||   الموقع بإشرف السيد محمد مرتضى العاملي / پايگاه اينترنتى تحت اشرف سيد محمد مرتضى عاملي مي‌باشد   ||   الموقع باللغة الفارسية   ||   شرح وتفسير بعض الأحاديث..   ||   لقد تم افتتاح الموقع أمام الزوار الكرام بتاريخ: 28/جمادی الأولی/ 1435 هـ.ق 1393/01/10 هـ.ش 2014/03/30 م   ||   السلام عليكم ورحمة الله.. أهلاً وسهلا بكم في موقع سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي.. نود إعلامكم أن الموقع قيد التحديث المستمر فترقبوا المزيد يومياً..   ||  



الصفحة الرئيسية

السيرة الذاتية

أخبار النشاطات والمتابعات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

المؤلفات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الأسئلة والأجوبة

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

التوجيهات والإرشادات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الحوارات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

النتاجات العلمية والفكرية

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الدروس

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

الصور والتسجيلات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

مركز نشر وترجمة المؤلفات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

مختارات

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

مركز الطباعة والنشر

شريط الصور


  • ابن عربي سني متعصب غلاف
  • رد الشمس لعلي
  • سياسة الحرب غلاف
  • زواج المتعة
  • الولاية التشريعية
  • كربلا فوق الشبهات جديد
  • علي ويوشع
  • طريق الحق
  • توضيح الواضحات
  • دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ط ايران
  • تخطيط المدن في الإسلام
  • تفسير سورة الماعون
  • تفسير سورة الكوثر (التاريخ العربي)
  • تفسير سورة هل أتى
  • تفسير سورة الناس(التاريخ العربي)
  • تفسير سورة الكوثر
  • تفسير سورة الفاتحة (التاريخ العربي)
  • السوق في ضل الدولة الإسلامية
  • سنابل المجد
  • سلمان الفارسي في مواجهة التحدي
  • الصحيح من سيرة الإمام علي ج 3
  • الصحيح من سيرة الإمام علي
  • صفوة الصحيح فارسي
  • رد الشمس لعلي
  • كربلاء فوق الشبهات
  • اكذوبتان حول الشريف الرضي
  • منطلقات البحث العلمي
  • مختصر مفيد
  • المقابلة بالمثل
  • ميزان الحق ط 1
  • ميزان الحق (موضوعي)
  • موقف الإمام علي (عليه السلام) في الحديبية
  • المراسم والمواسم _ إيراني
  • المواسم والمراسم
  • مقالات ودراسات
  • مأساة الزهراء غلاف
  • مأساة الزهراء مجلد
  • لماذا كتاب مأساة الزهراء (عليها السلام)؟!
  • لست بفوق أن أخطئ
  •  خسائر الحرب وتعويضاتها
  • علي عليه السلام والخوارج
  • ظاهرة القارونية
  • كربلاء فوق الشبهات
  • حقوق الحيوان
  • الحاخام المهزوم
  • الحياة السياسية للإمام الجواد
  • الحياة السياسية للإمام الحسن ع سيرة
  • الحياة السياسية للإمام الحسن ع
  • الحياة السياسية للإمام الحسن ع ايران
  • الحياة السياسية للإمام الرضا ع
  • إدارة الحرمين الشريفين
  • ابن عباس ـ ايران
  • ابن عربي سني متعصب
  • ابن عباس وأموال البصرة
  • دراسة في علامات الظهور مجلد
  • بلغة الآمل
  • براءة آدم (ع)
  • بنات النبي أم ربائبه غلاف
  • بنات النبي أم ربائبه
  • عرفت معنى الشفاعة
  • الصحيح1
  • الصحيح 2
  • الصحيح8
  • الجزيرة الخضراء
  • الجزيرة الخضراء
  • الصحيح
  • الغدير والمعارضون لبنان
  • الغدير والمعارضون
  • الأداب الطيبة المركز
  • الآداب الطبية في الإسلام
  • البنات ربائب
  • علامات الظهور
  • علامات الظهور قديم
  • أحيو امرنا
  • أهل البيت في آية التطهير
  • افلا تذكرون
  • ابوذر
  •  بنات النبي (صلى الله عليه وآله) أم ربائبه؟!
  • الإمام علي والنبي يوشع
  • براءة آدم (ع)
  • الغدير والمعارضون
  • الإمام علي والخوارج
  • منطلقات البحت العلمي
  • مأساة الزهراء عليها السلام

خدمات

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إتصل بنا





  • القسم الرئيسي : المؤلفات .

        • القسم الفرعي : الكتب .

              • الموضوع : الحياة السياسية للإمام الجواد (عليه السلام). .

الحياة السياسية للإمام الجواد (عليه السلام).

 

إسم الکتاب: الحياة السياسية للإمام الجواد

إسم المؤلف: السيد جعفر مرتضى العاملي

الناشر: المركز الإسلامي للدراسات

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 1/

الحياة السياسية
للإمام الجواد [عليه السلام]
نبذة يسيرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 2/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 3/

السيد جعفر مرتضى العاملي
الحياة السياسية
للإمام الجواد [عليه السلام]
نبذة يسيرة
دراسة وتحليل
المركز الإسلامي للدراسات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 4/

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
1405 هـ. / 1985 م.
المركز الإسلامي للدراسات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 5/

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدين.

وبعد..

فهذه نبذة قصيرة، عن الحياة السياسة للإمام الجواد [عليه السلام]، لم أقصد فيها إلى استيعاب كل ما يرتبط بهذا الموضوع؛ فإن ذلك يستدعي دراسة شاملة، تستوعب الوضع السياسي، والاجتماعي، والفكري، الذي عايشه [صلوات الله وسلامه عليه]، وتعامل معه، وسجل موقفاً تجاهه. كما أن دراسة مستوعبة كهذه تفرض على الباحث أن يسلط الأضواء الكاشفة على سائر كلماته ومواقفه [عليه الصلاة والسلام]، وعلاقاته بأصحابه وشيعته، وكيفية تعامله معهم، لاسيما فيما يرتبط بتنظيم أمورهم، ومعالجته لمشاكلهم فيما بينهم، فيما يرتبط بالمهمات الموكلة إليهم..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 6/

نعم لابد من تسليط الأضواء الكاشفة على كل ذلك وسواه، وفهمهم بشمولية وعمق، يتناسب مع حجم الدور الذي أخذ [عليه الصلاة والسلام] على عاتقه القيام به، في فترة متيمزة، تعتبر من أهم الفترات، التي عايشها الأئمة [عليهم السلام]، سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً.

ولكنني توخيت من هذا البحث الإشارة الموجزة إلى أمور معينة، رأيت فيها من الحساسية والأهمية، ما يجعلها ـ فيما أرى ـ تستطيع أن تكون مدخلاً مناسباً لدراسة أوسع، وأشمل، وأعمق، وأتم للحياة السياسية لهذا الإمام العظيم، الإمام محمد التقي الجواد عليه التحية والصلاة والسلام..

وملاحظة أخيرة هنا، وهي: أن البعد العقائدي، لا ينفصل عن البعد السياسي، في مواقف الأئمة من الحكام، ومواقف الحكام من الأئمة [عليهم السلام]، بل هما توأمان شقيقان، كل منهما يؤثر بالآخر، ويتأثر به..

ولأجل ذلك تجدنا مضطرين لطرح قضية الإمامة على أنها المحور والأساس في الموقف السياسي منهم ولهم [عليهم الصلاة والسلام]، كما أن الموقف السياسي لهم ومنهم، يستبطن في مضمونه وفي واقعه قضية الإمامة، ويتفاعل معها..

وأخيراً.. فإنني أرجح لمن يريد أن يطالع هذا البحث، إذا أراد التوسع في معرفة الظروف التي تميز تلك الفترة، أن يراجع أيضاً كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام]، فعساه يكون نافعاً في هذا المجال.. والله أسأل أن ينفع بما كتبت، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويجعل ثوابه لشهداء الإسلام الأبرار في إيران الإسلام والثورة، وفي لبنان، وبالأخص في جبل عامل الجريح، وغير ذلك من بقاع العالم الإسلامي،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 7/

التي تشهد هجمة شرسة، وحاقدة، من كل قوى الكفر والاستكبار العالمي البغيض.

والله هو الموفق والمسدد

وهو المعين والهادي..

إيران ـ قم المشرفة: في 29/جمادى الأولى/1405 .ق.

1/11/1363

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 8/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تمهيد

التخطيط.. في خدمة الرسالة:

بعد أن ارتكب الحكم الأموي البغيض جريمته النكراء، والبشعة، في حق الإمام الحسين [صلوات الله وسلامه عليه]، وأبنائه، وأهل بيته، وصحبه الأبرار، [رضوان الله تعالى عليهم أجمعين].. صعد بشكل مثير من ممارساته التصفوية، التي تستهدف خط الإمامة الإلهية، المتمثل في أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة [عليهم الصلاة والسلام].. وتستهدف كذلك كل العاملين في هذا الخط، أو المتعاطفين معه، أياً كانوا، وحيثما وجدوا.. وقد استطاع الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام]، الذي واجه الردة عن الخط الإسلامي الصحيح على أوسع نطاق، حيث لم يكن يعترف بإمامته في وقت ما سوى ثلاثة أشخاص، حسبما روي(1) ـ استطاع ـ أن يبعث النور، ويزرع بذرة الخير من جديد، وأن يتابع المسيرة، من خلال تركيز خط الإمامة في الامة، حتى تمكن أخيراً من تهيئة الظروف والمناخات الملائمة لقيام نهضة دينية، علمية، وثقافية، وتربوية على نطاق واسع، من شأنها: أن تعرف الناس، كل الناس على الإسلام الحق، وعلى التعاليم الإلهية

ـــــــــــــــ

(1) هم: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم [ولعل الصحيح: حكيم بن جبير] ثم إن الناس لحقوا وكثروا [راجع: ترجمة هؤلاء في كتب الرجال والتراجم].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 10/

الصحيحة، التي أريد لها أن تبقى رهن الإبهام والغموض، ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون..

وهكذا.. فقد جاءت مدرسة الإمامين: الباقر والصادق عليهما الصلاة والسلام، لتكون الثمار الجنية، والنتيجة المرضية للجهود الجبارة، التي بذلها الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام] في هذا السبيل من قبل، وروتها وغذتها دماء أبي الشهداء، وصحبه الأبرار في كربلاء(1).

