قتل الجمهور»(2).

وأخيراً.. فقد قال الشيخ محمد كاظم الشيرازي: «..

ـــــــــــــــ

(1) كنز العرفان ج1 ص344.

(2) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص356.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 20/

إن ظاهر الآية: المماثلة في المعتدي به، لأن الحمل على المماثلة في الاعتداء، بجعل [ما] مصدرية، يستلزم زيادة كلمة الباء. وكون [مثل] صفة لمفعول مطلق محذوف. يعني: فاعتدوا عليه اعتداء مثل اعتدائه عليكم، وهو خلاف الظاهر»(1).

والمراد بالمماثلة في المعتدي به هو النسخية بنظر العرف، وان اختلفت في بعض الخصوصيات..

الآية الثانية:

قوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجومك، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جزاء الكافرين..}(2).

ولا نريد أن نستدل بذيل الآية، وإنما نريد أن نشير إلى ما فهمه المفسرون من قوله تعالى: {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} حيث جعل إخراجهم من مكة في مقابل إخراجهم للمسلمين منها، عملاً بمبدأ المقابلة بالمثل، قال الخازن: «أي وأخرجوهم من ديارهم، كما أخرجوكم من دياركم»(3).

وقال غيره: «[وأخرجوهم] من مكة [من حيث

ـــــــــــــــ

(1) بلغة الطالب في حاشية المكاسب ج2 ص255.

(2) البقرة 191.

(3) تفسير الخازن ج1 ص122.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 21/

أخرجوكم] كما أخرجوكم..»(1).

وقال الأردبيلي وغيره: «وإخراجهم من مكة في مقابلة إخراجهم المسلمين عنها»(2).

وقال العلامة الطباطبائي: «فالمعنى: شددوا على المشركين بمكة، كل التشديد، بقتلهم، حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم، وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك»(3).

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه(4).

هذا كله.. عدا عن إمكانية الاستدلال بذيل الآية أيضاً أعني قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام، حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم} وذلك ظاهر.

الآية الثالثة:

قوله تعالى: {وإن عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم، لهو خير للصابرين، واصبر، وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يمكرون}(5).

ـــــــــــــــ

(1) تنوير المقباس، بهامش الدر المنثور ج1 ص92.

(2) راجع: زبدة البيان ص308 ومجمع البيان ج1 ص286 وراجع: تفسير الطبري ج2 ص111 وغرائب القرآن للنيسابوري بهامشه ج2 ص228.

(3) تفسير الميزان ج2 ص61.

(4) راجع: أقصى الميزان ج1 ص440.

(5) النحل 126/127.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 22/

فقد فهم كثير من العلماء، من هذه الآية تجوير الردّ بالمثل، حين الاعتداء، وإن لم يبين فيها حدود هذا الرد وشروطه، من كونه يجوز بما يحرم مطلقاً أم لا، كما سنبينه.

فقال الرازي: «يعني: إذا رغبتم في القصاص، فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا»(1).

وقال: «في هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا»(2) وقريب منه ما ذكره الطبرسي، وسيد قطب أيضاً(3).

وقال العلامة الطباطبائي، بعد أن ذكر: أن ظاهر السياق، هو أن الخطاب للمسلمين: «إن أردتم مجازاة الكفار وعذابهم، فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به، مجازاةً لكم على إيمانكم، وجهادكم في الله»(4).

وقال الشوكاني: «قال ابن جرير: نزلت هذه الآية في من أصيب بظلامة: أن لا ينال من ظالمه، إذا تمكن، إلا مثل ظلامته، لا يتعداها إلى غيرها. وهذا صواب، لأن الآية، وإن قيل: إن لها سبباً خاصاً، كما سيأتي، فالاعتبار

ـــــــــــــــ

(1) و (2) التفسير الكبير ج20 ص142و141 على الترتيب.

(3) مجمع البيان ج6 ص363 وفي ظلال القرآن ج4 ص2202.

(4) تفسير الميزان ج12 ص374.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 23/

بعموم اللفظ، وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره..»(1).

وقال الخازن: «المعنى: أن صنع بكم سوء من قتل أو مثلة ونحوها، فقابلوه بمثله، استيفاء للحقوق» إلى آخر كلامه، الذي يؤكد فيه على قضية المماثلة(2).

هذا.. وقد رووا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حينما رأى في واقعة أحد، ما صنع بحمزة، من التمثيل، توعد قريشاً بأنه إن ظفر بهم ليمثلن بسبعين رجلاً منهم فنزلت الآية. ولكنا قد أثبتنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) عدم صحة هذه الرواية، وأن الأقرب هو: أن بعض أصحابه، قالوا: ذلك، فنزلت الآية في ردهم(3).

ويلاحظ أخيراً.. أن هذه الآية والتي سبقتها، وإن كانت قد وردت في واقعة خاصة، فإنها قد قررت: أنه في مثل هذه الواقعة، التي يجوز فيها المبادرة للعقاب، فإنه يحق

ـــــــــــــــ

(1) فتح القدير ج3 ص203 وراجع: جامع البيان ج14 ص131 وغرائب القرآن للنيسابوري بهامشه ج14 ص132.

(2) لباب التأويل للخازن ج3 ص143 ومدارك التنزيل للنفسي، بهامش الصفحة نفسها.

(3) ذكرنا بعض المصادر في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج4 ص300ـ307 ونزيد هنا: الجامع لأحكام القرآن ج10 ص141 وتفسير الميزان ج12 ص377 ولباب التأويل للخازن ج3 ص143 ومدارك التنزيل بهامش، الصفحة نفسها، وجامع البيان للطبري ج14 ص131 وغرائب القرآن بهامشه ج14 ص132 ومجمع البيان ج6 ص393 والتبيان ج6 ص440 وعن تفسير العياشي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 24/

المقابلة بالمثل، إلا أنه بعد إلقاء العرف للخصوصية، فإنها تصبح قاعدة عامة، كما أشار إليه ذيل الآية أيضاً، أعني قوله: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.. وتقدم نقل الشوكاني ذلك عن ابن جرير، وأيده هو أيضاً..

الآية الرابعة:

قوله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به، ثم بغي عليه، لينصرنه الله، إن الله لعفو غفور}(1).

قال العلامة الطباطبائي: «والعقاب بثمل العقاب كنابة عن المعاملة بالمثل. إلى أن قال: والمعنى على هذا: ومن عامل من عاقبه بغياً عليه، بمثل ما عاقب، نصره الله بإذنه فيه، ولم يمنعه عن المعاملة بالمثل»(2).

وقد واضح دلالة الآية على مبدأ المقابلة بالمثل كل من: الرازي، والشوكاني، وسيد قطب، وغيرهم(3).

الآية الخامسة:

قوله تعالى، في وصف المؤمنين: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح، فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر

ـــــــــــــــ

(1) الحج 60.

(2) تفسير الميزان ج14 ص400.

(3) التفسير الكبير للرازي ج23 ص59 وفتح القدير ج3 ص465 وفي ظلال القرآن ج4 ص2439 وتفسير الخازن ج3 ص296، وراجع: تفسير التبيان ج7 ص296 وتفسير القرطبي ج12 ص90.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 25/

بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم}(1).

فإن هذه الآيات، وإن كانت ظاهرة في موضوع الجنايات والقصاصات، إلا أنها قد جاءت على سبيل القاعدة، وكأنها كبرى كلية، كان مورد القصاص من مصاديقها! ولأجل ذلك، فلا مانع من استفادة العموم منها، كما فهمه غير واحد..

قال الشوكاني: «.. فبين سبحانه: أن العدل في الانتصار، هو الاقتصار على المساواة، وظاهره العموم»(2).

وذكر آخرون: أن هذه الآيات قد قررت: أن للمبغي عليه ان ينتصر من الباغي، بصورة عادلة، أي بقيد أن يكون بالمثل، «فإن النقصان حيف، والزيادة ظلم، والتساوي هو العدل، وبه قامت السماوات والأرض، فلهذا السبب قال: وجزاء سيئة سيئة مثلها..»(3).

وقال الرازي: «هذه الآيات أصل كبير في علم الفقه، فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها» ثم ذكر أن الإهدار

ـــــــــــــــ

(1) الشورى 39ـ42.

(2) فتح القدير ج4 ص541.

(3) راجع: تفسير الكبير للرازي ج27 ص178 وتفسير الميزان ج18 ص64 والجامع لأحكام القرآن ج16 ص40 والتبيان ج9 ص167.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 26/

يوجب التجري والإقدام، ثم قال: «.. وأما الزيادة على قدر الذنب، فهو ظلم، والشرع منزّه عنه، فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل».

«ثم تأكد هذا النص بنصوص أخر، كقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. وقوله تعالى: {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها}. وقوله عز وجل: {كتب عليكم القصاص في القتلى}. والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة. وقوله تعالى: {والجروح قصاص}. وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة}. فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله»(1).

وقال: قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها يقتضي وجوب رعاية المماثلة، مطلقاً في كل الأحوال، إلا فيما خصه الدليل..}(2).

وبعد أن ذكر القرطبي قول ابن عباس بأن الآية ناظرة إلى التعامل مع المشركين قال: «وقيل: هو عام في بغي كل باغ، من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه..»(3).

وليراجع رد الجصاص وغيره على قول الحشوية بلزوم

ـــــــــــــــ

(1) التفسير الكبير ج27 ص178/179.

(2) التفسير الكبير ج27 ص181 وراجع: تفسير جامع البيان ج25 ص24 ولباب التأويل للخازن ج4 ص98و99.

(3) الجامع لأحكام القرآن ج16 ص39.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 27/

السكوت والهروب، في أوائل هذا البحث.

بل لقد قال الطوسي: «يمكن أن يستدل بذلك [أي بالآية الأخيرة المتقدمة] أي على من ظلمه غيره بأخذ ماله، كان له ـ إذا قدر ـ أن يأخذ من ماله بقدره، ولا إثم عليه..»(1).

فنراه قد عمّم الحكم لصورة الاعتداء في المال أيضاً. هذا.. وليراجع تفسير الآية في سائر كتب التفسير أيضاً..

الآية السادسة:

وقد فهم بعض العلماء والمفسرين، وكذلك روي عن بعض السلف، وعن أبي جعفر (عليه السلام): أن قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، إلاّ من ظلم، وكان الله سميعاً عليماً}(2) يدل على ذلك أيضاً:

قال القرطبي: «.. والذي يقتضيه ظاهر الآية: أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه، ولكن مع اقتصاد، إن كان مؤمناً، كما قال الحسن، فأما أن يقابل القذف بالقذف، فلا..»(3).

ونقل عن ابن عباس والسدي: «لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول..»(4).

ـــــــــــــــ

(1) التبيان ج9 ص168.

(2) النساء 148.

(3) الجامع لأحكام القرآن ج6 ص2.

(4) الجامع لأحكام القرآن ج6 ص1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 28/

وعن علي بن إبراهيم: «أي لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم والسوء، ويظلم، إلا من ظلم، فقد أطلق له أن يعارضه بالظلم»(1).

وعن السدي: «أن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول من أحد، من الخلق، ولكن يقول: من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم، فليس عليه جناح»(2).

وقال الطبرسي: «.. لا يحب الله الشتم في الانتصار، إلا من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه، مما يجوز الانتصار به في الدين. عن الحسن، والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر..»(3).

كانت تلك طائفة من الآيات التي قرر العلماء دلالتها على مبدأ المقابلة بالمثل، ونرى أنها كافية في هذا المجال.. فلا حاجة إلى التتبع والاستقصاء أزيد من ذلك..

روايات تؤكد مضمون الآيات:

هذا.. وتجدر الإشارة هنا: إلى أن بعض الروايات قد جاءت لتؤكد مضمون الآيات السابقة، واستشهدت ببعضها على مبدأ المقابلة بالمثل، وذلك مثل:

ـــــــــــــــ

(1) تفسير القمي ج1 ص157 وعنه في تفسير البرهان ج1 ص425 وفي نور الثقلين ج1 ص470.

(2) الدر المنثور ج2 ص237 وجامع البيان ج6 ص3.

(3) مجمع البيان ج3 ص131 وعنه في: الميزان ج5 ص124 وفي تفسير البرهان ج1 ص425 وفي نور الثقلين ج1 ص470.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 29/

ما تقدم آنفاً عن أبي جعفر (عليه السلام)، من جواز الانتصار من الظالم بما يجوز في الدين.

ما سيأتي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، حينما قتل كريباً، أحد فرسان الشام، ثم استشهد بآية: الشهر الحرام بالشهر الحرام الخ..

وستأتي كذلك رواية: الذي قتل رجلاً في الحرم، أو سرق، فإنه يقام عليه الحد في الحرم، استناداً إلى قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه} الخ.

الرواية الآية أيضاً، حول شمول آية: الشهر الحرام بالشهر الحرام ـ للروم أيضاً(1).

نصوص أخرى:

هذا بالإضافة إلى روايات أخرى ـ وإن لم تكن جامعة لشرائط الحجية، بالمعنى المصطلح إلا أنها قد أشارت بوضوح، أو بخفاء إلى هذا المبدأ، مثل:

ما ورد عن علي (عليه السلام): رد الحجر من حيث جاءك: فإنه لا يرد الشر إلا بالشر(2).

ـــــــــــــــ

(1) ستأتي الروايات الثلاثة الآنفة الذكر، حين الحديث على شمول الآيات السابقة للبغاة، إن شاء الله تعالى.

(2) راجع: غرر الحكم ج1 ص421 ونهج البلاغة، بشرح عبده ج3 ص228، الحكمة رقم314 وربيع الأبرار ج1 ص603 ومصادر نهج البلاغة ج4 ص244 عمّن تقدم، وعن نهاية الأرب للنويري ج6 ص65.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 30/

وعن علي (عليه السلام): الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر، وفاء عند الله(1).

عن الإمام الصادق (عليه السلام): من سل سيف البغي قتل به(2).

مر رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجلين يتشاجران، وكان أحدهما يتعدى، ويتطاول، وصاحبه يقول: حسبي الله، حسبي الله، فقال (عليه السلام): يا هذا ابل من نفسك عذراً فإذا اعجزك الأمر، فقل: حسبي الله(3).

ولما سأل الإمام علي (عليه السلام) الخوارج عما نقموه عليه، فذكروا من ذلك: أنه أباح لهم الأموال التي يجدونها في عسكرهم، ومنعهم من سبي النساء والذراري، فقال (عليه السلام): إنما أبحت لكن أموالهم، بدلاً عما أغاروا عليه من بيت مال البصرة، قبل قدومي عليهم(4).

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: اقتلوا القاتل،

ـــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، بشرح عبده ج3 ص210 الحكمة رقم259 وغرر الحكم ج1 ص60 وروض الأخيار ص111 وربيع الأبرار ج3 ص375 ومستدرك الوسائل ج2 ص249، ومصادر نهج البلاغة ج4 ص201 عن بعض ما تقدم، وعن: غرر الخصائص الواضحة للوطواط ص39 وعن شرح النهج للمعتزلي ج1 ص216.

(2) كشف الغمة ج3 ص370 والبحار ج75 ص202و204.

(3) ربيع الأبرار ج2 ص817.

(4) الفرق بين الفرق ص78.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 31/

واصبروا الصابر، أي احبسوا الذي حبسه للموت، حتى يموت، كفعله به(1).

وسيأتي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في قضية منع الماء في صفين، والدال على مبدأ المقابلة بالمثل أيضاً..

ولعل منه أيضاً، ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه(2).

لكن قال البيهقي: «في إسناده بعض من يجهل، وإنما قاله زياد في خطبته..»(3).

ونقول: إن هذا الحكم القاطع لم نفهم الوجه فيه، فإن مجرد وجود بعض من يجهل في إسناد الرواية، لا يبرر الحكم بعدم صدورها من النبي (صلى الله عليه وآله). كما أن ورود هذه العبارة في خطبة لزياد، لا يعني أنه هو أول من قالها، فلعله أوردها كشاهد على ما يريد، أو لعلها شائعة متداولة آنئذٍ.

ـــــــــــــــ

(1) النهاية لابن الأثير ج3 ص8 وغريب الحديث ج1 ص254 وسنن الدارقطني ج3 ص140 ونيل الأوطار ج7 ص165 عن البيهقي، والدارقطني، وصححه ابن القطان.

(2) نيل الأوطار ج7 ص164 عن البيهقي، والبزار، وسنن البيهقي ج8 ص43 وغرائب القرآن للنيسابوري، بهامش تفسير الطبري ج17 ص115 والبحر الزاخر ج6 ص236 وشرح الأزهار ج4 ص402 ونصب الراية ج4 ص343و344.

(3) نيل الأوطار ج7 ص164 عن البيهقي، وشرح الأزهار ج4 ص402 وجواهر الأخبار والآثار، المطبوع مع البحر الزاخر ج6 ص236.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 32/

وفيما يرتبط بالآيات السابقة، نشير إلى الأمور الثلاثة التالية:

الأمر الأول: الواحد الشخصي، أو المجموعي:

إن الآيات المتقدمة، حين قررت مبدأ المقابلة بالمثل، في صورة حدوث أي اعتداء، فإن إطلاقها يقتضي تعميم ذلك لصورة ما لو كان الاعتداء من شخص بعينه، فيقابل بالمثل، وبين ما لو كان من جماعة، كحزب، أو جيش، أو طائفة من الناس، فكذلك أيضاً.

أضف إلى ذلك: أن مورد نزول تلك الآيات، في الأكثر، هو المقابلة بالمثل للواحد المجموعي، كأهل مكة، حينما أخرجوا المسلمين من ديارهم، وحينما هتكوا حرمة الشهر الحرام، وحينما مثلوا بشهداء أحد، فتوعدهم المسلمون بالرد، فالآيات المتقدمة وبعض الروايات قد دلت على المقابلة بالمثل في هذه الموارد، ونظائرها..

فتصح المقابلة بالمثل لهذا الواحد المجموعي، وإن كان ذلك ينال الآخرين، غير الذين اعتدوا في بادئ الأمر، إذ تكفي المشاركة في الاعتداء، والرضا العملي به للأفراد الداخلين في وحدة مجموعية..

أما من يكون في حوزة المعتدين، ولا يرضى بفعلهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 33/

فلابد من التحرز عن الإضرار به ما أمكن، إلا إذا توقف دفع شر المعتدي على المقابلة بالمثل، فيجوز حينئذٍ بالمقدار الذي يحقق ذلك.

ومن شواهد ذلك عدا عن مورد نزول الآيات، ما سيأتي من انتقام أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعض المعتدين على جماعة أهل العدل بالقتل أو التمثيل، سواء كانوا هم الذين باشروا الجريمة، أو كانوا من المدافعين عنهم. بل لقد وجدنا أن المقابلة بالمثل تعمم في بعض الموارد، لتشمل ما كان في حرب أخرى، يخوضها أهل العدل مع الجماعة المعتدية، أو من هم منهم، أو على مثل رأيهم.

كما أن ما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخوارج، إنما كان بسبب ما فعلوه بعبد الله بن خباب، وغيره، حتى استأصل شأفتهم، ولم يفلت منهم أحد إلا الشريد، مع العلم بأن المباشرين للجريمة، كانوا أفراداً منهم، لكن تأييد الباقين لهم، ودفاعهم العلمي عنهم، ورضاهم بفعلهم، حتى لقد أقروا جميعاً: أنهم كلهم قد ـ قتل ابن خباب(1) ـ إن ذلك ـ يؤكد على أن الميزان والمعيار هو المشاركة في الاعتداء، أو الرضا

ـــــــــــــــ

(1) راجع: شرح النهج للمعتزلي الحنفي ج2 ص282 وقاموس الرجال ج5 ص436/437 ومناقب الإمام علي (عليه السلام) لابن المغازلي ص413/414، وفي هامشه عن مصادر كثيرة. والفرق بين الفرق ص87.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 34/

العملي به، ولا يفرق بين المشركين، وبين البغاة، كما هو معلوم..

ومن هنا فإننا نجد امير المؤمنين علياً (عليه السلام) يتهدد اللذين كانا يمدان أعداءه بالمال في حرب الجمل، بأن يجعل أموالهما في سبيل الله(1).

الأمر الثاني: المماثلة في القصاص:

لقد ذكر غير واحد من المفسرين والفقهاء انطلاقاً من دلالة الآيات المتقدمة على مبدأ المقابلة بالمثل، أنها تكون دالة بصورة طبيعية وتلقائية على رعاية المماثلة في القصاص، فيقتل القاتل، بمثل ما قتل به، من حجر، أو حصى، أو خنق، أو شبهه. قال ابن الطلاع: وهو قول مالك(2) ونسبوه أيضاً إلى الشافعي، وهو أحد قولي أحمد(3)..

وقد استُدِلّ على ذلك بآية سورة الشورى: وجزاء

ـــــــــــــــ

(1) كتاب: الجمل، للمفيد ص124.

(2) أقضية رسول الله ص115 وراجع: أحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

(3) راجع: أعلام الموقعين ج1 ص327 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115 وراجع: قول الشافعي في مجمع الأنهر ج2 ص488/489 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص160 وعن مالك والشافعي في عمدة القاري ج24 ص39 ونسبه إلى أحمد وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 35/

سيئة سيئة مثلها، كما ذكره الطوسي، وغيره(1).

واستدل الشافعي بآية سورة الحج: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به، ثم بغي عليه، لينصرنه الله «استدّل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص، فقال: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه»(2) وبه قال مالك(3).

كما أن القرطبي وغيره قد ذكروا ذلك بالنسبة للآية التي في سورة النحل، وإن عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتهم به(4).

قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب»(5)..

كما ان القرطبي، قد ذكر ما يقرب من ذلك أيضاً بالنسبة لآية سورة البقرة: الشهر الحرام بالشهر الحرام،

ـــــــــــــــ

(1) التبيان ج9 ص167 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115.

(2) غرائب القرآن للنيسابوري، بهامش تفسير الطبري ج17 ص115 وراجع: أعلام الموقعين ج1 ص155 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115 عن التلخيص الحبير ج4 ص19 وراجع بداية المجتهد ج2 ص400.

(3) راجع: بداية المجتهد ج2 ص400.

(4) راجع: نصب الراية ج4 ص343 وإرشاد الساري ج10 ص48 وهامش كتاب: أقضية رسول الله ص115 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

(5) الجامع لأحكام القرآن ج10 ص202.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 36/

والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم الخ.. ونقل ذلك عن الشافعي، وغيره، وهي رواية مذهب مالك(1).

بل لقد نسب ذلك إلى الجمهور أيضاً، وقال: «اتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله، وفقأ عينه قصد التعذيب، فعل به ذلك كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله): بقتله الرعاء»(2).

وليراجع ما جاء عن مجاهدي السدي في آية سورة الشورى(3).

ولكن لابد لنا من الإشارة هنا إلى أن ما ذكره القرطبي بالنسبة لقتل النبي (صلى الله عليه وآله) للرعاء ليس بصحيح، والصحيح منه: أنه (صلى الله عليه وآله) عاقبتهم بما يعاقب به المحارب لله ولرسوله، من قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أما بالنسبة لسمل الأعين وغيره ما يذكرونه فلا يصح، راجع كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ج4 ص302/303.

كما أن ما روي من أنه (صلى الله عليه وآله) قد أمر بأن يلدَّ جميع من كانوا عنده في البيت عقوبة لهم، حينما لدّه عمه العباس أو

ـــــــــــــــ

(1) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص355 وراجع: فتح القدير ج1 ص192 ونصب الراية ج4 ص343 عن الروض الآنف وراجع البحر الزخار ج6 ص234 وإرشاد الساري ج10 ص48 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 وراجع أحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

(2) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص356.

(3) راجع: التفسير الكبير ج27 ص181 والتبيان ج9 ص167 وجامع البيان ج25 ص24 ولباب التأويل للخازن ج4 ص98و99.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 37/

غيره لا يصح، وقد تكلمنا بشيء من التفصيل حول هذا الموضوع في الجزء الأول من كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام فليراجعه من أراد..

ولربما يمكن الاستدلال بما روي عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وآله، قال: يقتل القاتل، ويصبر الصابر»(1).

لكن فتوى أهل البيت (عليهم السلام) هي: أنه لا يقتل بمثل ما قتل به، بل يستفاد منه بالحديد، أي بالسيف(2).

ونسب ابن الطلاع ذلك إلى أهل العراق(3).

وذكر المعلق عليه، أنه يقصد بذلك أبا حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي أحمد(4). ونسب الزرقاني، وغيره الخلاف في هذا إلى الكوفيين(5)، ونسبه العيني، إلى إبراهيم، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه(6) ونسبه الجصاص إلى أبي حنيفة، وزفر، ومحمد، وأبي يوسف(7).

ـــــــــــــــ

(1) نيل الأوطار ج7 ص165 عن البيهقي، والدارقطني، وصححه ابن القطان. وسنن الدارقطين ج3 ص140. والنهاية لابن الأثير ج3 ص8 وغريب الحديث ج1 ص254.

(2) راجع: نيل الأوطار ج7 ص165 والجواهر ج42 ص296.

(3) أقضية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ص115.

(4) هامش كتاب أقضية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ص155.

(5) إرشاد الساري ج10 ص48 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174.

(6) عمدة القاري ج24 ص39.

(7) أحكام القرآن للجصاص ج1 ص160.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 38/

وتدل على ذلك بعض الروايات أيضاً(1).

لكن في المسالك: بعد اعترافه بأن الأصحاب على ما سمعت، احتمل جواز قتله بالكال حينئذٍ، لعموم الأمر بالعقوبة المماثلة(2).

وقال النجفي: «ولم نجد خلافاً في ذلك، إلا ما يحكي عن أبي علي، من جواز قتله بمثل ما قتل مطلقاً في رواية. وإن وثق بأنه لا يتعدى في أخرى. وربما يحكى عن ابن أبي عقيل أيضاً. وعن الجامع: أنه يقتص بالعصا ممن ضرب بها، كل ذلك للآية(3). والنبوي: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه(4). وفي آخر: أن يهودياً رضخ رأس جارية

ـــــــــــــــ

(1) راجع: سنن ابن ماجة ج2 ص889 وكشف الأستار عن زوائد البزار ج2 ص205، ومجمع الزوائد ج6 ص291 عنه وعن الطبراني، وأعلام الموقعين ج1 ص327 وإرشاد الساري ج10 ص48 وسنن البيهقي ج8 ص62و63 ونصب الراية ج4 ص342و341 وسنن الدارقطني ج3 ص87و88 ومجمع الأنهر ج2 ص488 وراجع: منحة المعبود ج1 ص293 ومسند الطيالسي ص108 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 والبحر الرائق ج8 ص338 وعمدة القاري ج24 ص39 وشرح الأزهار ج4 ص402 وتبيين الحقائق ج6 ص106، وكتاب الأصل ج4 ص453 وفي هامشه عن بعض من تقدم، وعن: ابن عدي في الكامل، وعن مصنف ابن أبي شيبة، وعن شرح معاني الآثار ج2 ص105.

(2) الجواهر ج42 ص296.

(3) راجع: سورة البقرة، الآية 194.

(5) ستأتي مصادر هذا الحديث، إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 39/

بالحجارة، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرضخ رأسه بالحجارة(1).

نعم في المختلف، بعد الاستدلال له بالآية: وهو وجه قريب. وفي المسالك: لا بأس به. وعن مجمع البرهان: الظاهر الجواز، إن لم يكن إجماع، والظاهر عدمه، كما يفهم من شرح الشرايع، مع أنه قال في الروضة: هو المتجه، لولا الإجماع على خلافه الخ..»(2).

ولكن من الواضح: أننا سواء قلنا بلزوم رعاية المماثلة في القصاص، أو لم نقل، فقد قدمنا في الآيات السابقة، وسيأتي في الروايات أيضاً: أنه لا إشكال في ذلك بالنسبة إلى الحرب، وإن للحرب أحكامها وخصوصياتها،

ـــــــــــــــ

(1) راجع: سنن البيهقي ج8 ص42و62 عن البخاري ومسلم، والجامع لأحكام القرآن ج2 ص259 وأعلام الموقعين ج1 ص327 وسنن الدارمي ج2 ص190 وسنن النسائي ج7 ص100/101 والمصنف لعبد الرزاقف ج10 ص103 وسنن أبي داود ج4 ص180 وسنن ابن ماجة ج2 ص889 ونصب الراية ج4 ص343، والبحر الزخار ج6 ص236 وجواهر الأخبار والآثار، بهامش البحر الزخار ج6 ص236 وأقضية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ص114 ونيل الأوطار ج7 ص160 وبداية المجتهد ج2 ص400 وصحيح البخاري ج2 ص82و39/40. وصحيح مسلم ج4 ص104 وراجع: مسند أحمد وراجع: منحة المعبود ج1 ص293 ومسند الطيالسي ص267 وشرح الموطأ للزرقاني ج5 ص174 وتبيين الحقائق ج6 ص106 وشرح الأزهار ج4 ص402 وأحكام القرآن للجصاص ج1 ص162 وج2 ص232.

(2) جواهر الكلام ج42 ص297/298.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 40/

التي ربما تختلف فيها عن غيرها جزئياً. وكشاهد على ذلك نشير إلى أنه لو أعطي الأمان لمشرك، فإنه لا يقتل، وإن علم أنه قتل بعض المسلمين، حينما كانت الحرب قائمة، ولكن لو لم يعط أماناً، وأسر، كان لهم أن يقتلوه، ولو لم يقتل أحداً..

ولنا أن نضيف إلى ذلك أيضاً: أن نفس القصاص هو التزام بمبدأ الرد، والعقاب بالمثل، فيكون قتل بقتل، وتعد بتعد، ولا يجب رعاية جميع الخصوصيات، لتحقيق المماثلة بالدقة، فإن القتل بالسيف يعتبر مقابل القتل الصادر منه أولاً عرفاً ولو كان بغير السيف..

هذا عدا عن أن رعاية الخصوصيات لربما يؤدي إلى التعدي إلى أكثر مما يجب، لأجل التشفي أحياناً، ولغير ذلك أحياناً أخرى.

نعم لو تضمن القتل تعذيباً، فإنه يكون قد اعتدى بامرين، بالقتل، وبالتعذيب. فلابد من المقابلة بالمثل لهما معاً..

الأمر الثالث: ما لا يمكن حفظ المثل فيه:

وبعد.. فإننا نجد: أنهم حينما قرروا دلالة الآيات السابقة على مبدأ المقابلة بالمثل، قد استثنوا من ذلك المحرمات التي لا يجوز ارتكابها مطلقاً مما هو حرام بذاته، فلو أن العدو ارتكب جريمة هتك الأعراض، أو إسقاء الخمر، أو سب الأنبياء أو الأوصياء، أو التجرؤ على الساحة الإلهية، والعياذ بالله سبحانه، لم تجز المقابلة بالمثل في هذه الموارد وأمثالها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 41/

ونشير على سبيل المثال: إلى أنهم قد ذكروا في تفسير آية: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، جواز المقابلة بالمثل، حتى من غير إذن الحاكم، ثم استثنوا «ما كان جرحاً لا يجزي فيه القصاص، أو ضرباً لا يمكن حفظ المثل فيه، أو فحشاً لا يجوز القول والتلفظ به، مما يقولون بعدم جوازه مطلقاً، مثل الرمي بالزنا وغيره»(1). ويرفعه حينئذٍ إلى الحاكم ليقتص منه بالتعزير، ونحوه(2).

وقال الحسن: «.. ولا يجوز للرجل إذا قيل له يا زاني، أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم..»(3).

وقال القرطبي: «وقالت طائفة: ما تناولت الآية من التعدي بين أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، والجنايات ونحوها، لم تنسخ، وجاز لمن تعدي عليه، في مالٍ، أو جرح: أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه، إذا خفي(4) له ذلك. وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء. قاله الشافعي، وغيره. وهي رواية في مذهب مالك»(5).

وقال في موضع آخر، في تفسير الآية: «فمن قتل بشيء، قتل به، وهو قول الجمهور، ما لم يقتله بفسق، كاللوطية، وإسقاء الخمر، فيقتل بالسيف.. إلى أن قال:

ـــــــــــــــ

(1) زبدة البيان ص310،وراجع: مسالك الإفهام ج2 ص325.

(2) مسالك الإفهام إلى آيات الأحكام ج2 ص325 وراجع: أقصى البيان ج1 ص423.

(3) مجمع البيان ج3 ص131.

(4) خفي: أي ظهر، فهو من الأضداد.

(5) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص355 وراجع: فتح القدير ج1 ص192.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 42/

وقال ابن الماجشون: إن من قتل بالنار، أو بالسم، لا يقتل به، لقول النبي (صلى الله عليه وآله): لا يعذب بالنار إلى الله، والسم نار باطنة، وذهب الجمهور إلى أن يقتل بذلك..»(1).

ثم ذكر: أن النهي عن المثلة، إنما هو في صورة عدم ممارسة القاتل نفسه لها، فمن قطع يداً، أو رجلاً، أو فقأ عليناً، قصد التعذيب، فعل به ذلك، واستشهد لذلك برواية اليهودي، الذي رض رأس جارية، فماتت، فأمر (صلى الله عليه وآله) ففعل به ذلك(2).

وقال القرطبي أيضاً: «وهذا نص صريح صحيح، وهو مقتضى قوله تعالى: {فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. وقوله: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم(3).

وقال أيضاً: «إن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلاً: يا كافر، جاز لك أن تقول له أنت الكافر. وإن قال لك: يا زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب، يا شاهد زور. ولو قلت له: يا زان، كنت كاذباً، وأثمت بالكذب الخ..»(4).

و «إذا قال: أخزاه الله، أو لعنه الله، أن يقول له

ـــــــــــــــ

(1) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص356.

(2) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص259، والرواية تقدمت مصادرها..

(3) المصدر السابق، وراجع: نيل الأوطار ج7 ص164.

(4) الجامع لأحكام القرآن ج2 ص360.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 43/

مثله، ولا يقابل القذف بقذف، ولا الكذب بكذب»(1).

وقال ابن القيم: «.. فإن كان الفعل محرماً لحق الله، كاللواط، وتجريعه الخمر، لم يفعل به اتفاقاً..»(2).

وقال: «المسألة الثالثة: الجناية على العرض، فإن كان حراماً في نفسه، كالكذب عليه، وقذفه، وسب والديه، فليس له أن يفعل كما فعل به اتفاقاً..»(3).

كما أن بعضاً آخر قد استثنى المقابلة بالأمور غير المشروعة، فراجع(4).

بل لقد ادعى الجصاص: «اتفاق الجميع على أنه لو أوجره خمراً حتى مات، لم يجز له أن يوجره خمراً، وقتل بالسيف»(5).

وهكذا الحال فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه، لعدم معلومية ذلك، فيسقط فيه القصاص، وينتقل إلى الدية وقد ذكرت أحكام ذلك في أبواب الديات..

ـــــــــــــــ

(1) الجامع لأحكام القرآن ج16 ص40 عن ابن نجيح

(2) أعلام الموقعين ج1 ص327 وراجع: تبيين الحقائق ج6 ص106

(3) أعلام الموقعين ج1 ص329.

(4) مجمع الأنهر ج2 ص489.

(5) أحكام القرآن للجصاص ج1 ص 163.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 44/

الحرمة المطلقة، وغير المطلقة:

أما نحن فنعود لنذكر: بأن من الأمور ما تكون حرمته مطلقة، وفي كل حال، وهو مبغوض في حالي الاختيار والاضطرار، ولا ترتفع حرمته، بعروض العناوين الثانوية، ولا يؤثر في رفع المؤاخذة عليه إكراه أو غيره.. وذلك من قبيل هدم الإسلام، ومحو آثار الدين، وكذا إسقاء الخمر قصاصاً، أو الزنا بنساء البغاة، مقابلة بالمثل لهم..

ومنها: ما يكون مبغوضاً في ذاته وحقيقته، ولا ترتفع المبغوضية له بالإكراه عليه ولا بالاضطرار إليه، وإن كان يرتفع العقاب على ارتكابه، بسبب ذلك، وذلك من قبيل شرب الخمر، وأكل الميتة وسب الأنبياء، والجرأة على الساحة الإلهية، ونحو ذلك.