وقد اتجهت هذه النهضة العلمية الشاملة نحو التركيز على القواعد القرآنية الثلاث، التي أشارت إليها الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(2). وهذه القواعد الثلاث هي:

1 ـ تعليم أحكام الدين، ونشر معارفه، عملاً بقوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ).

2 ـ العمل على إثارة دفائن العقول، والابتعاد عن الجمود، وإعطاء العقل دوره وأصالته، عملاً بقوله تعالى: (وَالْحِكْمَةَ).

3 ـ التربية الروحية، وتصفية النفوس، وتهذيب الأخلاق، عملاً بقوله تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ) هذا كله.. مع الاهتمام بتعميق روح التعبد

ـــــــــــــــ

(1) راجع فيما تقدم، من أجل التعرف على جانب من الدور الذي قام به الإمام السجاد [عليه الصلاة والسلام].. مقالاً لنا بعنوان: «الإمام السجاد باعث الإسلام من جديد» في كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج1.

(2) الجمعة. الآية رقم2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 11/

والخضوع لأوامر الله تعالى، بهدف حفظ الدين عن التحريف والتأويل غير المسؤول(1).

وكان الأئمة [صلوات الله وسلامه عليهم] يهدفون من وراء بعث ذلك النهضة إلى تهيئة الأرضية المناسبة لإقامة حكم الله سبحانه على الأرض.. فربوا [عليهم السلام] الكوادر الواعية، والجيل المنفتح والمسؤول.. حتى أصبحت تلك الطليعة المثقفة والواعية، التي رباها الإمامان الباقر والصادق [عليهما السلام] تمثل التيار العام، الذي يهيمن على مختلف القطاعات تقريباً في الدولة العباسية، وقد استمر هذا المد الثقافي العارم حتى عهد الإمام الرضا [عليه السلام]، وبعده..

وكانوا [عليهم السلام] يهتمون بأن يبقى عملهم ونشاطهم هذا محتفظاً بسريته التامة، وكانوا يشددون على شيعتهم في النهي عن الإذاعة، ويعتبرونها مروقاً من الدين تارة، وقتلاً عمداً لنفس الإمام [عليه السلام]، أخرى، وسبباً للبلاء والابتلاء بحر الحديد، وبالسجون، ثالثة. إلى غير ذلك مما يجده المتتبع ويرى فيه الحدة الملفتة للنظر في الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا المجال(2).

وقد وردت معظم هذه الأخبار عن الإمام الصادق [عليه السلام]، وبعضها عن الإمام الباقر [صلوات الله وسلامه عليه] وما سوى ذلك فهو نزر قليل..

ـــــــــــــــ

(1) قد أشار إلى ما تقدم سماحة الأخ المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي حفظه الله تعالى.

(2) راجع في هذه الأحاديث كثيرة جداً: البحار ج72 ص68 حتى89 وج2 ص74و75و79 وسفينة البحار ج1 ص490و491 وقصار الجمل ج1 ص225 ـ 227.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 12/

الإذاعة.. وآثارها:

ولكن عدم قدرة الشيعة على الكتمان، وإذاعتهم لأمرهم، وطرحهم لقضاياهم بشكل علني وسافر، ليس فقط قد ضيع الفرصة عليهم وعلى الأئمة [عليهم السلام].. وإنما هو قد نبه الخلفاء العباسيين لحقيقة ما يجري، وجعلهم يدركون إلى حدٍ ما عمق تأثير فكر الأئمة [عليهم الصلاة والسلام] في الناس.

وليس فقط قد بدأوا يرصدون حركات الشيعة، وبالأخص أئمتهم.. وإنما تعرض هؤلاء الأئمة، وكثير من شيعتهم، لمختلف البلايا والمحن على أيديهم وضيّقوا على الإمام الصادق كثيراً وزجوا بالإمام الكاظم [عليه السلام] في سجونهم بعد ذلك «وبدأوا يقيمون مجالس البحث والمناظرة(1) ويشجعون عليها من أجل التعرف على مدى تأثير الأفكار الشيعية في الناس عموماً، وكانوا كلما وقفوا على نسبة العمق في تأثيرها انعكس ذلك على معاملتهم للإمام الكاظم [عليه الصلاة والسلام] في سجونهم، وبقي [عليه السلام] ينقل من سجن إلى سجن ومن بلاء إلى بلاء.. وفي بعض النصوص نجد: أنه [عليه الصلاة والسلام] ينهى هشاماً عن البحث والمناظرة؛ لأن الأمر شديد(2)».

ويكفي أن نذكر في مجال التدليل على مدى خوفهم من تأثير فكر الإمام [عليه السلام]: أننا نجد يحيى بن خالد يقول للرشيد: إن الإمام الكاظم [عليه السلام] ـ السجين والمراقب منهم!! ـ قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم(3)!!

ـــــــــــــــ

(1) راجع: ترجمة هشام بن الحكم مثلاً، في قاموس الرجال ج9.

(2) راجع: قاموس الرجال، ج9 ترجمة هشام. والفقرات المتقدمة أشار إليها المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي حفظه الله تعالى.

(3) الغيبة للشيخ الطوسي ص20، والبحار للعلامة المجلسي رحمه الله تعالى..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 13/

موازنة:

وإذا كان الإمام الصادق والباقر عليهما الصلاة والسلام قد اهتما بطرح المعارف الإسلامية على النطاق الأوسع والأشمل، ولاسيما في المجال الفقهي، وتعريف الناس أكبر قدر ممكن من الأحكام الشرعية، والمعارف الإلهية.. فإننا نجد الإمام الرضا [صلوات الله وسلامه عليه] يجعل أكبر همه، ومعظم جهده منصرفاً إلى التأكيد على الجانب العقيدي، وتركيز المعايير التي من شأنها أن تحفظ الخط، وتعطيه المناعة الكافية ضد أي انحراف، أو محاولة استغلال واستثمار غير مسؤول، من قبل أصحاب المنافع والأهواء.

الأئمة [عليهم السلام].. في الأمة:

ومهما يكن من أمر.. فإن مما لا ريب فيه هو: أن خط الأئمة [عليهم السلام] ـ رغم جهود السلطة لضربه، وتعمية السبل إليه ـ كان يزداد قوة وعمقاً يوماً عن يوم، ولاسيما في أوساط الطبقة المثقفة، وفي قطاع العلماء وأرباب الفكر، وكان الأئمة [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين] هم محط الأنظار، ومهوى الأفئدة، ومنتجع الأفكار، ويتمتعون بالاحترام والتقدير، من مختلف الفئات، ويقر الجميع بباسق فضلهم، وعظيم تقواهم، وفائق قدسهم وطهارتهم..

وليس ما جرى للإمام الرضا [عليه السلام] في نيسابور إلا واحداً من الشواهد الكثيرة، المعبرة عن مدى احترام الناس، وتقديسهم للأئمة [عليهم الصلاة والسلام]..

فنجد النص التاريخي يقول: إنه [عليه السلام] عندما دخل نيسابور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 14/

تعرض له الحافظان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم ما لا يحصى. وتضرعوا إليه أن يريهم وجهه؛ فأقر عيون الخلائق بطلعته، والناس على طبقاتهم قيام كلهم. وكانوا بين صارخ، وباك، وممزق ثوبه، ومتمرغ في التراب، ومقبّل لحافر بغلته، ومطول عنقه إلى مظلة المهد، إلى أن انتصف النهار، وجرت الدموع كالأنهار، وصاحت الأئمة:

«معاشر الناس، أنصتوا، وعوا. ولا تؤذوا رسول الله [صلى الله عليه وآله] في عترته» وبعد أن أملى عليهم الحديث الشريف: «لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي الخ».

عد أهل المحابر والدوى؛ فأنافوا على العشرين ألفاً(1) والشواهد التي تدخل في هذا السياق كثيرة، لا مجال لاستقصائها.. والذي يظهر من سير الأحداث هو أن الأئمة [عليهم السلام] بعد الإمام الكاظم [صلوات الله وسلامه عليه]، قد بلغ من عظمتهم في نفوس الناس: أن وجد الخلفاء أنفسهم غير قادرين على إيصال الأذى إليهم بصورة علنية وسافرة، تثير عواطف الناس، وتجرح مشاعرهم، كما أنهم من الجهة الأخرى لم يكن يمكنهم أن يتركوهم وشانهم، يتصرفون بحرية تامة، وكما يشاءون، وحسبما يريدون(2).

ـــــــــــــــ

(1) راجع: عيون أخبار الرضا ج2 ص135. ومجلة مدينة العلم، السنة الأولى ص415 عن صاحب تاريخ النيسابور، وعن المناوي في شرح الجامع الصغير. والصواعق المحرقة ص202، وينابيع المودة ص364و385، والبحار ج49 ص123و126و127 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص240 ونور الأبصار ص154 وكشف الغمة ج3 ص98، ومسند الإمام الرضا ج1 ص43،44 عن التوحيد، ومعاني الأخبار وراجع: نزهة المجالس ج1 ص22، وحلية الاولياء، ج3 ص192 وأمالي الصدوق ص208و209.

(2) بعض ما تقدم أشار إليه العلامة الأحمدي حفظه الله..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 15/

ولأجل ذلك.. فقد وجدوا أنفسهم مضطرين لانتهاج سياسة جديدة، تجاههم [عليهم السلام].. وما قضية لعبة ولاية العهد للإمام الرضا [عليه السلام] من قبل المأمون.. ثم موقفه من الإمام الجواد.. وبعد ذلك موقف المتوكل العباسي، الرجل الطاغية والقوي جداً والذي كان من أشد الناس بغضاً، ونصباً لأهل البيت [عليهم السلام]، من الإمام الهادي [صلوات الله وسلامه عليه]، حيث استقدمه إلى سامراء، ليجعله على مقربة منه؛ فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه(1)..

ليس كل ذلك.. وسواه مما يدخل في هذا السياق إلا شاهد صدق، ودليل حق على ما نقول..

سؤال يطرح نفسه:

وأما لماذا لم يتحرك الأئمة [عليهم السلام] باتجاه تسلم زمام الحكم والسلطان بالفعل، وبصورة نهائية، وحاسمة، مادام أن الناس عموماً، إما في خطهم، أو على الأقل ليس لديهم حساسية تجاه ذلك الخط، ولا يأبون عن السير فيه، أو التعامل معه.. ولاسيما بملاحظة: أن الطليعة المثقفة والواعية، التي يهيمن فكرها على مختلف القطاعات في الأمة.. كانت مدينة لهم [عليهم السلام].. في فكرها، وفي بناء شخصيتها وبلورة خصائصها.. حسبما تقدم.. أما لماذا لم يكن ذلك.. أو حتى لم نجد فيها بأيدينا بوادر جدية من قبلهم [عليهم السلام] في هذا الاتجاه.. فإن الإجابة على هذا السؤال تحتاج

ـــــــــــــــ

(1) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص226، والإرشاد للمفيد ص314، والبحار ج50 ص203.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 16/

كثير من الدقة والعناية في درس الواقع الذي عايشه الأئمة [عليهم السلام]، وتعاملوا معه، وسجلوا موقفاً تجاهه.. ولعلنا غير قادرين على توفير الحد الأدنى من ذلك في هذه العجالة على الأقل ولكن لا محيص لنا هنا عن الإلماح إلى الإجابة، أو إلى مدخل مناسب لها يعطي الباحث تصوراً مهما كان محدوداً عن واقع تلك الفترة، وعن مدى إمكانية القيام بحركة حاسمة في هذا الاتجاه فنقول:

الثورة قبل أوانها خسارة ولو نجحت:

لقد ذكرنا في بحث لنا حول: «نقش الخواتيم لدى الأئمة [عليهم السلام]» ما لعله يفيد هنا، في مقام الإجابة على السؤال الآنف الذكر، ولذا.. فلسوف نكتفي بإيراد هذا النص، من دون زيادة أو نقصان.. إلى على سبيل التوضيح، أو التصحيح..

فقد ذكرنا في ذلك البحث: أنه وإن تمكن الأئمة [عليهم السلام]، من تربية العديد من العلماء، وتخريج الكثيرين من جهابذة العلم، وأفذاذ الرجال.. وإن..

«هذا الأمر، وإن كان ينعكس على كافة القطاعات في الساحة الإسلامية، وكان له أثر لا ينكر في التكوين الفكري، والعاطفي في الناس عموماً..

ولكن هذا الأثر لم يتعد بعده العاطفي، والفكري الجاف، ولم يصل إلى درجة التكوين العقائدي الراسخ، الذي من شانه أن يجعل الفكر الحي، يتفاعل مع العاطفة الصادقة على داخل الإنسان، ليكون وجداناً حياً، من شانه أن يتحول إلى موقف رسالي على صعيد الحركة والعمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 17/

وعلى هذا.. فلم يكن يمكن الاعتماد على هذا الوعي، ولا على تلك العاطفة في القيام بحركة تغييرية جذرية وحاسمة، ولاسيما بملاحظة ما كان يهيمن على الناس عموماً من ميل قوي للراحة وللحياة المادية، ومن استسلام لحياة الترف واللذة، والتي تستتبع الضعف والركود، والخوف من الإقدام على أي حركة تغييرية تستهدف ما ألفوه واعتادوه..

ولو فرض أنهم في غمرة هيجانهم العاطفي نجحوا في حسم الموقف لصالح الاتجاه الآخر، فإن رصيداً كهذا، فكرياً وعاطفياً وحسب، أي من دون بعد عقيدي، وفناء وجداني، لن يكون قادراً على حماية استمرار الحركة وسلامة صفائها، ولا على تحمل مسؤولياتها التغييرية التي سوف تستهدف جزءاً كبيراً من واقعهم وأنفسهم. بل سوف ترتد هذه الحركة على نفسها لتأكل أبناءها، وتنقض مبادئها، وتستأصل نبضات الحياة فيها.. وذلك لأن العاطفة سيخبو وهجها، مادام لم يعد ثمة ما يثيرها ويؤججها.. وسيصبح الفكر ركاماً جافاً وخامداً، حينما تهب عليه رياح المصالح والأهواء والشهوات؛ ولتجعل منه من ثم هشيماً تذروه الرياح، إن لم يكن استخدامه وقوداً لها، يعمل على استصلاحها، وتوجيهها، ويهيئ لها الفرصة للاستفادة منها على النحو الأكمل والأمثل.

الزيدية.. للاعتبار، لا للأسوة:

هذا كله.. لو أمكن أن تصل الحركة إلى درجة الحسم لصالح الاتجاه الآخر.. ولكنه فرض بعيد، وبعيد جداً، كما أثبتته التجارب المتكررة في اكثر من قرن من الزمن.. حيث رأينا فيه بوضوح: كيف فشلت الحركات الزيدية الكثيرة جداً، وكيف سهل القضاء عليها، حتى أصبحت في خبر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 18/

كان، حتى وكأن شيئاً لم يحدث، رغم سعة نفوذ الزيدية على مختلف الأصعدة، وفي جميع المجالات، ورغم سيطرتها التامة على الأمور، سياسياً، وإعلامياً، وثقافياً، وعاطفياً، وغير ذلك.. كما أوضحناه في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام]، فصل البيعة وأسبابها..

وما ذلك.. إلا لأن حركات الزيدية، وهي حركات سياسية بالدرجة الأولى، ولا يميزها سوى أنها تدعو إلى كل من قام بالسيف من آل محمد [صلى الله عليه وآله]، ولم يكن لها أصالة فكرية وعقائدية راسخة، تنطلق من الروح، وتنبع من الوجدان ـ هذه الحركات ـ إنما كانت تعتمد على هذا المد العاطفي الهائل، وعلى ذلك الوعي الثقافي الجاف، الذي لم يصل إلى حد مزج العاطفة بالفكر، والفكر بالوجدان، لينتج موقفاً رسالياً تخاض من أجله اللجج، وتبذل دونه المهج، بل كان يجد من العراقيل والمعوقات النابعة من داخل أنفسهم، ما يعل الاعتماد عليه اعتماداً على سراب، والتمسك به تمسكاً بما هو أوهى حتى من الطحلب..

وذلك هو ما يفسر لنا كيف انه حينما كان الناس يواجهون الأمور بجدية، ويبلغ الحزام الطبيين، يعودون إلى دنياهم، ويركنون إلى حياة السلامة والدعة، حسب تصورهم، وما ينسجم مع هوى نفوسهم.. ولا يهمهم ما سوف يحصل بعد ذلك، ولا ماذا تكون النتائج.

وإذن.. فلم يكن للأئمة [عليهم الصلاة والسلام] والحالة هذه: أن يُقدِموا على المجازفة بزجّ الأمة في صراع لن تكون نتيجته سوى الفشل الذريع، والخيبة القاتلة، في ظروف كهذه في الوقت الحاضر على الأقل.. لأن معنى ذلك هو: أن ينتهي أمرهم، وتتلاشى دعوتهم، وبسهولة ويسر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 19/

تماماً كما كان الحال بالنسبة للزيدية وأضرابهم(1)».

وإنهاء أمر الأئمة إنما يعني إنهاء أمر الإسلام والأمة، والتدمير لهما، والقضاء على كل نبضات الحركة فيهما، وذلك خطأ فاحش في السياسة، وسفه في التدبير.. وخيانة ما بعدها خيانة. وحسبنا ما ذكرناه هنا.. ولننتقل للكلام على الحياة السياسية للإمام الجواد [عليه السلام].. فـ: إلى ما يلي من صفحات..

ـــــــــــــــ

(1) راجع: نقش الخواتيم لدى الأئمة [عليهم السلام] ص38 ـ39.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 20/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 21/

الفصل الأول
زلزال وإعصار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 22/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 23/

بداية:

لقد ولد الإمام محمد التقي الجواد [عليه الصلاة والسلام] في شهر رمضان المبارك سنة 195ﻫ.ق، وتوفي سنة 220ﻫ.ق في ذي القعدة مسموماً على يد زوجته، بتحريض وأمر من المعصتم العباسي.

أما والده الإمام الرضا [عليه الصلاة والسلام]، فقد توفي سنة 203 شهيداً بالسم على يد الخليفة العباسي عبد الله المأمون..

فكان الإمام الجواد [عليه السلام]، الأول من الأئمة الاثني عشر يتولى شؤون الإمامة، ويتسلم مهام القيادة والريادة، وهو صغير السن، أي ابن ثماني سنين تقريباً..

ثم جاء بعده ولده الإمام علي الهادي [صلوات الله وسلامه عليه]، ليتولى شؤون الأمة، وهو بهذا السن أو أصغر ـ ثمان، أو ست سنوات أيضاً.. ثم يأتي بعد ذلك الإمام المهدي r ليتولى أمر الإمامة، وعمره لا يزيد على الخمس سنوات كذلك.

«فكان الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام] ـ على حد تعبير البعض ـ أول تجسيد حي للإمام، على حسب ما يقوله الشيعة بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وعلى حسب المواصفات التي وردت في الكتاب والسنة للإمام وأحواله وشؤونه، والله سبحانه هو الذي يتولى تسديده وتربيته على الدوام» انتهى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 24/

من خصائص الشيعة:

لقد امتاز الشيعة الإمامية، وبتأثير من تعليم أئمتهم الأطهار، والتزاماً بمنهج القرآن، بالاعتماد على العقل، والخضوع لقضائه، والالتزام بأحكامه في عقائدهم. وهذا الأمر.. لم يكن من الأمور العارضة، ولا هو حالة استثنائية، بالنسبة لهم. وإنما هو من الأمور المتأصلة في فكرهم، ويتخذ صفة العمق، والتجذر، والرسوخ في مختلف مناحي ثقافتهم، ومعارفهم بصورة عامة.

ويضيف المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني هنا قوله:

«وقد نبغ فيهم ومنهم كبار المتكلمين، وأرباب الفكر المبدع، والقريحة الخلاقة، من أمثال هشام بن سالم، وأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول، المعروف بمؤمن الطاق عند الشيعة، وبشيطان الطاق عند أهل السنة، وعلي بن إسماعيل الميثمي، وغيرهم، وغيرهم، ثم تلامذتهم من بعدهم..

بل إن الاعتزال الذي يعتبر متطرفاً في الاعتماد على العقل وأحكامه، إنما نشأ من أقوال أئمة الشيعة.. فإن أعظم ركنين في عقيدة الاعتزال، وهما: التوحيد. والعدل. إنما أخذا من أقوال علي أمير المؤمنين [عليه الصلاة والسلام]».