ومنها: ما لا يكون حراماً مطلقاً في حال الاختيار، بل له حكمان في هذا الحال بالذات، وذلك كقتل المؤمن، فإنه تارة يكون حراماً ومبغوضاً بذاته، وذلك في صورة الظلم والتعدي، وأخرى لا يكون حراماً ولا مبغوضاً بل قد يجب ذلك في صورة القصاص، والإفساد في الأرض، وغير ذلك.

ومنها ما يكون فيه مقتضى الحرمة، وقد يزاحمه مقتضى آخر، فيصبح واجباً مثلاً، وذلك كالكذب والخديعة، وقد يكون فيه مقتضى الوجوب فيزاحمه مقتضى آخر، فيصبح حراماً كالصدق..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 45/

ومنها ما لا يكون محكوماً بحكم أصلاً، بل هو عرضة لتقلبات العناوين الطارئة عليه والتي تكون محكومة بهذا الحكم أو ذاك كشرب الماء ونحوه.

وبعد ما تقدم نقول: إن ما كان مبغوضاً في ذاته كهتك الأعراض، وشرب الخمر وسب الأنبياء، والجرأة على الساحة الإلهية وكذا ما كان مبغوضاً مطلقاً ـ كهدم الإسلام وغير ذلك مما تقدم.. نعم.. إن ما كان كذلك لا يجوز ارتكابه، ولا المقابلة بالمثل فيه، لاسيما إذا لاحظنا: أنها أمور لا تقدم ولا تؤخر في أمور الحرب، وتسجيل النصر، ولا يترتب عليها في الغالب إلا مفاسدها، والتشفي، والتنفيس عن الحقد الأعمى لا أكثر..

وحتى لو فرض: أن لها بعض الأثر في ناحية من النواحي، فإن مفاسدها وشرورها تكون أطمّ وأعظم، كما هو ظاهر للعيان.

وقد أشير إلى هذا القسم في الحديث الذي رواه الطبرسي رحمه الله عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام، من جواز الانتصار من الظالم بما يجوز الانتصار به في الدين(1).

وواضح: أن هتك الاعراض، وسب الأنبياء ونحوه، هو مما لا يجوز الانتصار به في الدين..

ـــــــــــــــ

(1) راجع: مجمع البيان ج3 ص131 وعنه في تفسير البرهان ج1 ص425 وفي نور الثقلين ج1 ص470 وفي تفسير الميزان ج5 ص124.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 46/

وعن علي (عليه السلام)، حين مشى إليه أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب، وقريش على الموالي، والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس، وفراره. وإنما قالوا له ذلك لما كان معاوية يصنع في المال.

فقال لهم: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟!، لا والله لا أفعل ذلك ما طلعت الشمس الخ... (1).

أما ما كان بعنوانه الأولى، ليس حراماً ولا مبغوضاً مطلقاً، وإنما في حال دون حال، وكذا ما كان مما قد تتزاحم فيه المقتضيات، وذلك مثل الكذب والخديعة، ونحوهما، فإنها.. وإن كان فيها ما يقتضي الحرمة، لكن قد يعارض ذلك ما يقتضي خلافها، كما لو توقف على الكذب، نجاة جماعة من المؤمنين، من خطر محقق، من بعض الطواغيت، أو صلح فيما بين المؤمنين، أو دفع عدو، أو غير ذلك، فلا يبقى الكذب ـ والحالة هذه على صفة الحرمة، بل يصبح حلالاً، بل واجباً في كثير من الأحيان.. وكذا يقال بالنسبة إلى الخديعة وأمثالها..

ـــــــــــــــ

(1) راجع: شرح النهج للمعتزلي ج2 ص203و197 والإمامة والسياسة ج1 ص153 ـ والبحار ج31 ص133و134 والأمالي للمفيد ص175/196 والغارات ج1 ص75 ـ والكافي ج4 ص31 وتحف العقول ص162. ونهج البلاغة بشرح عبده ج2 ص10 والوسائل ج11 ص81/82 وبهج الصباغة ج12 ص196 والأمالي للشيخ الطوسي ج1 ص197/198.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 47/

وليس هذا من قبيل التعنون بالعنوان الثانوي، كالاضطرار إلى شرب الخمر، للمداواة، مع بقاء الخمر على صفة المبغوضية في ذاتها وبعنوانها الأولي..

وإنما هو حكم أولي، زاحم مقتضاه مقتضى الحرمة..

وقد لا يكون في الفعل مقتضى لا للوجوب، ولا للحرمة، وإنما يكون الحكم متعلقاً بعناوين أخرى، فإذا انطبقت على هذا الفعل يلحقه حكمها، وذلك كضرب اليتيم ظلماً، أو للتأديب، بل أن الكذب في الحرب والخديعة ونحوهما مما من شأنه أن يكون له دور إيجابي، في مجال التحرك باتجاه الهدف الأقصى، وتسجيل النصر الحاسم، أو دفع الأخطار المحدقة بالمسلمين، وحتى بالإسلام في كثير من الأحيان ـ إن ذلك ـ لابد وأن يكون واجباً وضرورياً، انطلاقاً من وجوب دفع الخطر عن المسلمين، وضرورة حفظ الإسلام..

وهكذا يقال أيضاً بالنسبة لقتل النفس، فإنه ليس من قسم الحرام المطلق أيضاً، وإنما الحرام منه، هو خصوص قتل النفس المحترمة، وحيث لم ترتكب جريمة تقتضي المقابلة بالمثل ولأجل ذلك: يقتل القاتل، كما أن من يحارب الله ورسوله، لا تبقى له تلك الحرمة.

بل وحتى قتل النفس المحترمة من المؤمنين، حين يتترس بهم العدو المحارب، أو كانوا في حوزته، ولم يكن التحرز من إيصال الأذى إليهم، فإنه يجوز مواصلة ضرب العدو ولا يمسك عنه لأجلهم، لاسيما إذا توقف النصر، أو دفع العدو على ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 48/

وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا الأمر إن شاء الله تعالى..

وسائل الحرب ضد المشركين في الروايات:

ومن أجل استيفاء الكلام في هذا البحث، فإنا نشير إلى أمرين:

أحدهما: أن الله سبحانه حين أراد ضرب أولئك الذين يحاربون الله ورسله، ويقفون عقبة في وجه دعوة الأنبياء ـ أنه تعالى ـ قد واجههم بعذاب الاستئصال في غير مورد، ولم يبق منهم أحداً، ولا من كل ما يرتبط بهم، قال تعالى: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود}(1)، وقال في قضية قوم عاد: {بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بإذن ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزي القوم المجرمين}(2)، وقال تعالى: {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}(3). والآيات في ذلك كثيرة.

الثاني: أن هناك عدة روايات تعرضت لوسائل الحرب ضد المشركين ونجدها قررت ما فوق المقابلة بالمثل، كما وتعرض بعضها لصورة ما لو كان بينهم مسلمون يمكن أن يصابوا من جراء ضرب المشركين، ونذكر منها:

ـــــــــــــــ

(1) هود 82 وراجع سورة الحجر 74.

(2) الأحقاف 25.

(3) نوح 26ـ27.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 49/

عن علي (عليه السلام)، أنه قال: يقتل المشركون بكل ما أمكن قتلهم بهم: من حديد، أو حجارة، أو ماء، أو نارٍ، أو غير ذلك(1).

عن حفص بن غياث: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مدينة من مدائن الحرب، هل يجوز أن يرسل عليها الماء، أو تحرق بالنار، أو ترمى بالمنجنيق، حتى يقتلوا، وفيهم النساء والصبيان، أو الشيخ الكبير، والأسارى من المسلمين والتجار؟

فقال: يفعل ذلك بهم، ولا يمسك عنهم لهؤلاء، ولا دية عليهم للمسلمين، ولا كفارة(2).

وقد استدل العلماء بهذه الرواية في أبواب الجهاد، كما لا يخفى على من راجع كتب الفقه والاستدلال..

وعن ابن عباس: إن ناساً من المسلمين، كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيأتي السهم، يرمى به: فيصيب أحدهم، فيقتله، أو يضرب، فيقتل، فأنزل الله:

ـــــــــــــــ

(1) دعائم الإسلام ج1 ص376 وعنه في مستدرك الوسائل ج2 ص249 وجامع احاديث الشيعة ج13 ص154 وميزان الحكمة ج2 ص333.

(2) الكافي ج5 ص28 والتهذيب ج6 ص142 والوسائل ج11 ص46 ومختلف الشيعة ج2 ص155 وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 وإيضاح الفوائد ج1 ص357 ومنتهى المطلب ج2 ص909و910 وميزان الحكمة ج2 ص333 والبحار ج19 ص178 وجواهر الكلام ج21 ص65/66.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 50/

إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين الخ(1)..

وقال القاضي النعمان: «وذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصب المنجنيق على أهل االطائف، وقال:

إن كان معهم في حصنهم قوم من المسلمين، فأوقفوهم معهم، فلا تتعمدوا إليهم بالرمي، وارموا المشركين، وأنذروا المسلمين، ليتقوا، إن كانوا أقيموا كرها، ونكبوا عنهم ما استطعتم، فإن أصبتم أحداً ففيه الدية(2).

ما يستفاد من الروايات المتقدمة:

فيدل ما تقدم على:

جواز قتل المشركين بكل ما أمكن قتلهم به، من حجارة، أو ماء، أو نارٍ، أو غير ذلك من وسائل..

يجوز رميهم بما يعم إتلافه، كالمنجنيق، والنار، ولو نشأ عن ذلك قتل نسائهم وأطفالهم، وهدم ديارهم..

جواز مواصلة الحرب، وضرب العدو بما يعم

ـــــــــــــــ

(1) سنن البيهقي ج9 ص12 عن البخاري، والدر المنثور ج2 ص205 عن البيهقي وصحيح البخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني. وصحيح البخاري ج2 ص79 وج4 ص144.

(2) دعائم الإسلام ج1 ص376 ومستدرك الوسائل ج2 ص249.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 51/

إتلافه، ولو لزم من ذلك لحوق الضرر بالأسارى من المسلمين، والتجار، وهو ما قاله بجوازه أبو حنيفة، وزفر، والثوري(1) ونهى عنه مالك حتى في صورة التترس والأوزاعي(2)، وكرهه بعض آخر(3).

ويلاحظ هنا: أن جواز ذلك لم يقيد بصورة تترس العدو بالمسلمين، ولا بصورة ما لو توقف النصر على ضرب الترس، ولا بصورة الاضطرار، كما قيد به جمع من الفقهاء(4) ويكفي أن نذكر هنا ما قاله الشيخ الطوسي رحمه الله فيما يرتبط بأمر الاضطرار إلى ذلك، قال:

«... وإن كان فيهم أسارى مسلمون، فإن كان مضطراً إلى ذلك، بأن يخاف إن لم يرمهم، نزلوا، وظفروا

ـــــــــــــــ

(1) عن أحكام القرآن للجصاص حسبما نقله البعض، وراجع الجامع: لاحكام القرآن للقرطبي 16 ص287.

(2) فتح الباري ج6 ص103، وعمموا ذلك حتى لصورة التترس، وراجع: المدونة الكبرى ج2 ص24. والجامع لاحكام القرآن ج16 ص287.

(3) مختصر المزني، بهامش الام ج5 ص185 وفي ص186 قيده بصورة عدم التحام الحرب.

(4) راجع: النهاية للطوسي ص293 والجامع لأحكام الشرايع ص236 والشرايع ج1 ص312 ومنتهى الطلب ج2 ص909و910 وراجع: الوسيلة [المطبوعة في الجوامع الفقهية] ص696 وتحرير الأحكام ج1 ص156و135و136 وكشف الغطاء ص408 وجواهر الكلام ج21 ص68 والأم ج7 ص318 ومجمع الأنهر ج1 ص590 والجامع لأحكام القرآن ج16 ص287 بقيد: الضرورة والمصلحة لكل المسلمين فراجع، والمختصر النافع ص112.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 52/

به، جاز الرمي، وإن لم يكن ضرورة نظر في المسلمين، فإن كان نفراً يسيراً، جاز الرمي، لأن الظاهر: أنه يصيب غيرهم، إلا أنه يكره ذلك لئلا يصيب مسلماً، وإن كان المسلمون كثر، لم يجز الرمي، لأن الظاهر: أنه يصيب المسلمين، ولا يجوز قتل المسلمين بغير ضرورة»(1). وذكر ابن البراج ما هو قريب من ذلك أيضاً.. (2).

نعم.. هكذا قرر جمع من الفقهاء، ولكن الروايات، التي استندوا إليها في مسائل الجهاد، ومنها رواية حفص بن غياث ـ قد جاءت مطلقة، لم تقيد بشيء من ذلك..

ويؤيد ما ذهبوا إليه من التقييد، قوله تعالى، فيما يرتبط بأهل مكة: {ولولا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، لم تعلموهم، أن تطأؤهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم، ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً}(3).

ولكن الآية لا تكفي للدلالة على حرم ذلك، فلعل المراد بالمعرة: المكروه الدنيوي أو المساءة، أو ما إلى ذلك.. ولأجل ذلك اعتبرناها مؤيدة لا دليلاً.. كما هو ظاهر..

كما ويلاحظ أيضاً: أنه لو أصيب ـ والحالة هذه ـ أحد من المسلمين، من غير قصدٍ إليه، مع علم الرامي به،

ـــــــــــــــ

(1) المبسوط للطوسي ج2 ص11.

(2) المهذب [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص89.

(3) سورة الفتح 25.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 53/

فإن جمعاً من الفقهاء قد أفتوا بعدم ثبوت الدية فيه(1)، على اعتبار أنه عمد مأذون فيه، ورواية حفص بن غياث المتقدمة صريحة في ذلك، ولكنهم قد حكموا بالكفارة. وفي الشرايع: «ولا يلزم القاتل دية، ويلزمه كفارة، وفي الأخبار: ولا الكفارة»(2). يشير بذلك إلى خبر حفص بن غياث المتقدم، الذي نفى ثبوت الكفارة أيضاً.

كما أن بعض الفقهاء قد حكم بكون الكفارة من بيت المال(3)..

ولكن رواية الدعائم قد قررت ثبوت الدية في قتلهم(4)، على خلاف ما جاء في رواية حفص بن غياث،

ـــــــــــــــ

(1) راجع: المهذب لابن البراج المطبوع ضمن الينابيع الفقهية ص90 وراجع: المختصر النافع ص112. والمبسوط للشيخ ج2ص11 والشرايع ج1 ص312 ومنتهى المطلب ج2 ص909 وتحرير الأحكام ج1 ص135/136 وتذكرة الفقهاء ج1 ص413 والسرائر ص157 وجواهر الكلام ج21 ص71 عن: الشيخ، والفاضل، والشهيدين، وغيرهم، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه، كما قال.. ونقله الجصاص ج2 ص241 عن الشافعي في صورة عدم العلم بهم، وإن علمه مسلماً فقتله، فعليه القيود. وراجع فتوى الثوري في الجامع لأحكام القرآ، ج16 ص287.

(2) شرايع الإسلام ج1 ص312 وأفتى مالك بالدية والكفارة لو قتل الترس المسلم مع العلم به ولو قتل مع عدم العلم به فلا دية ولا كفارة عنده. راجع أحكام القرآن ج16 ص287 وكذا قال الشافعي.

(3) كشف الغطاء ص408 وراجع: مسالك الإفهام للشهيد الثاني ج1 ص151 وجواهر الكلام ج21 ص71/72.

(4) راجع: جواهر الكلام ج21 ص71.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 54/

وهو ما أفتى به ابن البراج أيضاً لكن خصه في صورة عدم التحام القتال(1).

ويمكن حمل رواية حفص بن غياث على صورة عدم علم الرامي بهم، ورواية الدعائم على صورة العلم بهم.. ولكن يبقى الكلام في أمر الكفارة، فإن الظاهر: أن الفقهاء قد اخذوا بإطلاق الآيات الآمرة بالكفارة في تقل الخطأ.. وقدموها على الرواية، ولهذا البحث مجال آخر..

مع الروايات والفتاوى أيضاً:

وبشيء من التفصيل في ذلك نقول:

قد أفتى الفقهاء بجواز قتل العدو من المشركين، بجميع أسباب القتل، كرمي الحيات القواتل، والعقارب، وكل ما فيه ضرر، حتى بالنار، كما ويجوز رميهم بالنفط، وتغريقهم بإرسال الماء، وفتح البثوق عليهم، كما ويجوز منع الماء عنهم، وتخريب منازلهم، وحرقها، وقطع الأشجار لحاجة، والحصار، ومنع السابلة من الدخول والخروج، وكلما يرجى به الفتح.. وقال صاحب الجواهر: إنه لم يجد في أكثر ما تقدم خلافاً(2).

ـــــــــــــــ

(1) المهذب [المطبوع ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص90.

(2) راجع فيما تقدم كلاً، أو بعضاً: الجواهر ج21 ص65 والمبسوط ج2 ص11 ومختلف الشيعة ج2 ص155، وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 وتحرير الأحكام ج1 ص135و136 ومنتهى المطلب ج2 ص909 والسرائر ص157 والجامع لأحكام الشرايع ص236 والنهاية للشيخ ص=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 55/

ونقول: إن بعض الفقهاء قد حكم بكراهة بعض ما تقدم، مع القدرة عليهم بغيره، وجوزوه مع الحاجة. كما ان بعض العامة قد منع منه(1).

ولكن هناك خلاف بالنسبة لتحريقهم بالنار، بين مانع ومجيز: «قال بعضهم: إن ابتدأ العدو بذلك جاز، وإلا فلا»(2).

وقال أبو الصلاح: «لا يجوز حرق الزرع، ولا قطع الشجر، ولا قتل البهائم، ولا خراب المنازل ولا التهتك بالقتلى»(3).

ـــــــــــــــ

=293 والقواعد [المطبوع مع الإيضاح] ج1 ص356/357 وشرايع الإسلام ج1 ص311/312 وكشف الغطاء ص407و408، والجوامع الفقهية في: [إشارة السبق ص90 والوسيلة ص696 والغنية ص584] والجمل والعقود [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص62 وإصباح الشيعة [ضمن الينابيع أيضاً] ص72 والمهذب [في ضمنه أيضاً] ص89، الخراج لأبي يوسف ص211 والمختصر النافع ص112.