وإذن.. فلم يكن للشيعة أن يقبلوا بأمر يستبعده العقل، إلا ببرهان ساطع، ودليل قاطع، تعنو له آراؤهم، وتنقاد له عقولهم بالخضوع والتسليم..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 25/

الشيعة.. والإمامة:

هذا.. وقد كانت قضية الإمامة، وشؤونها وخصائصها، من أهم القضايا التي شغلت الفكر الإسلامي عامة، والشيعي بصورة أخص، منذ وفاة الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله].

وكان جمهور الشيعة فضلاً عن متكلميهم، والعلماء وأرباب الفكر فيهم، مطلعين على هذه الأمور بشكل تام. ويمتلكون الرؤية الواضحة، والمعايير الصحيحة، فيما يرتبط بمختلف شؤون الإمام وأحواله، كلزوم العصمة والطهارة من الأدناس، والعلم الجامع الذي اختص الله به الأئمة. وهما الأمران اللذان يحتاجان للتعرف عليهما بصورة تامة إلى النص والتعيين عادة.. حتى إذا اشتبه امر النص فإن الامتحان بالأسئلة الفقهية، والاعتقادية، وغيرها، أو بظهور الكرامات، بأن يخبرهم بما لا سبيل إلى العلم به إلا بتعليم من الله عز وجل ـ إن ذلك ـ يكون هو الوسيلة الفضلى للتعرف على الإمام المنصوص عليه كما هو معلوم».

وبسبب وضوح هذا الأمر لديهم، نجدهم «سرعان ما يكتشفون كذب وزيف من يدعي الإمامة زوراً، ويفتضح أمره لديهم، ويشتهر بكذبه كما كان الحال بالنسبة لعبد الله الأفطح بن جعفر، الذي ادعى الإمامة لنفسه بعد الصادق [عليه السلام]. وكما كان الامر أيضاً بالنسبة لجعفر بن علي الهادي، الذي ادعى الإمامة لنفسه بعد أخيه الحسن العسكري، فإن أمرهما قد افتضح بسرعة. حتى أن أولاد هذا الأخير أنفسهم، لم يقبلوا بإمامته، وقالوا بإمامة المهدي r. وكان منهم علماء كثيرون، وبعضهم من أعيان الطائفة الإمامية. فإن الشيخ الطوسي أو المفيد رحمهما الله تعالى [على ما ببالي وإن كنت لا أتذكر المصدر الآن] لم يذكر في أبيهم جعفر كبير طعن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 26/

احتراماً منه لولده رضي الله عنهم(1)..».

ونجد في المقابل: التسليم والقبول لدى جمهور الشيعة بإمامة الجواد [عليه الصلاة والسلام]. ومع أن عم أبيه علي بن جعفر قد كان من كبار العلماء ومن الأجلة، وكان شيخاً كبير السن إلا أنه كان يظهر للإمام الجواد على صغر سنه من الاحترام والتبجيل على اعتبار أن الله تعالى قد اختصه بالإمامة، ما جعل البعض يتعجب ويعترض عليه لذلك؛ فيسمع منه الجواب الذي يؤكد هذا المعنى أيضاً»(2) وسيأتي النص الكامل لهذه الرواية في آخر الفصل الثالث إن شاء الله تعالى..

الزلزال من الأعماق:

إلا أننا رغم كل ذلك، لا يمكننا إنكار أنه بمجرد استشهاد الإمام أبي الحسن الرضا [عليه السلام] وإمامة ولده الصغير الإمام محمد التقي الجواد [عليه السلام]. فإن الشيعة ـ ولاسيما العامة منهم يواجهون أول مخاض عقائدي عسير جداً، وفريد من نوعه، ويتعرضون لزلزال عقائدي عنيف من داخلهم أنفسهم، يزلزل وجودهم، ويهز ضمائرهم من الأعماق هذا عدا عما يحدثه حدث كهذا من خلل في العلاقات، وفي الموقع الذي تحتله هذه الفرقة في مقابل سائر الفرق، على الصعيد العام. ثم ما يتبع ذلك من تطورات وتحولات على صعيد الحركة الفكرية في العالم الإسلامي بأسره..

ووضوح قضية الإمامة وشؤونها لدى الشيعة.. لا يعني أن لا يتعرض

ـــــــــــــــ

(1) ما بين القوسين من كلام المحقق البحاثة للسيد مهدي الروحاني حفظه الله تعالى.

(2) راجع: البحار ج50 ص36و104 والكافي ج1 ص258 ورجال الكشلي ص429و430 وقاموس الرجال ج6 ص436و437.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 27/

عامة الناس والضعفاء منهم لهذا الزلزال الخطير.. بل إننا نجد: أن هذا الحدث قد أثر حتى في بعض كبار الشيعة وعلمائهم.. كما سنرى.. ولاسيما بعد أن كان الأئمة قد ربوا شيعتهم على احترام الفكر والعقل، وأصبحوا عقليين إلى حد كبير.

وإذا كانت بعض التفصيلات الدقيقة في قضية الإمامة، تحتاج لمزيد من الفكر، والعمق، والدقة، فإن هذا مما لا يمكن توفره للكثيرين ممن لم يضربوا في العلم بسهم وافر، فكيف بالنسبة للعامة من الناس؟ فإذا تجسدت نفس هذه الحالات الخفية في نفس الواقع والأمر، فإنها لابد وأن تحدث في بادي الأمر على الأقل زلزالاً قوياً للفكر، وصدمة عميقة للوجدان.. ولابد من مرور مدة من الزمان، ليعود الفكر والعقل لامتلاك زمام المبادرة، ويتولى قيادة مسيرة الإنسان، ويهيمن على كل مواقفه وحركاته، ويغذي ضميره، ويتصل بوجدانه.

وعلى كل فإننا في مجال تأثيرات هذا الحدث الفريد من نوعه على الصعيد الداخلي.. نستطيع أن نشير إلى الأمور التالية:

1 ـ قال ابن رستم الطبري: «ولما بلغ عمره ست سنين وشهور، قتل المأمون أباه وبقيت الطائفة في حيرة. واختلفت الكلمة بين الناس، واستصغر سن أبي جعفر، وتحير الشيعة في سائر الأمصار»(1).

ويقول الشيخ حسن بن عبد الوهاب ـ أو السيد المرتضى علم الهدى عليهما الرحمة، على الخلاف في مؤلف كتاب عيون المعجزات ـ ويقول غيره أيضاً: «.. ولما قبض الرضا [عليه السلام] كان سن أبي جعفر نحو سبع سنين؛

ـــــــــــــــ

(1) دلائل الإمامة ص204.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 28/

فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد، وفي الأمصار. واجتمع الريان بن الصلت، وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة، وثقاتهم، في دار عبد الرحمن بن الحجاج في «بركة زلول» يبكون ويتوجعون من المصيبة..

فقال لهم: يونس بن عبد الرحمن: «دعوا البكاء، من لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا.. يعني: أبا جعفر [عليه السلام].

فقام إليه الريان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا، وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله، فلو أنه كان ابن يوم واحد، لكان بمنزلة الشيخ وقوته، وإن لم يكن من عند الله، فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس. هذا مما ينبغي أن يفكر فيه؟..

فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبخه.

وكان وقت الموسم، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار، وعلمائهم ثمانون رجلاً؛ فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة، ليشاهدوا أبا جعفر؛ فلما وافوا.. [ثم تذكر الرواية خروج عبد الله بن موسى إليهم، وسؤالهم إياه بعض المسائل، وإجابته بغير الواجب] ثم تقول: «فورد على الشيعة ما حيرهم وغمهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا، وهموا بالانصراف، وقالوا: لو كان أبو جعفر يكمل جواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان، من الجواب بغير الواجب..».

ثم تذكر الرواية خروج أبي جعفر إليهم، وسؤالهم إياه، وجوابه بالحق، ففرحوا، وأن الناس ألحوا عليه بمسائلهم.. ثم تذكر الرواية ما جرى بينه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 29/

وبين إسحاق بن إبراهيم فليراجعها من أراد(1)..

وبعد.. فقد كانت تلك هي حال حتى بعض العلماء والفقهاء، من امثال يونس بن عبد الرحمن ـ وهو من أصحاب الإجماع ـ ذلك الرجل الكبير، والثابت القدم في موالاة أهل البيت [عليهم السلام].. فكيف إذن تكون حال الآخرين، ممن لم يستضيئوا بنور العلم، ولا يملكون قفناعات ثابتة ومركزة في كثير من العقائد، ولاسيما في الأمور التفصيلية منها.

كما أننا نجد: أن صفوان بن يحيى ـ وهو أيضاً من أصحاب الإجماع، ومن جلة أصحاب الأئمة [عليهم السلام]، لا يكاد يتعقل أن يكون إمام المسلمين طفلاً صغيراً، حتى يؤكد له الرضا [عليه السلام] ذلك، ويستدل له بقوله: «وما يضره؟!. قد قام عيسى بالحجة، وهو ابن أقل من ثلاث سنين(2)»..

كما أن الرضا [عليه السلام] قد استدل بما هو قريب من هذا لعلي بن أسباط، وهو من الثقات المعروفين، ولمعلىّ بن محمد أيضاً(3)»..

ـــــــــــــــ

(1) عيون المعجزات ص119 ـ 121، وإثبات الوصية ص213 ـ 215 ودلائل الإمامة ص204 ـ 206و212 والبحار ج50 ص99/100 وقاموس الرجال ج9 ص499.

وذكر جانب من هذه القضية أيضاً في البحار ج50 ص91/92و85/86و85 والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص382/383 عن الجلاء والشفاء، والاختصاص للشيخ المفيد ص102.

(2) الإرشاد للمفيد ص357، وراجع ص358، وأعلام الورى ص346 في موضعين، والكافي ج1 ص314و258 وراجع ص413و259و315 وعيون المعجزات ص119 وروضة الواعظين ص237 والصراط المستقيم ج2 ص166، وإثبات الوصية ص212و213 والبحار ج50 ص21و32و34 ودلائل الإمامة ص204 وكفاية الأثر ص274و275 وكشف الغمة ج3 ص141و143 والإمام محمد الجواد، لمحمد علي الدخيل ص13 عن الإرشاد والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص251 وراجع ص

(3) الكافي ج1 ص413و315 وأعلام الورى ص349/350 وكشف الغمة ج3 ص150/151 والصراط المستقيم ج2 ص166 وإثبات الوصية ص211 والبحار ج50 ص=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 30/

وفي محاولة أخرى من الإمام الرضا [عليه السلام] لتقريب هذا الأمر إلى أذهانهم، نجده [عليه السلام] يقول: «هذا ابو جعفر، قد أجلسته مجلسي، وصيرته مكاني. وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا أكابرنا، القذة بالقذة(1)».

بل الظاهر: هو أن التمهيد لهذا الأمر قد بدأ من عهد الإمام الصادق [عليه السلام] فقد قال أبو البصير: «دخلت عليه، ومعي غلام يقودني خماسي لم يبلغ. فقال: كيف أنتم إذا احتج عليكم بمثل سنه؟ وقال: سيلي عليكم بمثل سنه(2)..».

وسنشير إلى استدلال الجواد نفسه [عليه السلام] باستخلاف داود لسليمان [عليهما السلام] وهو صبي يرعى الغنم. وباتباع علي [عليه السلام] للنبي [صلى الله عليه وآله]، وهو ابن تسع سنين، ونزول الآية في ذلك.

ولعل هذا الوضع الخاص جداً، الذي تميز به الإمام الجواد [عليه السلام]، هو الذي جعل الناس يهتمون بطرح الأسئلة الكثيرة على الإمام [صلوات الله وسلامه عليه]، حتى ليقول النص: «استأذن على أبي جعفر [عليه السلام] قوم من أهل النواحي، من الشيعة؛ فأذن لهم؛ فدخلوا. فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب، وله عشر سنين(3)..».

ـــــــــــــــ

=20و37 والخرايج والجرايح ص345/346 وبصائر الدرجات ص238 والإرشاد للشيخ المفيد ص367 والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص389 وراجع الفصول المهمة للمالكي ص252.

(1)الإرشاد للشيخ المفيد [رحمه الله] ص357 والكافي ج1 ص256/257 والبحار ج50 ص21 وأعلام الورى ص346 وكشف الغمة ج3 ص141 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص251.

(2) الكافي ج1 ص314.

(3) الكافي ج1 ص415 والاختصاص ص102، والبحار ج50 ص86و93، وكشف الغمة ج3 ص154 والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص384 والمجالس السنية ج=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 31/

ولعل تلك الجماعة التي تقدمت الإشارة إليها، ومن بينها يونس بن عبد الرحمن، والريان بن الصلت، هي نفسها التي سألته هذه المسائل، حينما قدمت عليه.. ولا نستبعد أن يكون هذا العدد تقريبياً، أو فيه شيء من المبالغة لإظهار نسبة الكثرة هنا، إذ من البعيد أن يتم إحصاء دققي في هذه الموارد، وأمثالها..

كما أن الظاهر هو: إن المقصود: أنهم قد بقوا يحاورونه في المسائل مدة من الزمان، ولربما أياماً، في محل واحد، لم يتحول عنه إلى غيره، كأن يكون في «صريا» مثلاً أو في «قبا». فالمراد بوحدة المجلس: الوحدة النوعية، بملاحظة وحدة المكان، والمسؤول، والسائل.

كما ان من المحتمل أن تكون كلمة «ألف» زائدة من النساخ، أو من غيرهم. وقد ذكر الكاشاني هذا الحديث، وليس فيه كلمة «ألف» هذه(1)..

ومهما يكن من أمر؛ وعلى تقدير ثبوت هذه الكلمة في الحديث ـ ولعله هو الراجح ـ إذ أن الرواية تريد أن تذكر أمراً غريباً للنظر، ـ فقد ذكر المجلسي وغيره وجوهاً أخرى في بيان المراد من النص(2) ونجد نظير ذلك: أن عبد الوهاب الوراق يقول عن الإمام أحمد بن حنبل، إنه: «رجل سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال: حدثنا، وأخبرنا(3)..».

ولا ريب في أن ذلك لم يكن في مجلس واحد، وإنما كان في مجالس متعددة.

ـــــــــــــــ

=5 ص623 والإمام الجواد لمحمد علي دخيل ص46 عن بعض من تقدم وعن: صحيفة الأبرار ج2 ص300والأنوار البهية ص130 ووفاة الإمام الجواد ص58 والدمعة الساكبة ج3 ص113 وجلاء العيون ج3 ص106 وإثبات الهداة ج6 ص175.

(1) المحجة البيضاء ج4 ص306.

(2) راجع: البحار ج50 ص93/94، والإمام الجواد، لمحمد علي الدخيل ص46/48.

(3) مناقب الإمام أحمد بن حنبل ص142.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 32/

كما أن من الواضح: أنه لم يتم إحصاء دقيق لهذه المسائل.. وإنما ذكر العدد على وجه التقريب أيضاً. حسبما قدمنا..

وعلى كل.فإننا نعود فنكرر اختصاص الإمام الجواد ـ على صغر سنه ـ من بين سائر الأئمة بهذه المسائل الكثيرة، إنما يعبر عن أن ثمة تعمداً خاصاً بالنسبة إلى هذا الإمام بالذات لخصوصية دعتهم إلى ذلك بلا ريب.. ولكن ما يؤسف له هو: أننا لم نجد إلا النزر اليسير جداً. من هذه المسائل التي سئل عنها الإمام الجواد [عليه السلام] حيث لم يكن الهدف منه إلا الحصول على الطمأنينة القلبية، ولم يكن ثمة التفات للزوم ثبت وتدوين تلك المسائل..

2 ـ لقد رأينا: أن بعض الناس، بعد وفاة الإمام الرضا [عليه السلام] قد رجعوا إلى الوقف على الإمام الكاظم، وهم المؤلفة. وبعضهم قال بإمامة احمد بن موسى.

وهؤلاء.. وإن كانوا قلة بالقياس إلى جمهور الشيعة القائلين بإمامة التقي الجواد [عليه السلام]، فإن القائلين بإمامته [عليه السلام] قد كانوا أكثر الفرق عدداً(1) وقد انقرضت سائر الفرق دونهم.. ولكن نفس ظهور القائلين بالوقف بحد ذاته يشير إلى ذلك التزلزل الداخلي الذي نالهم، وأثر في الضعفاء، وغير الواعين منهم. قال النوبختي وغيره: «وكان سبب الفرقتين، اللتين ائتمنت واحدة منهما بأحمد بن موسى، ورجعت الأخرى إلى القول بالوقف: أن أبا الحسن الرضا [عليه السلام] توفي، وابنه محمد ابن سبع سنين، فاستصبوه، واستصغروه، وقالوا: لا يجوز الإمام إلا بالغاً(2)». وعلى حد تعبير

ـــــــــــــــ

(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن ص256.

(2) فرق الشيعة ص97/98، والمقالات والفرق ص95 والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص256، ونظرية الإمامة ص390 عن النوبختي.

واستدلوا على ذلك، حسبما جاء في المصادر الآنفة الذكر، بأنه: «لو جاز أن يأمر الله عز وجل بطاعته غير بالغ، لجاز أن يكلف غير بالغ، فكما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ،=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 33/

الشهرستاني: «إن من الشيعة من قال بإمامة احمد بن موسى بن جعفر، دون أخي علي الرضا. ومن قال بعلي، شك أولاً في محمد بن علي، إذ مات أبوه وهو صغير، غير مستحق للإمامة، ولا علم عنده بمناهجها، وثبت قوم على إمامته(1)..».

3 ـ وبعد ذلك.. فإن الشيعة الذين اعتقدوا بإمامته [عليه الصلاة والسلام]، قد اختلفوا في مصدر علمه.. فقال بعضهم: إنه يتلقى علومه من كتب ابيه، وما رسم له فيها من الأصول والفروع. وقال آخرون: إنه لم يتعلم من أبيه؛ لانه حمل إلى خراسان، وهو ابن أربع سنين وأشهر، نعم، عند بلوغه يهيئ الله له أسباب العلم، كالإلهام، والنكت بالقلب، والرؤيا الصادقة، وغير ذلك. وقالت فرقة: يمكن أن يعلم بكلا الطريقتين(2)..

وذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على أن هذا الحادث ـ وإن لم يكن قد

ـــــــــــــــ

= فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس، ودقيقه، وجليله، وغامض الأحكام، وشرايع الدين، وجميع ما أتى به النبي [صلى الله عليه وآله]، وما تحتاج إليه الأمة يوم القيامة، من أمر دينها ودنياها طفل غير بالغ. ولو جاز أن يفهم ذلك من نزل عن حد البلوغ درجة، لجاز أن يفهم ذلك من نزل عن حد البلوغ درجتين، وثلاثاً، وأربعاً، راجعاً إلى الطفولية، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق، وذلك غير معقول، ولا مفهوم، ولا متعارف» انتهى.

ولن الإجابة عما ذكروه كانت سهلة وواضحة جداً، فإن عيسى [عليه السلام] قد قام بالحجة، وهو ابن أقل من ثلاث سنين: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً). وقال تعالى في حق زكريا: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) كما ان داود جعل سليمان خليفة له، وهو صبي يرعى الغنم، ثم هناك قضية إيمان علي [عليه السلام]، وهو ابن تسع سنين، وقول الله عز وجل: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).

وتقدم أيضاً جواب الريان بن الصلت ليونس بن عبد الرحمن.. إلى غير ذلك من الأجوبة القاطعة، التي لا مجال لها هنا.

(1) الملل والنحل ج1 ص169.

(2) راجع: فرق الشيعة ص98/99، والمقالات والفرق ص97/98 ونظرية الإمامة ص391/392.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 34/

أثر على جمهور الشيعة، لأنهم كانوا على درجة من المعرفة والوعي، وعلى بينة من أمرهم ولاسيما فيما يرتبط بموضوع الإمامة وشؤونها.. إلا أنه قد أثر في تلك القلة من الضعفاء، وغير الواعين، فراحوا يتخبطون خبط عشواء، في الليلة المطيرة الظلماء.