(1) راجع: تذكرة الفقهاء ج1 ص412 وتحرير الأحكام ج1 ص135و136 وجواهر الكلام ج1 ص66، والمهذب [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص88، والمختصر النافع ص112. والخراج لأبي يوسف ص112.

(2) بداية المجتهد ج1 ص395 وراجع: المدونة الكبرى ج2 ص24و25.

(3) الكافي لأبي الصلاح ص256.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 56/

ولسنا هنا في صدد تتبع كلمات العلماء في هذا المجال.

وأما إلقاء السم في بلاد المشركين فقد روي النهي عنه(1).

وذهب ابن إدريس، والشيخ في النهاية، وغيرهما إلى تحريمه(2)، ومنع منه بعض آخر(3)..

وآخرون حملوا النهي الوارد في الرواية على الكراهة، وهو ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط أيضاً(4).

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الكافي ج5 ص28 والأشعثيات ص80، وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص153 والتهذيب ج6 ص143، ومنتهى المطلب ج2 ص909 وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 والوسائل ج11 ص46 ومستدرك الوسائل ج2 ص249 وجواهر الكلام ج21 ص67 وميزان الحكمة ج2 ص288 عن البحار ج19 ص177.

(2) السرائر ص157 والنهاية للطوسي ص293 والجوامع الفقهية في: [الغنية ص584 والوسيلة ص696 وإشارة السبق ص89/90]. وراجع: الإيضاح ج1 ص357 وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 وجواهر الكلام ج21 ص67 عن بعض من تقدم، وعن: النافع، والتبصرة، والدروس، وجامع المقاصد، مع التقييد في كثير منها، بما إذا لم يضطروا إليه، أو يتوقف الفتح عليه، وإصباح الشيعة [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص72 والمختصر النافع ص112.

(3) الجامع لأحكام الشرايع ص236 وراجع: منتهى الطلب ج2 ص909 والجمل والعقود [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص62.

(4) المبسوط ج2 ص11 ونسبه إلى: أصحابنا. وراجع: تذكرة الفقهاء ج1 ص412 وتحرير الأحكام ج1 ص135و136 والسرائر ص157 ومنتهى الطلب ج2 ص909 والإيضاح ج1 ص356 عن المبسوط،=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 57/

واستدل المجوزون برواية حفص بن غياث المتقدمة، وبدخوله تحت قوله تعالى: {اقتلوا المشركين}.

وقال في الإيضاح: «.. والأقرب عندي تحريمه، إن كان يؤدي إلى قتل من يحرم قتله،.. إلى أن قال: وإن لم يؤد، أو توقف الظفر عليه، جاز»(1).

وبعد.. فقد روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نصب المنجنيق على الطائف، وضربهم به(2)..

ـــــــــــــــ

=وابن الجنيد، والقواعد، المطبوع معه ج1 ص357 وجواهر الكلام، 21 ص67 عن بعض من تقدم، وعن اللمعة، والروضة، ونسبه في المختلف إلى أصحابنا. وراجع: شرايع الإسلام ج1 ص311/312 وكشف الغطاء ص407و408 وذهب إليه ابن البراج في المهذب [ضمن الينابيع الفقهية كتاب الجهاد] ص8.

(1) إيضاح الفوائد ج1 ص357 وراجع: جواهر الكلام ج21 ص68.

(2) راجع: دعائم الإسلام ج1 ص376 مستدرك الوسائل ج2 ص249 وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 وجواهر الكلام ج21 ص65و70 والمبسوط للطوسي ج2 ص11 والبداية والنهاية ج4 ص348، والثقات ج2 ص76، ومنتهى المطلب ج2 ص909 والسرائر ص157 وميزان الحكمة ج2 ص333 وزاد المعاد ج2 ص196 وسنن البيهقي ج9 ص84 والمنتقى ج2 ص771 عن الترمذي، وكنز العمال ج10 ص362 والمدونة الكبرى ج2 ص25 وجامع احاديث الشيعة ج13 ص154 وطبقات ابن سعد ج2 ص159 والجامع الصحيح للترمذي ج5 ص94 ومغازي الواقدي ج3 ص927 والأم للشافعي ج7 ص318 وبداية المجتهد ج1 ص396 ومختصر المزني، بهامش الأم=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 58/

واستدل الفقهاء بذلك على جواز ضرب العدو بما يعم إتلافه..

وإن كان بعضهم قد أنكر أن يكون (صلى الله عليه وآله) قد فعل ذلك(1).

هذا عدا عن أنه (صلى الله عليه وآله)، قد هدم حصن مالك بن عوف، أو أحرقه.. (2) كما ويذكرون أيضاً: أنه (صلى الله عليه وآله)، قد خرب حصون

ـــــــــــــــ

=ج5 ص185 ومجمع الأنهر ج2 ص589 وقاموس الرجال ج4 ص429 عن أنساب البلاذري، والعبر وديوان المبدأ والخبر، المعروف بتاريخ ابن خلدون ج2 قسم2 ص47 وفي تفسير المنار ج10 ص62 أن ذلك كان في غزوة خيبر ونصب الراية ج3 ص382و383 وفي هامشه عن الترمذي والواقدي، والعقيلي في الضعفاء، وعن: التراتيب الإدارية ج1 ص374و375 ونقله بعض أهل التتبع عن المصادر التالية، والعهدة عليه: المهذب ج1 ص302 والقواعد ص247 والمختصر النافع ص227 والجمل والعقود ص11 والمغني لابن قدامة ج1 ص495 انتهى. وراجع نيل الأوطار ج8 ص70 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص658 والسيرة الحلبية ج3 ص117 والكامل لابن الأثير ج2 ص266 وتاريخ الخميس ج2 ص110 والبداية والنهاية ج4 ص348 والروض الآنف ج4 ص149 والنظم الإسلامية ص508 وأنساب الأشراف ج1 ص366.

(1) سنن البيهقي ج9 ص84.

(2) السيرة الحلبية ج3 ص115 والعبر وديوان المبتدأ والخبر أي تاريخ ابن خلدون ج2 قسم2 ص47 وراجع: مغازي الواقدي ج3 ص924و925.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 59/

بني النضير، وخيبر، وخرب ديارهم(1).

وأما بالنسبة لقتل الشيوخ من المشركين، فلا ريب في جواز قتل القادة منهم، وكذا الحال بالنسبة لأهل الرأي في الحرب. وقد قتل المسلمون دريد بن الصمة في بعض الحروب، ولم ينكر عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك. ويقال: إنه كان له مئة وخمسون سنة، وكان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد، ليعرّفهم كيفية القتال(2).

ـــــــــــــــ

(1) تذكرة الفقهاء ج1 ص412 والمبسوط ج2 ص11 ومنتهى المطلب ج2 ص909 وجواهر الكلام ج21 ص65و75، والأم ج7 ص324 وصرح بحرق نخلهم في: صحيح مسلم ج5 ص145 ومسند أبي عوانة ج4 ص97ـ9 وسنن أبي داود ج3 ص38 وصحيح البخاري ج2 ص112 وسنن ابن ماجة ج2 ص948 ومجمع الزوائد ج5 ص329 وسنن البيهقي ج9 ص83و84 ونصب الراية تج3 ص383 والجامع الصحيح للترمذي ج4 ص122 والمنتقى لابن تيمية ج2 ص774، والمحلى ج7 ص294 والأموال ص15 ومسند الحميدي ج2 ص301، ومنحة المعبود ج1 ص237 ومسند الطيالسي ص251 والمعتصر من المختصر ج1 ص211 وبداية المجتهد ج1 ص396 ومختصر المزني، بهامش الأم ج5 ص185 وبهجة المحافل ج1 ص214 ووفاء الوفاء ج1 ص297 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص200 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص147و149و150 والسيرة الحلبية ج2 ص265 والكامل لابن الأثير ج2 ص173.

(2) راجع: تذكرة الفقهاء ج1 ص412، والمبسوط للشيخ الطوسي ج2 ص12 وتحرير الأحكام ج1 ص136 والكافي لابن الصلاح ص=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 60/

وأما بالنسبة لقتل نساء المشركين، فقد روي المنع عنه أيضاً. واستثنى العلماء صورة ما لو شاركن في القتال، أو دعت الضرورة إلى ذلك(1).

وهو ما تشير إليه بعض الروايات أيضاً(2).

ـــــــــــــــ

=256، والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص92، وأقضية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ص660 وكشف الغطاء ص408، ومجمع الانهر ج1 ص591.

(1) راجع: كشف الغطاء ص408 والكافي لأبي الصلاح ص256 والنهاية للطوسي ص292 وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 والمحلى ج7 ص296 وبداية المجتهد ج1 ص394 والشرايع ج1 ص312 والمبسوط ج2 ص13، وفتح الباري ج6 ص103 عن الشافعي والكوفيين وابن حبيب بن المالكية، وفيه حكى الحازمي قولاً بجواز قتل النساء، والصبيان. والوسيلة [المطبوع في الجوامع الفقهية] ص696، وجواهر الكلام ج21 ص68و69و74و75 والمهذب [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص90 والمختصر النافع ص112، وقد منع من قتلهن حتى مع المعاونة، إلا مع الضرورة. والسرائر ص156. ونقله بعض أهل العلم عن: المختصر النافع ص227 وعن المهذب ج1 ص303 وعن المغني لابن قدامة ج10 ص534 وقال: لا نعلم فيه خلافاً، وبه قال الشافعي، والأوزاعي، وأبو ثور، والثوري، والليث، وأصحاب الرأي، وعن الام ج4 ص239 وعن القواعد ص237 وراجع نيل الأوطار ج8 ص73 والبحار ج19 ص178 والخراج ص211و212.

(1) راجع الكافي ج5 ص29 ونصب الراية ج3 ص387و388 وسنن ابن ماجة ج2 ص948و947 والمنتقى ج2 ص772 ومستدرك الحاكم ج2 ص122 وتلخيصه للذهبي بهامشه وسنن البيهقي ج9 ص82و91 وفتح الباري ج6 ص103 والفائق ج2 ص7 ومجمع الزوائد ج5 ص316=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 61/

وحمل بعضهم النهي على صورة ما لو أريد قتلهن صبراً(1).

وأما بالنسبة للرواية القائلة: إن البعض سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أولاد المشركين، هل يقتلون مع آبائهم؟ فقال: هم منهم(2).

فهي ناظرة ـ كما هو صريح بعض النصوص الأخرى ـ

ـــــــــــــــ

=وسنن أبي داود ج3 ص53/54 والمصنف للصنعاني ج5 ص202و201 وفي هامشه عن: مورد الظمآن ص398، وأقضية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ص660 وفي هامشه عن: مراسيل أبي داود ص36/37 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص148 وراجع: دعائم الإسلام ج1 ص379و376 وعن أحمد. والبحار ج19 ص178 والمعتصر من المختصر ج1 ص212 وبداية المجتهد ج1 ص394و395 وجواهر الكلام ج21 ص73و75 وكنز العمال ج4 ص245و306 عن بعض من تقدم، وعن النسائي، وأحمد، وابن حبان، والطحاوي، وأبي نعيم والبغوي، والبارودي، وابن قانع، والطبراني، وسعيد بن منصور، وابن حجر في الأطراف. ونيل الأوطار ج8 ص72 وعن المغني لابن قدامة ج10 ص535 والتهذيب ج6 ص156.

(1) راجع: تذكرة الفقهاء ج1 ص412 ومنتهى المطلب ج2 ص909.

(2) مسند أبي عوانة ج4 ص96و95 والسرائر ص157 وسنن البيهقي ج9 ص78، ومجمع الزوائد ج5 ص315 وآثار الحرب في الفقه الإسلامي ص502 عنه وعن: فتح الباري ج6 ص102و103 وعن إرشاد الساري ج5 141. وراجع أيضاً: نيل الأوطار ج8 ص71.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 62/

إلى صورة تبييت العدو، أو إلى صورة ضربهم بالمنجنيق(1)، حيث لا يمكن التحرز عنهم في مثل هذه الأحوال.

ونظير ذلك يقال: بالنسبة للنهي عن قتل الوصفاء والعسفاء أيضاً(2).

أي أن النهي ناظر إلى صورة قتلهم صبراً.. أما قتلهم بالمنجنيق، ونحوه مما يعم إتلافه، فليس محط نظر النهي

ـــــــــــــــ

(1) راجع: المبسوط للشيخ ج2 ص11 والمدونة الكبرى ج2 ص25 والمحلى ج7 ص296 وصحيح البخاري ج2 ص111 وصحيح مسلم ج5 ص144و145 ومسند أبي عوانة ج4 ص96و95 وكنز العمال ج4 ص272 عن الطبراني، وسنن ابن ماجة ج2 ص947 والمنتقى ج2 ص771 وقال: رواه الجماعة إلا النسائي. وسنن البيهقي ج9 ص78 ومجمع الزوائد ج5 ص316 عن الطبراني، ونصب الراية ج3 ص387 والجامع الصحيح للترمذي ج4 ص137، وسنن أبي داود ج3 ص54 ومسند الحميدي ج2 ص343 وشرح الموطأ للزرقاني ج3 ص290 عن الستة والأم للشافعي ج7 ص318 ونيل الأوطار ج8 ص70 والمصنف للصنعاني ج5 ص202 وعمدة القاري ج14 ص260 وعن المصنف لابن أبي شيبة ج12 ص388 وعن أحكام القرآن للجصاص ج5 ص274.

(2) سنن البيهقي ج9 ص91و82 ومجمع الزوائد ج5 ص315 عن أحمد، ومسند أحمد ج3 ص413 والمصنف للصنعاني ج5 ص200 والمحلى ج7 ص297 وراجع: المعتصر من المختصر ج1 ص212 وبداية المجتهد ج1 ص395 والمدونة الكبرى ج2 ص7 والفائق ج2 ص7. وكنز العمال ج4 وعن المصنف لابن أبي شيبة ج12 ص381.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 63/

المشار إليه.. كما انهم لو شاركوا في القتال، فإنه يجوز قتلهم، ولا يمسك عنهم، وذلك ظاهر..

المقابلة بالمثل مع غير المسلمين «خلاصة»

وبعد.. فإن ما تقدم كله يدل على أنه لا مانع من رد عدوان المشركين، وضربهم بمختلف أنواع الأسلحة، التدميرية، حتى ما يعم إتلافه منها، كما لا مانع من مقابلتهم بالمثل في الحرب وبذلك جاءت الفتاوى والنصوص وكذلك دلت عليه الآيات المتقدمة في أوائل هذا البحث.. بالإضافة إلى حكم العقل، وقضاء الفطرة..

بل لقد تقدم جواز ضرب المشركين، حتى ولو تترسوا بالأسرى من المسلمين والتجار، حيث تقضي الضرورة بذلك، أو يتوقف النصر عليه على الأقل.. إلى غير ذلك مما لا مجال لإعادته..

وقال الآلوسي، حول الرمي بالمدافع، وغيرها:

«إذا لم يقابلوا بالمثل، عم الداء العضال، واشتد الوبال والنكال، وملك البسيطة أهل الكفر والضلال، فالذي أراه والعلم عند الله، تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين، وحماة الدين الخ..».

وقال محمد رشيد رضا: «إن الله أباح لنا في التعامل فيما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 64/

بيننا: أن نجزي على السيئة بمثلها، علاً بالعدل، وجعل العفو فضيلة، لا فريضة، فقال: «42: 40 {وجزاء السيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح: فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين}. 41 ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل»(1) الخ الآيات وقال: «16: 166: {وإن عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}»، أفلا يكون من العدل، بل فوق العدل في الأعداء: أن نعاملهم بمثل العدل، الذي نعامل به إخواننا؟، أو بما ورد بمعنى الآية، في بعض الآثار: قاتلوهم بمثل ما يقاتلونكم به، وهم ليسوا أهلاً للعدل في حال الحرب»(2).

نظرة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) للبغاة:

لقد اشترط البعض على الباغي: أن يكون خارجاً على الإمام العدل، ثم يكون له تأويل محتمل(3)، ليثبت له نوع جرمه، قال النيسابوري:

ـــــــــــــــ

(1) تفسير المنار ج10 ص62 عنه.

(2) تفسير المنار ج10 ص63.

(3) راجع: تحرير الأحكام ج1 ص155، ولباب التأويل ج4 ص166و167 وغرائب القرآن، بهامش الطبري ج26 ص84و85 ومسالك الأفهام، للجواد الكاظمي ج2 ص362و364 ورياض المسائل ج1 ص482 ومنتهى المطلب ج2 ص983، والمسالك للشهيد ج1 ص190 وجواهر الكلام ج21 ص333، وتذكرة الفقهاء ج1 ص454 والمبسوط ج7 ص265 وراجع: كنز العرفان ج1 ص386 ومقتل الحسين للمقرم ص73 عن المهذب في الفقه الشافعي ج2 ص234 ط مصر سنة 1343

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفح65/

«الباغية ـ في اصطلاح الفقهاء ـ: فرقة خالفت الإمام بتأويل باطل، بطلاناً بحسب الظن، لا القطع، فيخرج المرتد لأن تأويله باطل قطعاً، وكذا الخوارج .. إلى أن قال: ويخرج مانع حق الشرع لله، أو للعباد عناداً، لأنه لا تأويل له»(1).

وإذا أغمضنا النظر عن سائر ما يدفع هذا الشرط، في الآية الشريفة، وعدم استقامته في نفسه من حيث عدم معقولية المراد منه، وغير ذلك ويظهر: أن الغرض هو جعل معاوية باغياً(2) وإلا لوجب اعتباره إما كافراً، كما سيأتي التصريح به عن علي (عليه السلام)، أو محارباً على أقل تقدير ـ إننا إذا تغاضينا عن ذلك ـ فإننا نقول: إن هذا معناه: أن الخارجين على أمير المؤمنين في صفين، بل وفي الجمل أيضاً، فضلاً عن النهروان.. ليسوا بغاةً بالمعنى المصطلح(3) لأنهم كانوا عارفين بالحق، وبأمر الله تعالى فيه، معاندين له.. ولاسيما بعد أن كان أمير المؤمنين

ـــــــــــــــ

(1) غرائب القرآن. بهامش الطبري ج26 ص84 وراجع تذكرة الفقهاء ج1 ص454.