ومهما يكن من أمر.. فإن ما يفهم من كلام الريان بن الصلت وغيره، هو أن جمهور الشيعة كانوا ما زالوا يعتقدون: بأن صغر سنه عليه التحية والسلام لم يكن ليؤثر على قدرته على تلقي العلوم والمعارف، وأن علمه وراثي إلهي، وفي بعض الروايات: أنه [عليه السلام] قد تلقى قسطاً من علومه من أبيه مباشرة رغم صغر سنه(1). وما يمنعه من ذلك.. ما دام أن الله سبحانه هو الذي اصطفاه، وهو الذي يؤهله لهذا المقام السامي، وكما استطاع عيسى أن يكون نبياً، وهو في المهد، وقد آتاه الله الكتاب، وآتى الله يحيى بن زكريا الحكم صبياً.. فلماذا لا يؤتي هذه الإمام العظيم القدرة على التعلم من أبيه جميع علوم الإمامة في خلال أربع سنوات؟ وفي حال صغر سنه؟!

4 ـ ولم يقتصر الخلاف في هذا المجال على ما تقدم. بل تعداه إلى الخلاف في صلاحياته. ففريق رأى: أنه واجب الطاعة منذ وفاة أبيه، ويقوم بما يقوم به غيره من الأئمة، وليس صغر سنه مانعاً من استفتائه في الحوادث، والائتمام به في الصلاة.. وهؤلاء هم الأكثر، وهم الذين ثبتت مقالتهم واستمرت..

وقال بعضهم إنه إمام في تلك الحال، بمعنى أن له الأمر وفيه، ولا يصلح

ـــــــــــــــ

(1) إثبات الوصية ص210.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 35/

للإمامة في وقته أحد غيره، ولكن لا يجوز أن يؤمهم في الصلاة، وإنما يتولى الصلاة(1)، وينفذ الأحكام غيره من أهل الفقه، والدين، والصلاح، إلى وقت إدراكه(2).

ومن تجليات الأخطار الجسام أيضاً:

وبعد كل ما تقدم.. وإذا كان حتى بعض كبار العلماء، والفقهاء، ورجال الفكر في الطائفة قد عرض لهم ذلك.. وإذا كان هؤلاء أيضاً قد اختلفوا فيما بينهم ـ ولو بصورة محدودة ـ في هذه الأمور الدقيقة، والصعبة..

فإن حال العامة من الناس تصبح أكثر وضوحاً في تلك الفترة، فإنها ولا شك كانت أكثر تعقيداً، وأعظم بلاءً، إذ كيف يمكن إقناعهم بأن طفلاً ناشئاً، لا يتجاوز عمره الثماني سنوات يتحمل مسؤولية قيادة الأمة،

ـــــــــــــــ

(1) بل لقد ورد في بعض الروايات جواز إمامة الصبي في الصلاة، كمعتبرة «طلحة بن زيد عن جعفر، عن أبيه، عن علي [عليه السلام]: لا بأس أن يؤذن الغلام الذي لم يحتلم، وأن يؤم» الوسائل ج5 ص398، وفي هامشه عن التهذيب ج1 ص254 والاستبصار ج1 ص212، وفي موثق غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله [عليه السلام]: «لا بأس بالغلام الذي لم يبلغ الحلم أن يؤم القوم، وأن يؤذن» الوسائل ج5 ص397 وفي هامشه عن الفروعج1 ص105 وأورده في ج2 ص4و32 من الأذان.

وفي موثقه سماعة عن الصادق [عليه السلام]: «يجوز صدقة الغلام، ويؤم الناس إذا كان له عشر سنين» راجع الوسائل ج5 ص397 وفي هامشه عن الفقيه ج1 ص183.

ولا يعارضها سوى فتوى المشهور خبر إسحاق بن عمار: أن علياً [عليه السلام] كان يقول: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم، ولا يؤم حتى يحتلم، فإن أم جازت صلاته وبطلت صلاة من خلفه» الوسائل ج5 ص398 وفي هامشه عن التهذيب ج1 ص254 والاستبصار ج1 ص212 وأورد صدره في الفقيه ج1 ص130 في الآذان..

(2) راجع: الحور العين ص165 ومقالات الإسلاميين ج1 ص102 وراجع أيضاً: المقالات والفرق ص97 وفرق الشيعة للنوبختي ص98/99، ونظرية الإمامة ص391.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 36/

وهدايتها، وباستطاعته أن يحل مشاكلها على أفضل وجه، وأتمه، وأن يواجه مختلف التحديات والأخطار، ويتجاوزها بحنكة، ووعي، ومسؤولية؟

ولو فرض أن هذا الجيل قد تمكن من اجتياز هذا المخاض العسير، بسبب ما يملكه من رصيد عاطفي، ومن رواسب فكرية، وعقائدية، نشأ وترعرع عليها، حتى أصبحت منسجمة مع التركيبة الذهنية والحياتية له في الحالات الطبيعية، التي تكون فيها عادة أقوى منها في غيرها..

فإن هذا الحدث لسوف يستمر لسنوات كثيرة، قبل ولعقود من الزمن، ولاسيما إذا لاحظنا: أنه لسوف يتكرر من جديد، بالنسبة للإمام الهادي [عليه الصلاة والسلام]، الذي يخلف الإمام الجواد [صلوات الله وسلامه عليه] مباشرة. الأمر الذي يعني: أن هذه الحالة المتميزة لسوف تتعدى هذا الجيل السابق إلى جيل ناشئٍ جديد لم تتمكن فيه الرواسب العقيدية، ولا ارتبط بمسألة الإمامة ارتباطاً عاطفياً.. وإنما تعامل معها من موقع الريب والشك، منذ اللحظات الأولى التي عايشها بها، أو تفاعل معها..

فهو لا يملك أية مناعة أو حصانة في مقابل هذا الزلزال، التي يتعرض له من الداخل، وبالذات.. من الأعماق..

وهكذا فإن ذلك سيجعل هذه الطائفة في مخاض أصعب، وفي مواجهات أوسع وأشد، وأعتى من داخلها نفسها بالدرجة الأولى، مع قطع النظر عن المواجهات الكثيرة والمتنوعة، التي سوف تتعرض إليها من الخارج أيضاً..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 37/

عواصف.. وأعاصير:

وبعد كل ما تقدم.. فإن إلقاء نظرة فاحصة على العصر الذي عايشته هذه الحالة المتميزة للإمام [عليه السلام] ولطائفة الشيعة معه، تعطينا: أن هذه الطائفة تواجه خطراً داهماً، وأعاصير هوجاء عاتية، من شأنها ـ لو تمكنت منها ـ أن تقتلعها من جذورها، وترمي بها بعيداً، بعيداً، في متاهات العدم، أو الغموض والإبهام، كما كان الحال بالنسبة للكثير غيرها، مما مني بما هو أقل وأضعف مما منيت به هذه الطائفة بكثير..

وذلك لأن ما يزيد الأمر خطورة، والمشكلة تعقيداً، ولاسيما بالنسبة للعامة من الناس، الذين لم يأخذوا من العلم بنصب وافر، هو ذلك الانفتاح الواسع لأرباب الملل والمذاهب، بعضهم على بعض، والاهتمام بطرح المسائل الفكرية، والعقائدية الدقيقة، والمحاولات الجادة من كل طرف لإلقاء الشبهات، ووضع علامات الاستفهام الكبيرة حول كل ما يرتبط بعقائد الآخرين، ونحلهم، وأفكارهم، وتصوراتهم.. حيث أن تلك الفترة كانت فترة نضح وتبلور، ثم تكريس للأفكار والمذاهب، التي يمكنها أن تثبت جدارتها في مقابل غيرها، ثم تفرض هيمنتها وقدرتها على استقطاب القطاع الأكبر والأوسع من الناس..

موقع الحكام في هذا الصراع:

ولم يكن الحكام آنئذٍ بعيدين عن ساحة الصراع هذه، بل كانوا يرصدونها بدقة فائقة، ومهارة فريدة..

بل لقد كانوا يهتمون بهذا الأمر اهتمامهم بمستقبلهم، وبمصيرهم ويعملون ـ علناً تارة، وفي الخفاء أخرى ـ على تقوية ذلك الفريق الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 38/

يجدون: أن التعامل معه ليس فقط لا يواجه بأية صعوبات، أو مشكلات تذكر.. وإنما يكون في هذا التعامل ضمانة حقيقية وأكيدة لمسقتبلهم في الحكم.. وأخيراً لحياتهم ومصيرهم على حد سواء.. إلا أن هؤلاء الحكام ـ وفي طليعتهم المأمون العباسي، أعظم الخلفاء العباسيين دهاء وحنكة، وأكثرهم علماً، وابعدهم نظراً، وأعلمهم بالسياسة وأحابيلها(1) ـ إن هؤلاء الحكام ـ قد رأوا: أن الظهور بمظهر المشجع والمناصر للفكر وللعلم، والحامي والمدافع عن حرية الكلمة، وعن قدسيتها، أمر يخدم قضيتهم ووجودهم في الحكم بصورة عامة ـ وذلك لأسباب مختلفة، لا مجال لبحثها الآن ـ مهما كان هذا الستار الخادع يخفي وراءه الكثير من الخداع، والتضليل، ثم التزييف الماكر لكثير من الحقائق التي لا توافق سياسة الحكام، ولا تخدم مصالحهم(2)..

المعتزلة:

وبعد فإن ما تجدر الإشارة إليه، ويتميز بأهمية خاصة هنا، هو: أن المعتزلة كانوا في تلك الفترة بالذات في مرحلة نضجهم، وتكامل مدرستهم، وكانت السلطة آنئذٍ تؤيدهم، وتشد من أزرهم، وتستفيد من موقعها السلطوي، ومن نفوذها، وسائر ما تملك من قدرات، مادية ومعنوية، في مجال ترسيخ وتثبيت خطهم، وضرب الفئات الأخرى، وتحطيم نفوذها، وزعزعة موقعها، بنحوٍ، أو بآخر..

وإن من نافلة القول أن نشير هنا: إلى ان خط الاعتزال هذا يكاد

ـــــــــــــــ

(1) راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام]. فصل: من هو المأمون.

(2) راجع: المصدر السابق ص405 ـ 408 ففيه بعض ما يرتبط بهذا المقام. ولكنهم يفرقون تلامذة الرضا ويمنع ابن عباس من التفسير والكلام كما أشار إليه البعض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 39/

يكون متطرفاً إلى حد كبير في اعتماده على العقل وأحكامه، ورفض كل ما لا يتوافق معه، وكانوا يقيسون النصوص الدينية على العقل، فما أيده العقل بشكل صريح قبلوه، وما عداه ردوه ورفضوه.

طائفة الشيعة.. وموقعها:

وبعد هذا.. فإن طائفة الشيعة الإمامية، وهي من أعرق الفرق وأشهرها، وأبلغها حجة، وأشدها في الصراع الفكري شكيمة.. حتى لقد بلغ من قوتها، وعظمة دعوتها: أن اضطرت السلطة للتعامل مع قائدها وزعيمها ـ وهو الإمام الرضا [عليه السلام]، الذي توفي بالأمس ـ بذلك الأسلوب الخاص، والنادر جداً، والفريد من نوعه.. وذلك بالبيعة له بولاية العهد، ثم التخلص منه بالطريقة التي عرفها كل أحد، حسبما أوضحناه في مجال آخر.

وذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على نفوذ وقوة هذه الفرقة وتأثير كلمتها، وآرائها في الناس، وفي عواطفهم، ومواقفهم. وترى فيها سائر الفرق: أنها أقوى منافسٍ فكري عقائدي لها، وأنها هي الأوضح حجة، والأبين دليلاً حتى أنها لو أتيح لها المجال، فلسوف تكتسح الساحة، وتستقطب مختلف قطاعات الأمة، بما تملكه من فكر حي، وبما لها من أصالة متجذرة في أعماق الفكر، والفطرة، والعقل، والوجدان..

نعم.. وإن حدثاً عقائدياً، فريداً من نوعه، وخطيراً كهذا، ولهذه الفرقة بالذات.. من شأنه أن يلفت أنظار خصومها ويشد عقولهم إليه، ولسوف تغريهم السلطة، وطبيعة الحدث معاً، بالاستفادة من هذه الحالة العارضة، لشن هجوم عنيف وحاسم، يستهدف الفكر العقائدي لهذه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 40/

الفرقة في الصميم فإن ذلك ـ ولا شك ـ لسوف يثلج صدر السلطة، التي لن تألوا جهداً، ولن تدخر وسعاً في مجال المساعدة عليه، وخلق الظروف الملائمة لتحقيق اكبر قدر من النجاح له.. وذلك لأنه ينسجم كل الانسجام مع أطروحتها الرامية إلى إزاحة الفكر العقائدي لهذه الفرقة من الطريق، وحتى محوه من الوجود بالكلية..

وإذا ما أتيح لهم وللسلطة ذلك، فإن جميع فرص النجاح على الصعيد العام، لسوف تكون متاحة لهم ـ والحالة هذه ـ أن يحلموا بمستقبل زاهر، يحمل لهم معه كل الامتيازات والمكاسب، دونما رقيب، ودونما منازع، حيث لم يعد ثمة ما يمكن أن يعتبر خطراً جدياً يتهدد المستقبل العقائدي لهؤلاء، والسياسي لأولئك على حد سواء..

نعم.. إن معاصرة هذه الفرقة لتلك النهضة الفكرية القوية جداً منذ بدايتها، ولمدة طويلة، في أعظم الأمور حساسية، وهو أمر الإمامة والقيادة.. وفي حالة ملفتة للنظر، وتشير للخصوم بأعظم الضعف والوهن ـ بنظرهم ـ وفي صغر سن الإمام الجواد [عليه السلام]، ثم الإمام الهادي [عليه الصلاة والسلام]. ثم استمرار هذه الحالة لسنوات كثيرة، ترافق ذلك الانفتاح الفكري ـ إن ذلك ـ من شأنه أن يهيئ الفرصة، ويثير الشهية لطرح الكثير من التساؤلات، وإثارة العديد من الشبهات في أعظم قاعدة دينية، تخاض من اجلها اللجج، وبذلت، وتبذل دونها المهج، حتى ليقول الشهرستاني: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سل على الإمامة في كل زمان(1)».

ـــــــــــــــ

(1) الملل والنحل ج1 ص24.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 41/

نعم.. ولقد خاض الناس في أمرسن الإمام عليه التحية والسلام، وجعلوا ذلك من جملة المآخذ، التي يمكنهم عن طريقها التشكيك فيما يدعيه لنفسه من الإمامة، والزعامة، والنيابة عن رسول الله [صلى الله عليه وآله]، في قيادة الأمة، وهدايتها..

ولقد سأل البعض، فقال له: «إنهم يقولون في حداثة سنك؟ فقال: إن الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان، وهو صبي يرعى الغنم الخ(1)..». «وقال له علي بن حسان: يا سيدي، إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك؟! فقال: وما ينكرون من ذلك قول الله عز وجل.. لقد قال الله عز وجل لنبيه [صلى الله عليه وآله]: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). فوالله، ما اتبعه إلى علي، وله تسع سنين. وأنا ابن تسع سنين(2)».

وأخيراً.. فإن البعض قد صرح في هذا المقام بقوله: «مات أبوه، فخلفه في الإمامة، وهو ابن تسع سنين، فأنكر جمهور المسلمين على الشيعة ولاية الأئمة، والأخذ عنهم، وهو في الصبا، ولاسيما أن العادات العربية تجعل للسن أهمية في ولاية الأمور، فكانت إمامته ـ ولم يبلغ سن الرشد ـ أخطر مشكلةٍ واجهت الشيعة، بالنسبة لشخص الجواد(3)..».

ـــــــــــــــ

(1) الكافي ج1 ص314.

(2) الكافي ج1 ص415، فاستدلاله [عليه السلام] ناظر إلى ما هو المعروف عند غير الشيعة، من قلة سن علي [عليه السلام] حين إسلامه، فهو استدلال جدلي بالدرجة الأولى..

(3) نظرية الإمامة ص390.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 42/

سيف ذو حدين: والخيارات الصعبة:

وبعد.. فإن مما لا شك فيه هنا، هو: أن هذه الفرقة التي تهتم بالعقل وأحكامه إلى حد بعيد، وترى أن جميع قضاياها وأحكامها منسجمة مع الدليل القاطع، والبرهان الساطع، ومع أحكام الفطرة والعقل، والوجدان.. وتعتز بهذا الأمر، وتتباهى وتفخر على كل خصومها، مؤكدة على أنها لا تحيد عن هذا الخط، ولا تتنازل عنه، مهما كانت الظروف، وأياً كانت النتائج..

ـ إن هذه الفرقة ـ لو قدر: وفشلت في تسجيل نصر حاسم لها في هذا الظرف الذي يرى الناس: أنها تتمتع فيه بحرية الحركة والكلمة معاً، وبالنسبة لقضية هي أكثر القضايا حساسية، وأعظمها خطراً، وأبعدها أثراً، وهي المحور والأساس لسائر القضايا، وفي مختلف المجالات.. فإن فشلها هذا سيكون حاسماً، ونهائياً. ولن تقوم لها بعد أية قائمة.. ولاسيما في هذه الفترة التي كانت فيها سائر العقائد والفرق، تحاول إثبات وجودها وتكريس خطها في اكبر قطاع ممكن في الأمة الإسلامية، في مختلف أرجاء العالم الإسلامي..

وإن هذا الفشل الذريع من شانه أن يضعها ـ شاءت أم أبت ـ أمام الخيارات الصعبة التالية:

1 ـ أن يرمي بها بعيداً إلى الأصقاع النائية، إلى مناطق الجهل، والحرمان، والبداوة، بعيداً عن مناطق الصراع والتحدي.. كما حصل لعامة فرق الخوارج، التي كانت عامة مبادئها منافرة لأحكام العقل، والفطرة، والوجدان، فلم تستطع الثبات أمام الفكر، والمنطق، والتحدي..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 43/

2 ـ أو أن تعدل الكثير من أفكارها وعقائدها، وتجعلها تتوافق وتتلاءم مع النظرة العامة، التي ارتضاها الحكام للناس، والمحمية بحراب الإرهاب، والتجويع، أو التطميع، ثم التزوير..

أولا أقل تجعلها لا تتناقض ولا تتنافر معها.. كما كان الحال بالنسبة لفرقة الإباضية من الخوارج، كما أوضحناه في بحث لنا حول الخوارج، نسأل الله التوفيق لإتمامه، ونشره في الوقت المناسب..

3 ـ أو أن تتحول إلى عقيدة باطنية، منغلقة على نفسها، وتعيش في ظلام الإبهام والغموض، ولا تجرؤ على الظهور إلى النور، ومعالجة الصراع حتى بالنسبة لغالب من ينتمون إليها ـ اسمياً أو وراثياً ـ فضلاً عن معالجة الصراع والتحدي على الصعيد الفكري العام..

ومن الجهة الأخرى.. فإنها لو استطاعت أن تجتاز هذه المرحلة المصيرية البالغة الحساسية بالنسبة لها. وتمكنت من أن تربح المعركة الفكرية، وتحتفظ بدورها الطليعي، على الصعيد الفكري العام، وعلى صعيد الواقع ونفس الأمر.. فإنها تكون قد برهنت بشكل قاطع ونهائي على أحقيتها، وأثبتت جدارتها، ليس فقط بالنسبة لذلك الجيل الذي عاصر ذلك الحدث المتميز، وعايش تلك الانطلاقة الفكرية في أوج قوتها.. وإنما للاجيال الأخرى، التي تأتي فيما بعد أيضاً..

وما ذلك.. إلا لأن انتصار هذه الفرقة، في هذا الظرف بالذات قد جاء في الوقت الذي يكون فيه الخصوم في أفضل حالاتهم، وأتمها، وأقواها، ولاسيما فكرياً، وسياسياً.. ويرى الناس: أنها هي تمر في أدق مرحلة، وأخطرها، وتواجه اضعف ما يمكن أن يفترض لها من حالات، مع عدم وجود ما يمنع من الاحتكاك المباشر والصريح، وإبراز كل ما يملك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 44/

أولئك وهؤلاء، من طاقات وقدرات.

النتيجة الحاسمة:

نعم.. وقد كانت النتيجة الحاسمة هي: ان هذه العقيدة قد خرجت من هذا المخاض العسير أكثر تبلوراً، وأشد تألقاً ووضوحاً، وأعظم ثباتاً ورسوخاً.. وقد تجاوزت كل عوامل التحدي، وقهرت كافة رموز الطغيان..