(2) راجع: تذكرة الفقهاء ج1 ص454.

(3) راجع: جواهر الكلام ج21 ص334و333.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 66/

(عليه السلام)، يقيم عليهم ـ قبل القتال ـ الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، التي لا تبقى عذراً لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة..

ولعل وضوح الحجة، وسطوع البرهان هو السبب في أنه (عليه السلام)، ومعه الخيرة من أصحابه، يلهجون بكفر المحاربين لهم في صفين حتى لنجده (عليه السلام) يقسم بأنهم ما أسلموا، ولكن استسلموا، وأسروا الكفر، فلما وجدوا عليه أعواناً رجعوا إلى عداوتهم منا، إلا أنهم لم يدعوا الصلاة(1).

ومثل ذلك ـ باستثناء العبارة الأخيرة ـ روي عن عمار بن ياسر(2) وعن محمد بن الحنفية(3).

وقيل لعلي (عليه السلام) حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية، وأهل الشام: أتقر أنهم مؤمنون مسلمون؟!

فقال علي: ما أقر لمعاوية، ولا لأصحابه: أنهم مؤمنون، ولا مسلمون الخ(4)..

كما أنه (عليه السلام) اعتبر نفسه ومن معه، ومعاوية ومن معه مصداقاً لقوله تعالى: {منهم من آمن ومنهم من

ـــــــــــــــ

(1) صفين للمنقري ص215.

(2) المصدر السابق ص215و216 والجمل ص19.

(3) صفين ص216.

(4) المصدر السابق ص509.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 67/

كفر}(1)، وقال: {فنحن الذين آمنوا، وهم الذين كفروا}(2).

وعنه (عليه السلام)، أنه قال يوم صفين: «اقتلوا بقية الأحزاب، وأولياء الشيطان. اقتلوا من يقول: كذب الله ورسوله ونقول صدق الله ورسوله ثم يظهرون غير ما يضمرون ويقولون: صدق الله ورسوله(3).

وقد ورد تكفيرهم على لسان عمار بن ياسر أكثر من مرة فراجع كتاب صفين للمنقري(4) وغيره..

وهذا هو أيضاً ما قرره الأشتر(5).

وقال أبو نوح لذي الكلاع:

نحن على الحق، وأنتم على الباطل، مقيمون مع ائمة الكفر، ورؤوس الأحزاب(6).

ولابد أن يكون المقصود هو أن كفرهم، كفرملة، لأنه عن طريق التأويل، لا كفر ردة عن الشرع، مع إقامتهم

ـــــــــــــــ

(1) البقرة 253.

(2) صفين ص322/323.

(3) دعائم الإسلام ج1 ص389/390 وجواهر الكلام ج21 ص226، والمهذب [ضمن الينابيع الفقهية كتاب الجهاد] ص105.

(4) ص322و321و320.

(5) صفين ص238و239.

(6) صفين ص333.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 68/

على الجملة منه، ولأجل ذلك لم يخرجوهم عن حكم ملة الإسلام(1).

وقد اعتبر محاربو علي (عليه السلام) أعظم جرماً من محاربي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنهم قد قرأوا القرآن، وعرفوا فضل أهل الفضل، فأتوا ما أتوا بعد بصيرة(2).

سيرة علي (عليه السلام) في البغاة:

والظاهر: أن سيرته (عليه السلام) مع البغاة، كانت وفق العناوين الثانوية لا الأولية، كما يفه من الروايات التي تقول: إنه (عليه السلام) قد سار فيهم، كما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المشركين يوم فتح مكة، أي بالمن والكف(3).

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الجمل ص39/30 وراجع: جواهر الكلام ج21 ص338 وفي رواية عن الدعائم ج1 ص388 أنهم كفروا بالأحكام وبالنعم وليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوة ولم يقروا بالإسلام.

(2) جواهر الكلام ج21 ص325 وتهذيب الأحكام ج6 ص170 ودعائم الإسلام ج1 ص388.

(3) راجع: أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج2 ص273 والكافي ج5 ص21و33 والتهذيب ج6 ص137و154و155 والغيبة للنعماني ص232و231 والمحاسن ص320 وعلل الشرايع ص147و150 والوسائل ج11 ص55و58و57و59و18 والبرهان للبحراني ج4 ص207 ورياض المسائل ج1 ص482و481 والمختلف ج2 ص157 والخصال ج1 ص276 وتفسير القمي ج2 ص321 ونور الثقلين ج5 ص84و85 وجواهر الكلام ج21 ص331و336و350 ودعائم الإسلام ج1 ص394.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 69/

وذلك لأنه علم أنه سيكون للبغاة دولة، فلولا سياسته هذه للقي شيعته بعده بلاءً عظيماً(1).

وأضاف في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:» وقد رأيتم آثار ذلك، هوذا يسار في الناس بسيرة علي (عليه السلام)»(2) والذي سيسير فيهم بمقتضى الحكم الواقعي هو الإمام الحجة عليه الصلاة والسلام(3).

وأما ما يروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنهم: إخواننا بغوا علينا(4) فهو قد جاء وفقاً للسياسة الحكيمة في الدعوة إلى الإسلام، كما كانت سياسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين.

وعليه.. فلا يمكن استفادة الأحكام الواقعية من سيرته صلوات الله وسلامه عليه في البغاة، كما يريد الشافعي ان

ـــــــــــــــ

(1) راجع المصادر المتقدمة، بالإضافة إلى علل الشرايع ص154 ورياض المسائل ج1 ص482و483 وجواهر الكلام ج21 ص330 وص335و336 ودعائم الإسلام ج1 ص394.

(2) علل الشرايع ص154، ورياض المسائل ج1 ص483 وجواهر الكلام ج21 ص335 وفي هامشه عن الوسائل.

(3) راجع: الكافي ج5 ص33 والتهذيب ج6 ص154 وعلل الشرايع ص150 والسوائل ج11 ص57 ورياض المسائل ج1 ص482 وجواهر الكلام ج21 ص335و336.

(4) مصادر ذلك كثيرة، فراجع على سبيل المثال: قرب الإسناد ص45 والوسائل ج11 ص62 وجواهر الكلام ج21 ص338.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 70/

يقول(1) ونسب ذلك إلى أبي حنيفة أيضاً(2) وإلى الشيباني كذلك(3).

ولعل عدم تركيز الأئمة (عليهم السلام) على بيان الحكم الواقعي في هذا المجال ـ إلا فيما قل ـ يرجع إلى علمهم بأن العنوان الثانوي لن يتبدل، ولسوف يبقى من اللازم العمل بالمن والكف، إلى حين ظهور الإمام الصلوات الله وسلامه عليه(4).

تطبيق آية سورة الحجرات على حرب الجمل:

وبعد.. فقد قررت الآية الشريفة في سورة الحجرات،

ـــــــــــــــ

(1) راجع: كنز العرفان ج1 ص386 وجواهر الكلام ج21 ص333، ومصادر ذلك كثيرة.

(2) مقتل الحسين (عليه السلام) للسيد المقرم ص68 عن: مناقب ابن حنيفة للخوارزمي ص83و84 ط حيدر آباد.

(3) مقتل الحسين للمقرم ص69 عن الجواهر المضية طبقات الحنفية ج2 ص26.

(4) فقد جاء: أن حكم البغاة هو القتل، وأنه (عليه السلام) حين ظهوره يهدم ما كان قبله، كما هدم رسول الله، ويستأنف الإسلام جديداً.. راجع: الغيبة للنعماني ص231و232/233 وعلل الشرايع ص154و150 وراجع: جواهر الكلام ج21 ص336و335و334.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 71/

وجوب قتال البغاة حتى يفيئوا إلى أمر الله سبحانه، قال تعالى:

{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي، حتى تفيء إلى أمر الله}(1).

وقد طبقت الروايات هذه الآية الشريفة، على خصوص حرب البصرة، أي حرب الجمل، فليراجع على سبيل المثال، ما نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وعن عمار بن ياسر، رحمه الله تعالى(2).

نعم.. هناك روايات أخرى قد جاءت مطلقة، أي أنها اكتفت بذكر سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن حاربه، وسكتت عن تطبيق الآية.

ولعل من الممكن أن نفهم من ذلك: أن حرب صفين والنهروان كان أمرهما أعظم من حرب البصرة.. ولأجل

ـــــــــــــــ

(1) الحجرات 9.

(2) الكافي ج5 ص11/12و33 والتهذيب ج6 ص137و155 والوسائل ج11 ص55 وراجع ص18 والبرهان ج4 ص207 وتفسير نور الثقلين ج5 ص85 عن روضة الكافي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 72/

ذلك نلاحظ: أن جهر أمير المؤمنين وأصحابه بكفر أهل البصرة ـ أقل من جهرهم بكفر أهل صفين، والخوارج..

وقد تقدم بعض تصريحاتهم بذلك في صفين.. وبالنسبة لحرب الجمل، نجد قول أمير المؤمنين (عليه السلام):

«ما نزل تأويل هذه الآية إلا اليوم: {يا أيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} الخ»(1).

ومثل ذلك روي عن عمار، وحذيفة، وابن عباس، وأضاف البعض قوله: «وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله»(2).

وعن علي (عليه السلام)، أنه قال يوم الجمل: والله، ما قوتل أهل هذه الآية إلا اليوم، يريد قوله تعالى: {وإن

ـــــــــــــــ

(1) المائدة ـ 54 وهذا يدل على عدم كون مانعي الزكاة في زمن أبي بكر، مرتدين، فإطلاق اسم: حروب الردة، على تلك الحروب فيه مسامحة ظاهرة.

(2) راجع: مجمع البيان ج3 ص208 وفقه القرآن ج1 ص370 والبرهان للبحراني ج1 ص479 والجمل ص195.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 73/

نكثوا من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمة الكفر}(1).

ولعل ذلك يرجع: إلى أن الشبهة كانت لدى أهل الجمل موجودة بالنسبة للاتباع، بسبب وجود عائشة أم المؤمنين، وحتى بالنسبة لبعض القادة أيضاً، فإن وجود الشبهة لهم ممكن ولو كانت بصورة ضعيفة، فقد يكون الزبير قد زينت له نفسه: أنه في سوابقه ومواقفه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يجب أن يكون لعلي، الذي كان من أترابه من حيث السن، وإن كان يعرف أنه ـ يتفوق عليه وعلى غيره، بالعلم، والفضل، والقرب، والقرابة، وغير ذلك ـ لا يجب ـ أن يكون لعلي (عليه السلام) ـ حتى مع هذا التفوق، نفس الصلاحيات، التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا يجب أن يحرم هو ـ بزعمه ـ وأمثاله من هذا الأمر، لاسيما بعد أن أشركهم عمر بالشورى المعروفة، وجعلهم يمدون أعناقهم إلى هذا الأمر، ويتشوفون إليه.

نعم.. قد يكون الزبير قد زينت له نفسه هذا. ولكن

ـــــــــــــــ

(1) كنز العرفان ج1 ص387 وراجع: دعائم الإسلام ج1 ص389 وجواهر الكلام ج21 ص226، والمهذب [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص105.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 74/

احتجاجات أمير المؤمنين عليه، وعلى كل مناوئيه قد قطعت كل عذر، ولم تبق حيلة لمتطلب حيلة.. ـ ولعل من يلاحظ مواقف وكلمات أمير المؤمنين في حرب الجمل، ولاسيما تحذيره لهم من سيف الأشتر، وجندب بن زهير، وكلامه مع القتلى، وغير ذلك، يجد: أنه كان متألماً ومتأسفاً لما انتهى إليه أمرهم بسبب سوء تقديرهم، وسوء اختيارهم، وصدودهم عنا لحق.

ولكننا نجد مواقفه (عليه السلام)، وكلماته في صفين، أكثر تشدداً، وعنفاً، وصراحة. وقد عرفنا كيف كان يجهر هو وأصحابه رضوان الله عليهم بأن مناوئيه، قد أظهروا الإسلام، وأسرّوا الكفر، إلى أن وجدوا عليه أعواناً.. كما أنه (عليه السلام) لا يعترف لمعاوية ولا لأصحابه بإيمان، ولا بإسلام.. الأمر الذي يشير إلى أنه (عليه السلام) يرى: أن بغي هؤلاء أعظم وأشد وأخطر، وأنه لا شبهة لهم، ولاسيما على مستوى القادة منهم، حتى ولو كانت تافهة، وغير معقولة..

فإن بغت إحداهما:

قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي، حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت، فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}.

{إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون}(1).

ـــــــــــــــ

(1) الحجرات 9و10.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 75/

وإن تطبيق هذه الآية الشريفة على الحروب التي قامت ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل البغاة عليه. وعلى الحرب التي يشنها النظام الحاكم في العراق على الجمهورية الإسلامية، يواجه بعض المصاعب والعقبات..

ويمكن تلخيصها ضمن النقاط التالية:

إنها ظاهرة في أن البغي يحصل بعد محاولة الصلح، ولا يوجد بغي من أول الأمر، والذي كان أولاً هو الاقتتال بين الأفراد، المسلمين، اقتتال لم يعلم وجهه، ولعله بسبب فتنة لا يعرف وجه الحق فيها، أو سوء تفاهم ناشئ من عدم التعقل والتثبت، يستتبع تعصبات قبلية وجاهلية عامة..

ولعل هذا هو السر في إرجاع الضمير أولاً إلى الطائفتين بصيغة الجمع: «اقتتلوا» ثم بعد محاولة الصلح، وصيرورة الأفراد فريقين متمايزين، ينساق أحد الفريقين وراء عصبيته، ويتخذ أفراده موقفاً موحداً باغياً ضد الفريق الآخر مع علمه بخطأه في موقفه وإصراره عليه(1). فصح حينئذٍ ارجاع الضمير في «بينهما» بصيغة التثنية.

وهذا المعنى.. لا ينطبق على الخارجين على أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنهم كانوا عارفين بالحق والحقيقة من أول الأمر، وقد عرفهم أمير المؤمنين ذلك، واحتج عليهم قبل وقوع الحرب بما لا يزيد عليه، وإذن.. فهم قبل دخول المعركة لم ـــــــــــــــ

(1) راجع: تفسير الرازي شرح الآية المباركة، ففيه بعض الإشارات إلى ما ذكرنا أيضاً..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 76/

يكونوا في فتنة عمياء، ولا كان ثمة سوء تفاهم أو عصبية. ولا كان لديهم تأويل مظنون أو محتمل، بل كانوا محض معاندين للحق ولصاحبه.. فكان لابد من المبادرة لقتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله سبحانه من أول الأمر.

وهكذا الحال بالنسبة للنظام الحاكم في العراق، فإنه ظالم ومتعد وباغ، من أول الأمر، فلا يمكن أن يكون مصداقاً للآية، بل لابد من المبادرة لقتاله لردعه عن غيه.

وكما أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد كان أمام خيارين، لا ثالث لهما، وهما: القتال، أو الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما صرح به (عليه السلام)(1)، كذلك الحال بالنسبة للمسلمين اليوم فإنهم أمام خيارين، إما قتال النظام العراقي، أو الكفر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله)، من حيث عدم الرضا ولا العمل بالأحكام الإلهية التي جاء بها صلى الله عليه وآله وسلم(2).

ـــــــــــــــ

(1) الجمل ص19 وصفين ص474 وجواهر الكلام ج21 ص325 عن مستدرك الوسائل ج2.

(2) بعد أن كتبت ما تقدم، رأيت: أن البعض قد اعتبر الآية ليست ناظرة إلى البغاة بالمعنى الاصطلاحي، بل البغي فيها بمعنى التعدي بين المؤمنين بعضهم على بعض، راجع: كنز العرفان ج1 ص386و387 ورياض المسائل ج1 ص482.

ثم رأيت ابن البراج في المهذب [المطبوع ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص106 بعد ذكره لآية الحجرات، يقول: «.. فقد دل ما أوردناه ـ من القرآن والخبر ـ على أن الله سبحانه فرض قتال أهل البغي. وقد ذكرنا في باب من يحب جهاده، من المراد باهل البغي، وقسمتهم، فإذا اقتتلت=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 77/

إن الآية تقول: إن البغي ليس على الإمام العادل، وإنما البغي يكون من إحدى الطائفتين على الطائفة الأخرى. فبسبب إصرارهما على عدم الخضوع لأمر الله سبحانه تصبح باغية ومتعدية، وهذا المعنى يجعل الآية تأبى الانطباق على الخارجين على أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنهم بغاة على الإمام (عليه السلام) مباشرة، لا على بعضهم البعض..

كما أنها لا تنطبق على الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية أيضاً، لأن النظام الحاكم في العراق قد شن حرابً على حاكم عادل، تماماً كما حارب أولئك أمير المؤمنين (عليه السلام).

إن الآية قد فرضت كلا الطائفتين متصفة بالإيمان، فضلاً عن الإسلام، قبل حدوث أي قتال فسواء قلنا بخروج الباغية عن الإيمان بعد بغيها كما هو الصحيح لأنه يكون من قبيل قولنا: أيها المؤمنين، من كفر منكم فاقتلوه(1).. أو لم نقل..

ـــــــــــــــ

=طائفتان بالكلام، او ما يجري مجراه، ولم يشهروا سلاحاً أصلح بينهما بما يدعو إلى الألفة، وما يعم النفع به، وإن بغت إحداهما على الأخرى، وشهرت الظالمة السلاح على المظلومة، وجب قتال الطائفة الباغية، حتى تفيء إلى أمر الله سبحانه، ووجب على المؤمنين إذا دعاهم الإمام إلى ذلك، واستعان بهم معاونته، ومساعدته، والخروج معه إلى حربهم، ولم يجز لأحد التأخر عنه في ذلك ولا فرق في وجوب قتال الباغية، بين أن تكون باغية على طائفة من المؤمنين، وبين أن تكون بغت على الإمام، إما في خلع طاعته، أو في منعه مما يجب له التصرف فيه من إقامة حد أو غيره ـ أو ما جرى مجرى ذلك..».

(1) راجع: مسالك الإفهام للجواد الكاظمي ج2 ص364 وراجع: جواهر الكلام ج21 ص323 والمبسوط للشيخ ج7 ص262.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 78/

فإن الحرب الفعلية التي يشنها النظام العراقي على الجمهورية الإسلامية خارجة عن مضمون الآية، لأن الذي شن الحرب على الجمهورية الإسلامية، هو حزب شيطاني، قد تخلى عن الإسلام، وارتضى قول عفلق المسيحي ـ ديناً وطريقة.. فهو ليس من المؤمنين من أول الأمر، أي حتى قبل بدئه الحرب، فلا يمكن أن يكون الطائفة الأخرى، التي تعرضت لها الآية.

أضف إلى ذلك: أنه وهو يتولى أعداء الله، بصورة قوية، وصريحة وفاضحة، وقد نصب نفسه منفذاً لأوامرهم، ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين ـ فإنه قد أصبح من أبرز مصاديق قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}.

وبالنسبة لمحاربي أمير المؤمنين والبغاة عليه، فقد تقدم الكلام عنه فلا نعيد..

أما بالنسبة للصلح في الآية، فليس المقصود به: مجرد المتاركة للقتال، وإلقاء السلاح، وإنما هو الرجوع إلى حكم الله سبحانه، وقبول كل التبعات المترتبة على البغي والعدوان، حيث لابد وأن يكون صلحاً قائماً على العدل والقسط.. كما أنه لابد وأن يكون بعد الفيئة لأمر الله سبحانه..

والنظام الحاكم في العراق لم يفئ لأمر الله سبحانه، ولا زال يتآمر، ويخطط، ويسرّ ويعلن، ويعمل بكل ما لديه من قوة وحول على تدمير الإسلام، والمسلمين، ويحاول هو وأسياده المستكبرون التملص والتخلص من حكم الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 79/

سبحانه، وإبقاء حالة التعدي، وللظلم، وتضييع الحقوق، والدماء ـ يريد إبقاء هذه الحالة ـ على ما هي عليه، مع أن الصلح لابد من أن يكون قائماً على العدل، ومن العدل معاقبة الجاني، والقاتل. وفضح المعتدي، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين.

وقد أكد الله سبحانه لزوم مراعاة هذا العدل في الصلح بجملتين اخريين، هما قوله تعالى: {وأقسطوا} أي أعطوا كل ذي حق حقه(1). ثم قوله: {إن الله يحب المقسطين} أي يحب العادلين لأجل عدالتهم.

وقد يقال: إن هذا كله، إنما يتم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار مورد نزول الآية، وقلنا: إنها بصدد حكاية ما جرى، وإصدار الحكم له أو عليه.. وأما إذا تجاوزنا ذلك، فإن بالإمكان القول: «إن الآية تشمل بإطلاقها صورة البغي على الإمام العادل أيضاً، إذ يصدق عليه، وعلى مناوئيه: أنهما طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وقد أمر الله المؤمنين بالإصلاح بينهما، ثم قتال الباغية منهما.

ولكننا نقول: أولاً: إن هذا لا يصح، وذلك لأن الآية قد فرضت إمكانية البغي من كلا الطائفتين ومن الواضح: أن البغي

ـــــــــــــــ

(1) راجع: مسالك الإفهام للجواد الكاظمي ج2 ص364 وراجع: منتهى المطلب ج2 ص983 وراجع ص983. وجواهر الكلام ج21 ص323/324و347 وراجع تذكرة الفقهاء ج1 ص455 والمبسوط ج7 ص262 ودعائم الإسلام ج1 ص397.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 80/

لا يتصور من الإمام العادل، فلا يبقى لسياق الآية معنى.

وثانياً: إنه يجب على الناس إطاعة الحاكم العادل، والانتهاء إلى أمره، فلا معنى لنشوء سوء تفاهم بينهما، بل يكون كل قتال بغياً عليه من أول حدوثه.. فلا مجال لدعوى شمول الآية لهذا المورد..

كانت تلك.. هي بعض المصاعب التي يمكن أن يقال: إنها تعترض طريق شمول الآية الكريمة للخارجين على أمير المؤمنين (عليه السلام) في الماضي، والخارجين على الجمهورية الإسلامية اليوم..

ولكن من الواضح: أن ذلك كله لا يبرر القول بخروج حروب أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حكم الآية.. وذلك لأن الآية الشريفة قد جاءت لتقرر قاعدة كلية في قتال البغاة، ولكنها اكتفت بالإشارة إلى أدنى ما يتحقق به البغي والذي قد يخفى أمره على البعض، ليعلم حكم ما عداه بالأولوية القطعية، وبمفهوم الموافقة، فهي من قبيل قوله تعالى: بالنسبة للوالدين {ولا تقل لهما أف}، الذي يعلم منه حكم ضربهما وشتمهما.

فالآية قد قررت: أن البغي يتحقق، حتى ولو كان ذلك بواسطة عدم إطاعتهم الأمر بالكف عن بعضهم البعض، والرجوع عما هم فيه، إلى أمر الله سبحانه.. فإن هذا الأمر كاف في تحقق البغي، ووجوب قتالهم، حتى يقتلوا: أو يفيئوا إلى أمر الله سبحانه..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 81/

فكيف إذا خرجوا على نفس الإمام العدل، المنصوب من قبل الله سبحانه، عموماً، أو خصوصاً، فحاربوه، وهو الذي أمرهم الله تعالى بطاعته، والانتهاء إلى أمره؟!.. فإن جرمهم يكون أعظم، ووجوب قتالهم يكون أكد.

وعليه فيكون انطباق الآية على الناكثين واضح، ولاسيما بعد أن يقيم عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) الحجة، ويقطع لهم كل عذر، ويبطل كل قول، ثم يصرون على حربه، وعلى عدم قبول أمر الله سبحانه لهم بطاعته، والانتهاء إلى أمره، الأمر الذي يجعلهم بحكم المشركين والكفار، الذين يتمردون على حكم الله ورسوله، ويدفعون أمرهما:

ولكنهم بالنسبة لذراريهم ونسائهم فإنهم يعاملون معاملة المسلمين، لإقامتهم على ظاهر الإسلام..

كما أن الأمر قد تحقق البغي بالنسبة للقاسطين والمارقين يكون أوضح، وأجلى، حسبما تقدم بيانه..

ولكن الأمر بالنسبة للحزب الحاكم في العراق يختلف تماماً، حسبما تقدم بيانه، فإنه لا يلتزم حتى بظاهر الإسلام، ولا يقيم على شرائعه، مع إنكاره الكثير منه أيضاً، بعد أن ابتغى غير الإسلام ديناً، ولم يدخل في دين سماوي آخر لتلحقه أحكام أهله وعاد ليشن على الإسلام في الداخل والخارج حرباً مدمرة لكل قيمه، ورموزه، ويحاول القضاء على هذا الدين، واستئصال شأفة كل من يعتقدون به، ويدعون إليه.. فلم يبق إلا أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 82/

يعامل معاملة المشركين، الذين لا يعتقدون بدين، ولا يرجعون إلى شيعة..

إلا أننا مع ذلك.. ولأن معظم الناس الذين يحكمهم هذا الحزب بالحديد والنار، هم من المسلمين، المقهورين، والمضطهدين، الذين استطاع تضليل كثير منهم بإعلامه الحاقد والمسموم. وبعد أن استأصل الصفوة المؤمنة منهم ها هو يزج بالبقية الباقية في أتون هذه الحرب، ليكونوا وقودها وضحاياها..

نعم ـ من أجل ذلك ـ لابد وأن نتعرض لحكم البغاة ومقابلتهم بالمثل، كما تعرضنا لذلك بالنسبة للمشركين، ومن عدا هذين الصنفين ـ كالروم مثلاً ـ فإن حكمهم حكم المشركين من هذه الجهة، كما ستأتي الرواية المصرحة بذلك.. فـ:

إلى ما يلي من مطالب.

لزوم قتال البغاة ولو بالسلاح:

أما بالنسبة لقتال البغاة ودفعهم البغاة ودفعهم بالسلاح، فلا ريب في وجوبه «بالنص والإجماع، وقد قال الله تعالى: {قاتلوا التي تبغي(1)..

ـــــــــــــــ

(1) تذكرة الفقهاء ج1 ص452.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 83/

ودعوى الإجماع هذه تغنينا عن تتبع كلمات الفقهاء في هذا المجال..

وقال علي (عليه السلام) لذلك الشامي، الذي طلب منه التخلي عن الحرب في صفين، في جملة كلام له: «قد أهمني هذا الأمر، وأسهرني، وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلا القتال، أو الكفر بما أنزل الله عز وجل. أو يرضى من أوليائه أن يعصى في الأرض، وهم سكوت، مذعنون له؟ لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال في نار جهنم.»(1).

بل لقد قال النووي: «وقال معظم الصحابة والتابعين، وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين، قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي} الآية.. وهذا هو الصحيح..»(2).

وقال الجصاص حول آية: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي، حتى تفيء إلى أمر الله}(3) ـ قال ـ: «قد اقتضى ظاهر الآية الأمر بقتال الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، وهو عموم في سائر ضروب القتال، فإن فاءت إلى الحق بالقتال بالعصا والنعال، لم يتجاوز به إلى غيره،

ـــــــــــــــ

(1) شرح النهج لابن أي الحديد المعتزلي، ج2 ص 208. وراجع ينابيع المودة للقندوزي ج2 ص8.

(2) شرح صحيح مسلم، للنووي، بهامش القسطلاني ج10 ص337.

(3) الحجرات 9.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 84/

وإن لم تفيء بذلك قوتلت بالسيف على ما تضمنه ظاهر الآية، وغير جائز لأحدٍ الاقتصار على القتال بالعصا دون السلاح، مع الإقامة على البغي، وترك الرجوع إلى الحق. وذلك أحد ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): «من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذاك أضعف الإيمان»، فأمر بإزالة المنكر باليد، ولم يفرق بين السلاح وما دونه، فظاهره يقتضي وجوب إزالته بأي شيء أمكن..

وذهب قوم من الحشو إلى أن قتال أهل البغي إنما يكون بالعصا والنعال، وما دون السلاح، وأنهم لا يقاتلون بالسيف، واحتجوا بما روينا من سبب نزول الآية، وقتال القوم الذين تقاتلوا بالعصا والنعال.

وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا، لأن القوم تقاتلوا بما دون السلاح، فأمر الله تعالى بقتال الباغي منهما، ولم يخصص قتالنا إياه بما دون السلاح، وكذلك نقول: متى ظهر لنا قتال من فئة على وجه البغي، قابلناه بالسلاح وبما دونه حتى ترجع إلى الحق.

وليس في نزول الآية على حال قتال الباغي لنا بغير سلاح، ما يوجب أن يكون أن يكون الأمر بقتالنا إياهم مقصوراً على ما دون السلاح، مع اقتضاء عموم اللفظ، للقتال بسلاح وغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 85/

ألا ترى أنه لو قال: من قاتلكم بالعصا فقاتلوه بالسلاح، لم يتناقض القول به؟ فكذلك أمره إيانا بقتالهم، إذ كان عمومه يقتضي القتال بسلاح وغيره، وجب أن يجرى على عمومه..

وأيضاً قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الفئة الباغية بالسيف، ومعه من كبراء الصحابة، وأهل بدر، من قد علم مكانهم، وكان محقاً في قتاله لهم، لم يخالف فيه احد، إلا الفئة الباغية التي قابلته وأتباعها»(1).

وقال: «ولم يختلف أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وجوب قتال الفئة الباغية بالسيف، إذ لم يردعها غيره، ألا ترى: أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج؟ ولو لم يروا قتال الخوارج، وقعدوا عنهم لقتلوهم، وسبوا ذراريهم، ونساءهم، واصطلموهم»(2).

وقال: «.. فأمر بقتالهم إلى ان يرجعوا إلى الحق، فدل على أن التعزيز يجب إلى أن يعلم إقلاعه عنه، وتوبته، إذ كان التعزيز للزجر والردع، وليس له مقدار معلوم في العادة، كما أن قتال البغاة، لما كان للردع، وجب فعله إلى أن يرتدعوا وينزجروا»(3).

ـــــــــــــــ

(1) أحكام القرآن ج3 ص399/400.

(2) أحكام القرآن ج3 ص400.

(3) أحكام القرآن ج3 ص4ـ4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 86/

وسائل الحرب ضد البغاة، وأساليبها:

وأما بالنسبة لأساليب قتال البغاة، ووسائله، فلعلها لا تختلف كثيراً عنها بالنسبة إلى المشركين، إلا بالنسبة إلى ضربهم بما يعم إتلافه، فقد حاول بعض العلماء التحرز منه، كما سنرى..

ولعل هذا الإطلاق يمكن استفادته من قول صاحب الرياض: «وبالجملة: كيفية قتال البغاة، مثل قتال المشركين في جميع ما مرّ، بلا خلاف يظهر فيه»(1).

وقال ابن البراج: «.. ويقاتل أهل البغي بكل ما يقاتل به المشركون، وإذا انهزم عسكرهم، وكان لهم فئة، جاز اتباع مدبرهم، وأن يجهز على جريحهم»(2).

ومن الواضح: أن الهدف من قتال البغاة ليس هو استئصالهم وقتلهم، بل هو دفع شرهم، وفلّ جمعهم(3) بل وإجبارهم على قبول أمر الله سبحانه، كما صرحت به الآية الشريفة في سورة الحجرات: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}.

ـــــــــــــــ

(1) رياض المسائل ج1 ص482.

(2) المهذب [ضمن الينابيع الفقهية، كتاب الجهاد] ص107.

(3) راجع: منتهى الطلب ج2 ص984و988 وتذكرة الفقهاء ج1 ص454.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 87/

بل إن قتال المشركين قد كان بهدف إلى ذلك أيضاً فـ عن الحسن: «أن رجلاً قال للنبي: يا نبي الله، ألا أحمل عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا، أتريد أن تقتلهم كلهم؟ فكره ذلك الخ...»(1).

ولكن شرط أن يكون ذلك بعد التحذير اللازم، وإقامة الحجة، وأن لا يكون بما هو حرام حرمة مطلقة، حسبما أوضحناه فيما سبق.

وقد وردت روايات تدل على ما ذكرناه، وهي، وإن كانت ضعيفة السند، ولكنها ـ بالإضافة إلى حكم العقل، بلزوم الحفاظ على الإسلام، وعلى جماعة أهل الحق، والعدل ـ كافية للدلالة على ذلك..

فمن هذه الروايات، ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «يقاتل أهل البغي ويقتلون، بكل ما يقتل به المشركون. ويستعان عليهم بمن أمكن أن يستعان به عليهم، من أهل القبلة، ويؤسرون كما يؤسر المشركون، إذا قدر عليهم..»(2).

وروي: أن الخوارج سألوا علياً (عليه السلام) عن سبب

ـــــــــــــــ

(1) كنز العمال ج4 ص298 عن ابن جرير.

(2) دعائم الإسلام ج1 ص393 ومستدرك الوسائل ج2 ص254 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص88.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 88/

قوله لهم في صفين:

«اقتلوهم مدبرين، ونياماً، وأيقاظاً، وجهزوا على كل جريح، ومن ألقى سلاحه، فاقتلوه؟».

فأجابهم (عليه السلام)، بأن سبب ذلك هو أن: «لهم دار حرب، قائمة، ولهم إمام منتصب، يداوي جريحهم، ويعالج مريضهم، ويهب لهم الكراع والسلاح»(1).

وحسب نص آخر: إنه (عليه السلام) في صفين: «.. قتل المقبل والمدبر، وأجاز على الجريح»(2).

ومقتضى ما تقدم، ولاسيما الرواية الأولى، هو جواز قتلهم ـ كالمشركين ـ بكل وسيلة، حتى بالحيات والعقارب، وبإلقاء السم، وإن استشكل به جمع من الفقهاء ـ وبالمنجنيق، وبغير ذلك ما يعم إتلافه، وغيره.. مع الأمن من لحوق الضرر بغيرهم، إلا إذا توقف دفعهم عليه، فيجوز حينئذٍ، حتى ولو أصيب غيرهم ممن لا يقاتل، وذلك بمقدار ما ترتفع به الضرورة.

ـــــــــــــــ

(1) جامع أحاديث الشيعة ج13 ص104 ومستدرك الوسائل ج2 ص253، عن الحسين بن حمدان في الهداية وقال: رواه القاضي النعمان في كتاب: شرح الأخبار، عن أحمد بن شعيب الساري، بإسناده عن ابن عباس مثله، باختلاف يسير

(2) التهذيب ج6 ص156 والكافي ج5 ص33 والوسائل ج11 ص55و56 ورياض المسائل ج1 ص482 ومنتهى المطلب ج2 ص987 وعن رجال الكشي ص142 وعن تحف العقول ص116. وراجع: دعائم الإسلام ج1 ص394.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 89/

ضرب البغاة بما يعم إتلافه:

ولكن الشيخ والعلامة رحمهما الله تعالى، قد منعا من رمي البغاة بما يعم إتلافه، قال الشيخ قدس سره:

«.. لا يسوغ للإمام العادل أن يقاتل أهل البغي بالنار، ولا أن ينصب عليهم المنجنيق، لأنه إنما له أن يقاتل من اهل البغي من يقاتله منهم، دون من لا يقاتله، فلو حرقهم بالنار، ورماهم بحجر المنجنيق، لم يؤمن أن يقتل من لا يحل قتله، وإن اضطر إلى ذلك ساغ ذلك له إلخ..»(1).

وقال العلامة رحمه الله تعالى: «إذا لم يمكن دفع البغاة إلا بالقتل وجب، ولا يقاتلون بما يعم إتلافه، كالنار والمنجنيق، لأن القصد بقتالهم فلّ جمعهم، ورجوعهم إلى الطاعة، والنار تهلكهم، وتقع على المقاتل وغيره، ولا يجوز قتل من لا يقاتل»، ثم ذكر جواز ذلك في صورة الضرورة، وخوف أهل العدل من الاصطلام.. (2)..

وقال: «لا يقاتل أهل البغي بما يعم إتلافه، كالنار، والمنجنيق، والتغريق، إلا مع الضرورة»(3).

ونقول: إن كان الملاك في المنع عن ضربهم بما يعم إتلافه

ـــــــــــــــ

(1) المبسوط للسيوطي ج7 ص275.

(2) تذكرة الفقهاء ج1 ص455 ومنتهى المطلب ج2 ص986.

(3) تحرير الأحكام ج1 ص156 ومنتهى المطلب ج2 ص986.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 90/

هو، أن ذلك ينال غير المقاتلين، ولا يحل قتل من لا يقاتل.. فإن ذلك يتعارض مع الرواية المتقدمة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، التي قررت أنهم يقاتلون بما يقاتل به المشركون، وقد تقدم ضرب النبي (صلى الله عليه وآله) للمشركين بالمنجنيق في حرب الطائف.. وتقدمت الرواية. وأن ذلك جائز، ولاسيما إذا توقف دفعهم عليه حتى ولو تترسوا بالمسلمين، ولا يمسك عنهم لأجل ذلك. وأنه لو أصيب أحد من المسلمين، والحالة هذه، فلا دية له.

كما أنه يمكن تحاشي هذه السلبية بتقديم الإنذار لهم، بالابتعاد عن مواطن الخطر، والضرر عبر وسائل الإعلام المتوفرة، والقادرة على إيصال هذه الإنذارات إلى كل أحد..

كما أن مقتضى هذا التعليل هو جواز ضربهم بما يعم إتلافه، حيث لا يصل ذلك إلى غير المقاتلين، كما هو الحال في جبهات الحرب في هذه الأيام..

وإن كان الملاك في المنع عن ذلك هو: أن القصد بقتالهم هو فلّ جمعهم، وإرجاعهم إلى الطاعة، فإن ذلك إنما هو بالنسبة لمن ليس لهم فئة يرجعون إليها، أما من كان لهم فئة، فإنه يقتل مقاتلتهم، ويتبع مدبرهم، ويجهز على جريحهم، كما هو مذكور في كتب الحديث والفتوى.

هذا.. وقد قال العلامة: «قال أبو حنيفة: أهل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 91/

الحصن الخوارج، واحتاج(1) الإمام إلى رميهم بالمنجنيق، فعل ذلك بهم، ما كان لهم عسكر، وما لم يهزموا، وهو حسن»(2).

المقابلة بالمثل مع البغاة:

وقد تقدم حكم العقل، وقضاء الفطرة بالنسبة لمقابلة المعتدي بالمثل، ولاسيما إذا توقف ردعه على ذلك، ثم جاءت الآيات والروايات، لتؤكد حكم العقل هذا، وتعطي قاعدة عامة في هذا المجال، تشمل المعتدي المشرك وغيره..

وقال الشيخ حول جواز ضرب البغاة بالنار والمنجنيق: «.. وإن اضطر إلى ذلك ساغ ذلك، وإنما يضطر إليه في موضعين: أحدهما: على سبيل المقاتلة، وهو أن يقاتلوه بذلك، فيقاتلهم به على سبيل الدفع عن نفسه. والثاني: أن يحاصروه من كل جانب، فلا يمكنه دفع أحد منهم إلا بهذه الآلة، فحينئذٍ يقاتلهم به، ليجعل لنفسه طريقاً، يخرج به من وسطهم»(3).

وقال العلامة حول رمي البغاة بما يعم إتلافه: «.. ولو احتاج أهل العدل إلى ذلك، واضطروا إليه، بأن يكون قد

ـــــــــــــــ

(1) الظاهر أن الصحيح: لو احتاج.

(2) منتهى المطلب ج2 ص986.

(3) المبسوط للطوسي ج7 ص275.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 92/

أحاط بهم البغاة، من كل جانب، وخافوا اصطلامهم، ولا يمكنهم التخلص إلا برمي النار، جاز. وكذا.. إن رماهم أهل البغي بالنار، أو المنجنيق، جاز لأهل العدل رميهم به»(1).

فيلاحظ: ان الشيع والعلامة قد أفتيا بجواز ضربهم بالمنجنيق والنار، إذ هم فعلوا ذلك، مقابلة لهم بالمثل مع أن ذلك قد يصيب غير المحاربين، حتى النساء والصبيان.. لأنه لا يتعمدهم ذلك.. ولعل العلامة والشيخ يقيدان ذلك بصورة توقف النصر عليه، أو كون ذلك مؤثراً في ردع المعتدي عن عدوانه، كما يشير إليه كلام الشيخ المتقدم.

وما ذكر فإنما هو بالنسبة لحرمة من لا يشركون في القتال، قال العلامة: «لو كان مع أهل البغي من لا يقاتل، ففي جواز قتله إشكال»(2).

ولعل نظره إلى صورة عدم مشاركتهم بالفعل في القتال، وإن كانوا معهم، وفي صفوفهم. أما من هم مثل الأطفال والنساء، ومن لم يحضروا المعركة، فلا يجوز قتلهم جزماً، إلا في صورة رميهم بالمنجنيق، مقابلة بالمثل، أو في صورة الاضطرار، أو توقف النصر على ذلك، فإنهم لم يصيبوا ـ والحالة هذه ـ مع عدم القصد إليهم، فلا تبعة في ذلك حسبما تقدم.. ولكن:

ـــــــــــــــ

(1) تذكرة الفقهاء ج1 ص455 ومنتهى المطلب ج2 ص986.

(2) تحرير الأحكام ج1 ص156.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 93/

«لو استعان أهل البغي بنسائهم، وصبيانهم، وعبيدهم في القتل، وقاتلوا معهم أهل العدل، وقوتلوا مع الرجال، وإن أبا(1) القتل عليهم، لأن العادل يقصد بقتاله الدفع عن نفسه، وماله..»(2).

وفي الجواهر في صورة تترسهم بنسائهم وأطفالهم ونحوهم ولم يكن التوصل إليهم إلا بقتلهم قتلوا، كما سمعته في المشركين، ترجيحاً لما دل على قتالهم عن حرمة قتل النساء والأطفال، كما أنهم كذلك لو قاتلوا معهم(3).

ولسنا هنا في صدد تتبع كلمات الفقهاء في هذا المجال، فمن أراد المزيد فليراجع إليها، في بحث الجهاد في كتب الفقه..

شمول الآيات السابقة للبغاة:

وبعد.. فإن الآيات السابقة الدالة على حكم المقاتلة بالمثل، وإن كان موردها في الأكثر، هو الحرب مع المشركين، إلا أن الحكم فيها عام يشمل كل محارب لأهل العدل من المسلمين..

وقد تقدم تصريح الشوكاني: بأن العبرة بعموم اللفظ، وإن قيل: إن للآية سبباً خاصاً(4).

ـــــــــــــــ

(1) الصحيح: أتى، كما في تحرير الأحكام، والتذكرة.

(2) منتهى المطلب ج2 ص985 وتحرير الأحكام ج1 155 وتذكرة الفقهاء ج1 ص455 والمبسوط للشيخ ج7 ص27.

(3) راجع: جواهر الكلام ج21 ص342.

(4) فتح القدير ج3 ص203 وغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 94/

وتقدم قول الرازي: إن آيات سورة الشورى تدل على وجوب رعاية المماثلة مطلقاً في كل الأحوال، إلا ما خصه الدليل..

وتقدم قول القرطبي: إن طائفة قالت: إن الآية: {الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص} إلخ.. لم تنسخ فيما تناولته من التعدي بين أمة محمد، والجنايات، ونحوها، وان ادّعى البعض نسخها بالنسبة لغيرهم(1)..

وتقدم قوله: إن آية: {إن السبيل على الذين يظلمون الناس} الخ. شاملة للمسلم والكافر، فيما سوى قول ابن عباس إلى غير ذلك من النصوص المتقدمة التي يظهر منها: أن العلماء قد استفادوا من الآيات قاعدة عامة، فراجع..

روايات تعمم الآيات للبغاة:

قد تقَّدمت رواة الطبرسي عن أبي جعفر في تفسير آية لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، حيث قرر (عليه السلام) جواز الانتصار للمظلوم ممن ظلمه بما يجوز في الدين.. كما أن لدينا بعض الروايات التي تدل على شمولية الآيات المذكورة لغير المشركين، كأهل الكتاب، والبغاة، فمن ذلك:

ما جرى في صفين، حينما خرج كريب بن

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الجامع لأحكام القرآن ج2 ص355 وراجع: فتح القدير ج1 ص192.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 95/

الصباح، فطلب البراز، فخرج إليه رجل من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقتله كريب، ثم طلب البراز، فبرز إليه آخر، فقتله، ثم طلب البراز، فبرز إليه ثالث فقتله، ثم رابع فكذلك، ثم رمى جثثهم بعضها فوق بعض.

فخرج إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقتله، ثم طلب البراز، فبرز إليه شامي آخر، فقتله، وهكذا.. حتى قتل أربعة، ثم رمى بأجسادهم، بعضهم على بعض، وهو يقول:

«الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الخ..»(1).

ويلاحظ هنا: أنه (عليه السلام) يعتبر قتل أربعة آخرين من أهل الشام قصاصاً لما فعله كريب، ومصداقاً لرد الاعتدا بمثله، وعملاً بمضمون الآية العام..

وحين بارز العباس بن ربيعة، غرار بن الأدهم، وقتله ثم خرج رجلان من أهل الشام، وطلبا مبارزة العباس، لبس علي (عليه السلام) لباس العباس، وخرج إليهما، فقتلهما، ثم جال في ميدان الحرب، وهو يقول:

الشهر الحرام، بالشهر الحرام، والحرمات قصاص، فمن

ـــــــــــــــ

(1) الفتوح لابن أعثم ج3 ص186/187 وذخائر العقبى ص98/99 عن الواقدي، وصفين للمنقري ص315/316.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 96/

اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم(1).

محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه. ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، قال:

سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قتل رجلاً في الحل، ثم دخل الحرم، فقال: لا يقتل ولا يطعم، ولا يسقى، ولا يبايع ولا يؤوى، حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد..

فقلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم، أو سرق؟!..

قال: يقام عليه الحد في الحرام صاغراً، إنه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. فقال: هذا هو في الحرام؟ فقال: لا عدوان إلا على الظالمين(2).

كما أن الإمام (عليه السلام) قد استدل بعموم التعليل، لشمول آية: {الشهر الحرام بالشهر الحرام،

ـــــــــــــــ

(1) الفتوح لابن أعثم ج3 ص242.

(2) الكافي ج4 ص228 وتفسير البرهان ج1 ص192 وتفسير نور الثقلين ج1 ص149 وتفسير الميزان ج2 ص73.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 97/

والحرمات قصاص..} لغير المشركين أيضاً، فاعتبر الروم بمنزلة المشركين، لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة. وعبر السيد صاحب الرياض عن هذا الخبر بـ «النص المنجبر بالعمل»(1)، والنص هو:

عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن سنان، عن العلا بن الفضيل، قال: سألته عن المشركين، أيبدؤهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟!

فقال: إذا كان المشركون يبتدؤونهم باستحلاله، ثم رأى المسلمون، إنهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قول الله عز وجل: الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص.

زاد في رواية الشيخ قوله (عليه السلام): والروم في هذا بمنزلة المشركين، لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة، ولاحقاً: فهم يبدأون بالقتال فيه، وكان المشركون يرون له حقاً وحرمة، فاستحلوه، واستحل منهم، وأهل البغي يبتدأون بالقتال(2).

ـــــــــــــــ

(1) الرياض ج1 ص490.

(2) راجع: التهذيب ج6 ص142 والجواهر ج21 ص32/33، وراجع: البحار ج97 ص53 وتفسير البرهان ج1 ص191و192 وتفسير العياشي ج1 ص86/87 ونور الثقلين ج1 ص150 =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 98/

وبعموم التعليل، وهو أن يكون ممن لا يعرف للشهر الحرام حرمة، ولاحقاً، أو ممن يستحلون حرمته مع اعتقادهم بها نعمم الآية للبغاة، فتشمل كل من استحل حرمة الشهر الحرام، بل وحتى غيره من الحرمات أيضاً، كما هو ظاهر..

هذا كله.. عدا عن الروايات التي تشير إلى هذا المبدأ، أو تدل عليه، وقد ذكرناها في ما تقدم حين الكلام على الآيات، فليراجع من أراد.

الهجرة من دار الحرب:

وبعد.. فإن الإسلام قد حث على الهجرة من دار الحرب، وشدد على ذلك بدرجة كبيرة، لا بهدف التخلي عن تلك الدار نهائياً، وإنما من أجل التحرز عن سلبياتها، ثم العود إليها بالإسلام، الذي هو محض الحق، والعدل، والخير، والبركات..

ومن هنا فقد ذم الإسلام، وحذر الدين يقيمون في بلاد

ـــــــــــــــ

=ومستدرك الوسائل ج2 ص250 وأقصى البيان ج1 ص424 وتفسير الميزان ج2 ص72، وعن تفسير الصافي ج1 ص173. والوسائل ج11 ص52.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 99/

الشرك، ويعرضون أنفسهم لسلبياتها، واعتبر أن ذلك يجعل المسلمين غير مسؤولين عن أي سوء يتعرض له هؤلاء نتيجة لذلك، بالإضافة إلى أن ذلك يسقط حقهم في أمور أخرى، حسبما هو مذكور في محله..

وقد تقدمت رواية ابن عباس ـ حين الكلام على وسائل الحرب ضد المشركين ـ حول سؤال ناس من المسلمين رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن: المسلمين يكونون مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله، فيأتي السهم، فيصيب أحدهم، فيقتله، أو يضرب، فيقتل، فانزل الله: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الخ..

وواضح: أن الآثار السلبية لتكثير سواد المشركين على أهل العدل، لا تنحصر بالمشركين، بل هي موجودة بالنسبة لمن يحارب أهل العدل، من المسلمين البغاة أيضاً.. والذين يشكلون خطراً على أهل الحق والعدل..

ومن هنا فقد نقل: «.. عن الشهيد الحاق بلاد الخلاف، التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان، فتجب عليه الهجرة مع الإمكان إلى بلد تمكن فيه ذلك، واستحسنه الكركى..»(1).

ـــــــــــــــ

(1) الجواهر ج21 ص36/37.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 100/

ثم ذكر رحمه الله تعالى: أن المعيار والميزان هو عدم المعارضة والأذية، على ما يقتضيه دينه، في واجب، أو ندب، فلو تمكن من بعض دون بعض، ووجبت.. إلى آخر كلامه(1).

وذكر رحمه الله أيضاً: أن الهجرة باقية، مادام الكفر باقياً(2).

وقال ابن سعيد: «.. والإقامة في دار الشرك محرمة على المتمكن من الهجرة، الخائف، فلا يقدر على إظهار دينه، ومكروه للمتمكن منها، الآمن على نفسه، القادر على إظهار دينه، ولا حرج على من لا حيلة له»(3).

وواضح: أن كلامه هذا ينسحب على كل بلد لا يمكن فيها إظهار الدين، وليكن منها البلاد التي تحكمها الأحزاب الكافرة، أو التي لا تسمح للمسلم بممارسة شعائر دينه..

وعليه.. فإنه إذا كان عدم التمكن من القيام بواجبه، أو ندب في بلاد الخلاف، يوجب الهجرة، فكيف إذا كان المقام معهم يوجب تقوية الفئة الباغية، وشدة شوكتها ضد

ـــــــــــــــ

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق ص34ـ36.

(3) الجامع لأحكام الشرايع ص239.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 101/

أهل الحق والعدل؟! أو منعهم من تسجيل النصر الحاسم، على من يحاربهم، ويعمل على استئصال شأفتهم؟!.

ونضيف هنا إلى رواية ابن عباس المتقدمة، روايات أخرى تحث على الهجرة. وتدعو إليها(1).. فضلاً عن الآيات القرآنية الواردة في ذلك.

فقد جاء في بعضها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني برئ من كل من نزل مع مشرك في دار الحرب(2).

ويقولون: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد قال ذلك، حينما بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء الخ(3).

ـــــــــــــــ

(1) راجع على سبيل المثال: الكافي ج5 ص29 والتهذيب ج6 ص139 ودعائم الإسلام ج1 ص369، والبحار ج19 ص179 والوسائل ج11 ص44 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص118و119 ومجمع الزوائد ج5 ص250ـ255 وسنن البيهقي ج9 ص12و13 وبداية المجتهد ج1 ص397.

(2) الكافي ج5 ص43 والتهذيب ج6 ص152 والاشعثيت ص79و82 ودعائم الإسلام ج1 ص376، وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص184 ومستدرك الوسائل ج2 ص260 والبحار ج97 ص34 وفي هامشه عن: نوادر الترمذي ص34. وراجع: المنتقى ج2 ص816 عن الترمذي، وأبي داود، وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص242 وكنز العمال ج4 ص236 عن: الطبراني، والبيهقي، وأبي داود، والترمذي، والضياء، عن سمرة، وجرير.. والوسائل ج11 ص76.

(3) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242 والتهذيب ج6 ص152 =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 102/

وحسب نقل الجصاص عنه (صلى الله عليه وآله): «من أقام مع المشركين، فقد برئت منه الذمة، أو قال: لا ذمة له».

قال ابن عائشة: «هو الرجل يسلم، فيقيم معهم، فَيُغْزَوْن(1)، فإن أصيب، فلا دية له، لقوله (عليه السلام): فقد برئت منه الذمة»(2).

وفي بعض النصوص لم يقيد بكون الدار دار المشركين، بل عبر بدار الحرب، فقال: لا ينزل دار الحرب إلا فاسق، برئت منه الذمة(3).

قال الجصاص: «وقوله: أنا بريء منه، يدل على أن لا قيمة لدمه، كاهل الحرب الذي لا ذمة لهم..»(4).

وقد حاول الجصاص: أن يستدل لذلك بدليل اجتهادي وبآية قرآنية رآها تدل على ذلك أيضاً، فقال:

«.. فلما لم يوجب الله تعالى له ديةً قبل الهجرة، لا

ـــــــــــــــ

=والكافي ج5 ص43 والوسائل ج11 ص76 ودعائم الإسلام ج1 ص376.

(1) الظاهر: أنها مبنية للمجهول، ويحتمل خلافه، ولكنه ضعيف، لأن الكلام في إصابته الناشئة عن إقامته في دار الشرك.

(2) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242.

(3) الأشعثيات ص82 ومستدرك الوسائل ج2 ص260. وراجع: السنن الكبرى ج9 ص3 وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص242 والدر المنثور ج2 ص194 عن ابن المنذر.

(4) أحكام القرآن ج2 ص242.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفح103/

للمهاجرين ولا لغيرهم، علمنا: أنه كان مبقى على حكم الحرب، لا قيمة لدمه، وقوله تعالى: {فإن كان من قوم عدوٍ لكم} يفيد: أنه ما لم يهاجر، فهو من أهل دار الحرب، باق على حكمه الأول، في أن لا قيمة لدمه، وإن كان دمه محظوراً، إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم، وإن لم يكن بينه وبينهم رحم، بعد أن يجمعهم في الوطن بلد، أو قرية، أو صقع، فنسبه الله إليهم بعد الإسلام، إذ كاهن من أهل ديارهم، ودلّ بذلك على أن لا قيمة لدمه..»(1).

فإذا صح ما ذكره الجصاص، فلا ينحصر ذلك بمن أسلم في دار الشرك أو الكفر، فإن من يقيم في دار البغاة على اهل الحق والعدل، المحاربين لهم يصدق عليهم: أنه من قومٍ عدو لكم، أي عدوٍ لأهل العدل والحق، لأنه ينسب إلى ذلك العدوّ بالبلد، أو القرية أو الصقع، وإن لم يكن له معهم رحم.. فينبغي أن يشمله ذلك الحكم أيضاً.. ولاسيما بعد امره بمنابذة البغاة، وتركهم، والهجرة عن ديارهم، وبعد تحذيره من مغبة الاستمرار في الإقامة معهم، فضلاً عن معاونتهم..

هذا.. وقد عاد الجصاص أخيراً ليذكّر بأن الذي لم يهاجر من دار الحرب، وإن كان محظور الدم، لكنه لا قيمة لدمه، وأجروه أصحابنا [على حد تعبيره] مجرى الحربي في

ـــــــــــــــ

(1) أحكام القرآن ج2 ص243.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 104/

إسقاط الضمان على متلف ماله، لأن دمه أعظم من حرمة ماله(1)..

أما الحسن بن صالح، فقد أغرب وأغرق كثيراً حين زاد على ما تقدم فقال: «من أقام في أرض العدو، وان انتحل الإسلام، وهو يقدر على التحول إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي، فأقام ببلادهم، وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم، يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب، في ماله ونفسه..»

وقال الحسن: «إذا لحق الرجل بدار الحرب، ولم يرتدعن الإسلام، فهو مرتد بتركه دار الإسلام»(2).

ونحن لا نستطيع أن نوافق على هذا الكلام الأخير بأي وجه، وكلام الجصاص هو الأولى بالاعتبار، والأوفق بالأصول والمعايير الإسلامية، لاسيما ما تقدم من أنه (صلى الله عليه وآله) قد أعطى نصف العقل لذوي الذين أظهروا الإسلام، فلم يُسْمَعْ منهم، وقُتِلوا من بني خثعم.. كما أن العلماء قد أوجبواو الكفارة في المسلم الأسير أو التاجر، الذي يقتل في دار الحرب أثناء التحام القتال، حسبما تقدم، وإن لم يحكموا بالدية.. وحملوا إعطاء نصف العقل لنبي خثعم على التبرع منه (صلى الله عليه وآله) أو الشك في كون دارهم دار حرب(3).

ـــــــــــــــ

(1) أحكام القرآن ج2 ص244.

(2) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص241 وراجع الدر المنثور ج2 ص194.

(3) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 105/

ومهما يكن من أمر، فإننا نستخلص من الروايات الآنفة الذكر، ومن غيرها: أن المسلم الذي يقيم في دار الحرب، يكون بعمله هذا قد رضي بتحمل كل التبعات الناشئة عن ذلك، والمترتبة عليه، لاسيما بعد التحذير الدائم والمتكرر..

نعم.. يفترض باهل الحق والعدل ـ أن يتجنبوا الإضرار به ما أمكنهم، إلا إن كان الإسلام والمسلمون في خطر داهم وأكيد، يحتم عليهم استعمال الوسائل الرادعة، حيث لا يمكن تجنب الخطر بدونها، وذلك وفقاً لأحكام العقل، وانسجاماً مع مقتضيات الفطرة.

وأخيراً فإننا لو غضضنا النظر عن كل ما تقدم، نقول: إنه إذا كان مقابلة البغاة بالمثل، ولو بضرب مدنهم بعد التحذير المتكرر من شأنها أن تقلل من حجم الخسائر التي يمنى بها أهل الحق والعدل فتجعل الخسائر تقل من خمسين إلى عشرة مثلاً.. فإن العقل ـ كالشرع ـ يلزم بهذه المقابلة حقناً للدماء، وحفاظاً على المؤمنين، وتقليل خسائرهم إلى أدنى حدٍ ممكن، كما هو معلوم لدى كل أحد..

خيال زائف:

هذا.. وقد يحلو للبعض أن يتخيل: أن المقابلة بالمثل مع البغاة، وضرب مدنهم التي يسيطرون عليها، حيث لا يمكن دفعهم إلا بذلك.. يكون من قبيل ما لو دار الأمر ـ بين أن يقتل العدو عشرة أحدهم زيد مثلاً، أو أن نسلم زيداً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 106/

للعدو ليقتله وحده ـ، أو نقتل نحن زيداً، ونلقي إليهم. بجثته.. ولا ريب في عدم صحة ذلك، وعليه فضرب المدن التي يحكمها البغاة وقتل من لا يقاتل فيها وهو معصوم الدم أيضاً، من أجل دفع شر العدو وحتى لا يقتل أضعاف ذلك منا، يكون من هذا القبيل.

كما أن هذا البعض يقول: أن التزاحم إذا كان بين الاحتفاظ بالسلطة وبين قتل المسلمين الذين يعيشون مع البغاة، فلا ريب في أن حفظ دماء المسلمين مقدم على ذلك.

ولكنه ـ كما ترى ـ كلام غير سليم..

فأولاً: إن التزاحم ليس بين الاحتفاظ بالسلطة، وبين قتل المسلمين، بل والقضية هي قضية الدفاع عن النفس ضد المعتدي، وهو واجب بحكم العقل والشرع. وليس تترس هذا العدو بالمسلمين، إلا من أجل أنه يريد بذلك أن يسلب منا القدرة على الدفاع. وقد قدمنا: أن حرمة قتل المسلم ليست مطلقة، وإنما هي في صورة عدم التترس به من قبل العدو، حيث يتوقف دفع العدو، وإحراز النصر عليه، على ذلك..

وثانياً: من الذي يستطيع القطع بإصابة غير البغاة وأعوانهم والمدافعين عنهم حين ضرب المدن التي يتواجدون فيها، فإن ذلك لا يزيد عن أن يكون احتمالاً، أو ظناً..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 107/

وبعد التحذير والإنذار، وطلب الابتعاد عن مواطن الخطر، لا يبقى محذور في ذلك، ولاسيما مع توقف دفع العدو، وحفظ كيان الإسلام والمسلمين عليه..

ومع إجبار العدو للناس على لزوم أماكنهم، والتواجد في مواطن الخطر، فإنه يكون من قبيل تترس المشرك بالمسلم، الذي تقدم حكمه..

وثالثاً: إنه بعد قيام النظام الإسلامي وثباته، فإن أية فئة تريد إسقاط هذا النظام، ومواجهته بالحرب، لابد من ردعها، والوقوف في وجهها، كما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام).. إلا أن يكون ذلك موجباً لتدمير المسلمين وإبادتهم، ولحوق الضرر بالإسلام نفسه.

ورابعاً: قد عرفنا فيما سبق: أن الكلام هنا ليس في الواحد الشخصي، والعدو لا يندفع بما ذكر، فلا يقاس بدفع زيد إليهم ليقتلوه.. وإنما هو في الواحد المجموعي، الذي يتناول كل من يمد يد العون للعدو، ويشد من أزره، ويقوى من سلطانه من أجل أن لا يكون إسلام ولا دين. ولو لم يكن مشتركاً بالقتال فعلاً، فلا يصح قياسه على الواحد الشخصي..

كما ان الضرر الذي يلحق بالمسلمين وبالإسلام بسبب عدم مواجهة عدوهم أعظم بكثير من الضرر الذي يلحق بهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 108/

بهم، لو أنهم واجهوه بالحرب، ودافعوا عن حقهم وعن دينهم وإسلامهم.. وإلا لبطلت فلسفة الجهاد، وانتفى من الأساس، وذلك خلاف ما علم ضرورة من الدين.. وقد تقدمت في أوائل هذا البحث عبارة الجصاص في هذا المجال.

هذا كله.. عدا عما قدمناه، من لزوم الهجرة من بلاد العدو، وحيث لا يمكن إقامة شعائر الدين، ولا يفرق في ذلك بين ما لو كان العدو من البغاة، أو من غيرهم..

علي (عليه السلام) ومبدأ المقابلة بالمثل في صفين:

وبعد.. فلعله يجول في خاطر البعض اعتراض على مبدأ المقابلة بالمثل، وهو:

أن أمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يعمل بهذه القاعدة في صفين، فلم يمنع أهل الشام من الماء، كما صنعوا هم معه(1)..

بل إنه لما استردّ أصحابه الماء، وطردوا أهل الشام عنه،

ـــــــــــــــ

(1) صفين للمنقري ج161 حتى ص193.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 109/

قال معاوية لعمرو بن العاص: ما ظنك بعلي؟

فقال: ظني: أنه لا يستحل منك ما استحللت منه، وأن الذي جاء له غير الماء(1).

ولكن هذا الاعتراض غير وارد، لعدة أمور، منعته (عليه السلام) من العمل بمبدأ المقابلة بالمثل، وهي:

إن قضية استيلاء معاوية على الماء قد حصلت في أول وصوله عليه الصلاة والسلام إلى المنطقة، ولم يكن قد أقام حجته عليه وعلى من معه بعد، فإنه (عليه السلام)، كان لا يباشر الحرب حتى يحتج على خصمه، ويوضح له ولغيره الحق، وذلك معروف عنه ومشهور، ولا جهله أحد..

إنه (عليه السلام) لم يكن ليبتدئهم بالحرب، حتى يبدؤوه هم بها أولاً.. وقضية منع الماء قد انتهت، ويبقى القتال المرتبط بأمر مصير الأمة وحكومة الحق والعدل، ولم يبتدئ معاوية بعد بالقتال، على هذه الناحية: ولا يريد (عليه السلام): أن يوجد ـ ولو عن طريق المعاملة بالمثل ـ مبرراً لمعاوية لمواصلة حرب تفقد مبرراتها الحقيقة لتصب في اتجاه انحرافي، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على القضية، إن لم يكن سبباً في ضياعها.

ـــــــــــــــ

(1) صفين للمنقري ص86.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 110/

إن ما يريده (عليه السلام) يمكنه الحصول عليه، من دون أن يستفيد من حق المقابلة بالمثل، فإن المقابلة بالمثل ليست من الواجبات مادام يمكن الحصول على المطلوب بدونها، وإنما هي أمر جائز..

إنه (عليه السلام)، كان لا يريد أن تشغله، أو يشغل نفسه بهذه الأمور الصغيرة، والهامشية، التي ربما يكون التوجه إليها ـ أحياناً ـ سبباً في تضييع الهدف الكبير، أو تأخير الوصول إليه، إلا بعد تضحيات كبيرة.. وقد أشار (عليه السلام) إلى هذا في قوله الآتي: «إن الخطب أعظم من منع الماء..».

كما أن العفو والتفضل في موارد كهذه، من شأنه أن يخدم الهدف الكبير، ويفهم الناس الفرق بين ما يرمي إليه علي (عليه السلام)، وما يرمي إليه معاوية في مجال الدعوة، تماماً كما كان الحال بالنسبة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وعفوه عن المنافقين، حتى عن ابن أبي، وكذلك إرساله للمستضعفين في مكة خمس مئة دينار لتورزع عليهم في أيام الجماعة(1).

لأن هذا العفو يخدم الدعوة، التي كانت في بداياتها

ـــــــــــــــ

(1) آثار الحرب في الفقه الإسلامي للزحيلي ص522 عن المبسوط ج10 ص92 وعن شرح السير الكبير ج1 ص70.

.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 111/

ولعل منع علي (عليه السلام) الماء مقابلة لهم بالمثل ـ وإن كان له الحق في ذلك ـ يوجب أن لا يفرق الأعداء بين علي (عليه السلام) ومعاوية.. ولعل ثمة مصالح اخرى لسنا هنا في صدد التعرف عليها.. ولكننا نقول: إن ما تقدم يكفي لأن يقف (عليه السلام) موقفه ذاك، ولا يختار إلا ذلك..

بل لقد ورد: أنه (عليه السلام) هو نفسه قد صرح بمبدأ المقابلة بالمثل وأمضاه في نفس هذه الواقعة كما صرح بغيره من النقاط المذكورة آنفاً..

فقد جاء أنه أرسل صعصعة بن صوحان إلى معاوية، وأوصاه أن يقول له:

«إنا سرنا مسيرنا هذا، وأنا أكره قتالكم قبل الاعتذار إليكم، وإنك قد قدمت بخيلك، فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا. ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك، ونحتج عليك، وهذه أخرى، قد فعلتموها، حتى حلتم بين الناس، وبين الماء، فخل بينهم وبينه، حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم.

وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له، وندع الناس يقتتلون على الماء، حتى يكون الغالب هو الشارب، فعلنا..»(1).

ـــــــــــــــ

(1) صفين ص161 وراجع: الفتوح لابن أعثم ج3 ص1و2 والأخبار الطوال جص168 والكامل لابن الأثير ج3 ص284 وتاريخ الطبري ج4 ص571/572.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 112/

فنجده (عليه السلام) يشير بوضوح إلى ما قدمناه من أنه (عليه السلام) لابد وأن يحتج عليهم قبل أن يقاتلهم.. كما أن عبارته الأخيرة تكاد تكون صريحة بأن لأصحابه (عليه السلام) أن يمنعوهم من الشرب، إذا غلبوا على الماء، لأن الغالب هو الذي يشرب، دون المغلوب..

كما أنه (عليه السلام) بعد استرجاع الماء من يد أهل الشام بعث إلى معاوية ما يفيد: أنه (عليه السلام) إنما لم يمنعهم الماء بعد أن غلب عليه تكرماً وتفضلاً منه، ولأنه لم ير أن يكافيه بصنعه، فبعث إليه:

«أنا لا نكافيك بصنعك، هلم إلى الماء، فنحن وأنتم فيه سواء. وقال علي (عليه السلام) لأصحابه: أيها الناس، إن الخطب أعظم من منع الناس..»(1).

كما أنه (عليه السلام) يجيب أصحابه، حين أصروا عليه: أن يمنعهم من الماء كما منعوه، وأن يقتلهم بسيوف العطش، ويأخذهم قبضاً بالأيدي بلا حاجة إلى الحرب ـ يجيبهم، فيقول: «لا والله، لا أكافؤهم بمثل فعلهم، أفسحوا لهم

ـــــــــــــــ

(1) صفين ص193وراجع: الفتوح لابن أعثم ج3 ص23 حيث ذكر قول علي (عليه السلام) لأصحابه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 112/

عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك»(1).

خلاصة أخيرة:

وفي محاولة لإجمال ما تقدم نقول: قد عرفنا مما سبق:

أن الدفاع عن النفس، واجب بحكم العقل والشرع..

وأن حفظ الإسلام والمسلمين، واجب عقلاً وشرعاً، وأنه يجب دفع كل خطر أو ضرر أساسي يتعرضان له..

وأن ردع الباغي، والمحارب، وحفظ الإسلام والمسلمين، قد يتوقف على المقابلة بالمثل، وعلى ضرب البلاد التي تقع تحت سيطرة ذلك العدو، بما يعم إتلافه.

وأنه قد يكون في تلك البلاد ناس من أسرى المسلمين والتجار، وغيرهم، فقد يلحق بهم شيء من الضرر.

وأن ذلك ليس قطيعاً في أحيان كثيرة، ولكنه محتمل أو مظنون..

وأن التحذير والإنذار يمكّنهم من التحرز من هذا الضرر المحتمل..

ـــــــــــــــ

(1) شرح النهج للمعتزلي ج1 ص24.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 114/

وأنه إذا منعهم العدو من التحرز، وأقامهم كرهاً، فهو من قبيل التترس بهم الذي علم حكمه مما تقدم..

وأنه قد دلت الآيات والروايات، وكذلك حكم العقل على مبدأ المقابلة بالمثل، ولاسيما إذا توقف النصر، أو ردع المعتدي على ذلك، وحيث لا يكون في ذلك ارتكاب لحرام حرمة مطلقة..

وأنه كما يجوز ضرب المعتدي، كذلك يجوز ضرب كل من يؤيده تأييداً عملياً، ويشد من أزره، ويقف إلى جانبه.

فيتضح من كل ما تقدم: أن مبدأ المقابلة بالمثل مقبول عقلاً وشرعاً، وهو حق مسلم، لا مرية فيه، ولا شبهة تعتريه..

وللمسلم الذي يدافع عن نفسه، وعن دينه: أن يمارس هذا الحق، ويستفيد منه، كلما دعت الضرورة إلى ذلك..

والحمد لله أولاً وأخيراً..

وظاهراً وباطناً..

وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

ليلة الجمعة 29 / 2 / 1408 ـ ق.

جعفر مرتضى العاملي

طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : 2014/02/06  ||  القرّاء : 12042










البحث في الموقع


  

جديد الموقع



 مسابقه کتابخوانی نبراس‌۱

 لحظات الهجوم الاول على دار الزهراء عليها السلام

 كربلاء فوق الشبهات

ملفات منوعة



 متى قتل عمر بن الخطاب؟

 الدروس الأصولية الصوتية

 اسئلة وردتنا

إحصاءات

  • الأقسام الرئيسية 12

  • الأقسام الفرعية 64

  • عدد المواضيع 696

  • التصفحات 6883137

  • المتواجدون الآن 1

  • التاريخ 19/03/2024 - 03:18





تصميم، برمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net