إلا ان ما ينبغي الإلفات إليه هنا هو: أن النتيجة، وإن كانت على الصعيد الفكري هي تلك، إلا أنها لم تكن حاسمة ولا نهائية في مجال التصفية التامة والشاملة للعقائد والأفكار المناوئة وذلك بسبب أنها كانت محمية ومتبناةً من قبل السلطة. كما ألمحنها إليه فيما سبق ولكن مما لا شك فيه هو: أن ذلك الانتصار في المجال العقائدي والفكري، قد استطاع أن يضع علامة استفهام كبيرة على جدارة قدرة الاتجاهات الأخرى على اختلافها وتنوعها على تقديم الحلول الجذرية، للمشكلات التي تواجهها الأمة مهما كانت تلك الاتجاهات قادرة على التهويش، والتطبيل والتزمير، ثم التزييف والتزوير، فضلاً عن التشهير، فيما يرتبط بهذا الاتجاه الآخر أو ذاك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 45/

الفصل الثاني
الإمامة.. في معرض الاغتيال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 46/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 47/

الإمامة.. في مضمونها العام:

وإذا كانت الإمامة في نظر أهل البيت وشيعتهم هي ذلك الامتداد الحي لمسيرة النبوة، في قيادتها الإلهية للأمة نحو هدفها الأسمى. وهي أيضاً: المعين الذي لا ينضب للفكر الإسلامي الأصيل، الذي لابد وأن يمد الأمة بالري، وبالحياة، والذي يستمد عذوبته وصفاءه من القرآن الكريم مباشرة، وكذلك من النبي الأكرم [صلى الله عليه وآله].

إذا كانت الإمامة هي ذلك.. فإن من الطبيعي أن تكون بحاجة للإعلان ممن له الحق، بقبول هذا الامتداد، وبتفويض تلك المهام القيادية لمن ترى فيهم كامل الجدارة والأهلية لتحمل مسؤولياتها الجسام. ولابد كذلك من إعلام الناس، كل الناس، بالمصدر الصافي والأصيل، الذي يمتلك الرصيد الكافي من العلوم والمعارف، لتغذية حركة الفكر، وتزويدها بما لابد لها منه في مسيرتها التكاملية الرائدة، نحو هدفها المنشود..

ومن هنا فقد كان طبيعياً أن يكون صرح الإمامة قائماً على ركنين أساسين اثنين(1)، بحيث لو فقد أي منهما، فإنها تفقد مضمونها من الأساس.

ـــــــــــــــ

(1) أضاف المحقق البحاثة، الشيخ علي الأحمدي حفظه الله ـ حينما عرضت هذا البحث عليه ـ =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 48/

وهذا الركنان هما:

الأول: النص.

الثاني: العلم الخاص، الذي اختُصَّ به الأئمة عن آبائهم [عليهم الصلاة والسلام]، عن النبي [صلى الله عليه وآله].

هذا بالإضافة إلى الجدارة والأهلية، والقدرة على النهوض بأعباء المسؤولية.. الأمر الذي يعني: توفر الخصائص والملكات القيادية، ولك ما من شأنه أن يحفظ المسيرة، ويضمن سلامة الاتجاه، كصفة «العصمة» والتدبير، والحنكة، والشجاعة، والكرم، وما إلى ذلك..

ومن أجل ذلك، نجد اهتمام الأئمة الأطهار [عليهم الصلاة والسلام] بإبراز تلكم الأمور، ولاسيما ذينك الركنين الهامين في المناسبات المختلفة، ولا يثنيهم عن ذلك احتمالات المشاق والأخطار، التي ربما يتعرضون لها نتيجة ذلك، مهما عظمت..

والشواهد على ذلك لا تكاد تحصى كثرة، ويكفي أن نشير هنا إلى قضية استشهاد أمير المؤمنين [عليه الصلاة والسلام] بالصحابة لحديث الغدير، في رحبة الكوفة، وفي صفين، ويوم الشورى، ويوم الجمل.. حيث كان يشهد له به عدد كبير من الصحابة والبدريين. كما أن الإمام

ـــــــــــــــ

=ركناً ثالثاً، وهو: «العصمة» ولاشك في أنه حفظه الله محق فيما قال.. ولكن نظرنا هنا إلى خصوص الأركان التي من شأنها أن تكون حاسمة في مجال إثبات الإمامة، وتشييد صرحها في مقابل الخصوم وغيرهم على حد سواء.. حيث لابد لكل أحد من التسليم والبخوع لهذين الركنين في مختلف الظروف، وسائر الأحوال..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 49/

الحسين [عليه السلام] قد جمع الصحابة في منى، وذكّرهم بفضائل أبيه، وبحديث الغدير، وأفاعيل معاوية(1)..

كل ذلك.. من اجل تركيز قضية الإمامة وتثبيتها، وللحفاظ على النصوص والوقائع المثبتة لها من الضياع أو من تحريف المحرفين، أو لغير ذلك من أهداف.

هذا كله.. بالإضافة إلى التصريحات الكثيرة للأئمة [عليهم الصلاة والسلام]، التي يظهرون فيه: أن عندهم العلم الخاص، الذي اختصهم به النبي الأكرم [صلى الله عليه وآله] بأمر من الله جل وعلا.. كتلك الأحاديث التي تقول: إن عندهم الجفر، والجامعة، وما إلى ذلك مما يجده المتتبع مثبوتاً في المصادر والمراجع هنا، وهناك.

وضوح النص:

ومهما حاول خصوم أهل البيت [عليهم السلام] إنكار أو دفع النص على أمير المؤمنين، وعلى الأئمة الأطهار من ولده [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين].. ومهما حاولوا تأويله، أو تخريجه وتأويله بوجوه بعيدة يأباها الطبع، ويمجها الذوق..

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الغدير للعلامة الأميني ج1 ص159 ـ 213 ودلائل الصدق، وكتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن [عليه السلام] ص90 فيما بعدها.. بالإضافة إلى سائر الكتب التي تعرضت لبحث قضية الإمامة، وكتب التراجم، والحديث والتاريخ، التي تعرضت لذكر الفضائل، والنصوص النبوية المرتبطة بالإمامة، وغير ذلك مما يمكن أن تذكر فيه هذه الأمور..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 50/

فإنهم لم ولن يتمكنوا من إنكار الحديث المتواتر، عندهم، عن أن يكون بعد النبي [صلى الله عليه وآله] إثنا عشر خليفة، كلهم من قريش، أو من بني هاشم. وفي كثير من النصوص تصريح بأسمائهم، أو بأسماء بعضهم [عليهم الصلاة والسلام].

قال القندوزي الحنفي: «ذكر يحيى بن الحسن في كتاب العمدة، من عشرين طريقاً، في أن الخلفاء بعد النبي [صلى الله عليه وآله] اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش، في البخاري من ثلاثة طرق، وفي مسلم من تسعة طرق، وفي أبي داود من ثلاثة طرق، وفي الترمذي من طريق واحد. وفي الحميدي من ثلاثة طرق(1)».

أما العلامة المتتبع الشيخ لطف الله الصافي، فقد جمع في كتاب فئات الأحاديث، بالطرق الكثيرة، التي تؤكد خلافة وإمامة الاثني عشر بعده [صلى الله عليه وآله](2).

وأخيراً.. فقد صرح السيوطي بأن عبارة: «يكون خلفي اثنا عشر خليفة» مجمع على صحتها، وواردة من طرق عدة(3).

ـــــــــــــــ

(1) ينابيع المودة ص444.

(2) راجع: منتخب الأثر من ص10 حتى ص140. وأعلام الورى ص381 ـ 386.

(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص61.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 51/

متمحلون.. ومنصفون:

هذا وقد رأينا: أنهم ـ أعني أولئك المتحلين ـ في مقام تعيين هؤلاء الخلفاء الاثني عشر، يخبطون خبط عشواء في الليلة المطيرة الظلماء.. كما يظهر من تاريخ الخلفاء للسيوطي.. الذي لم يستطع أن يجزم بشيء في مجال التعرف على هؤلاء الاثني عشر، حيث استطاع أن يعد ثمانية خلفاء فقط وجد فيهم ما رآه مبرراً لجعلهم منهم، وهم الخلفاء الأربعة، والحسن [عليه السلام] ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز قال: «ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين، لأن فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر، لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران: أحدهما المهدي لأنه من آل بيت محمد [صلى الله عليه وآله](1)».

ولا ندري ما المبرر لهذه الفقرات الواسعة، من معاوية إلى عمر بن عبد العزيز، ثم إلى المهدي!! وهكذا.. فهل هذا ما يمكن أن يقبله العرف في فهم نص كهذا؟!! أم أنهم يفهمون الاتصال وعدم الفصل!!

أما القاضي عياض، فقط طبق الحديث على الخلفاء الأربعة، وخلفاء بني أمية الذين منهم يزيد لعنه الله تعالى!!.. متجاهلاً بذلك تصريح بعض الروايات بأنهم كلهم من بني هاشم.. وتصريح عدد آخر بأسمائهم [عليهم السلام]، وتصريح طائفة أخرى، بأنهم «كلهم يعمل بالهدى ودين الحق(2)» إلى غير ذلك من خصوصيات تكذب وتبعد ما ادّعاه..

ـــــــــــــــ

(1) و(2) نفس المصدر ص12.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 52/

ولكننا نجد في المقابل أن فيهم من ظهر الحق على لسانه، ونطق بالصدق ولم يخش في الله لومة لائم.. قال القندوزي الحنفي:

«قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده [صلى الله عليه وآله] اثنا عشر، قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان، وتعريف الكون والمكان، عُلِمَ: أن مراد رسول الله [صلى الله عليه وآله] من حديثه هذا: الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته، وعترته.

إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من اصحابه، لقلتهم عن اثني عشر.

ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش، إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم، لأن النبي [صلى الله عليه وآله] قال: كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك عن جابر، وإخفاء صوته [صلى الله عليه وآله] في هذا القول(1) يرجح هذه الرواية، لأنهم لا يحسنون خلافة بني هاشم.

ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية، لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم الآية: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وحديث الكساء.. فلابد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر، من أهل بيته وعترته [صلى الله عليه وآله] لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم، وأجلهم، وأورعهم، وأتقاهم، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً، وأكرمهم عند الله.

ـــــــــــــــ

(1) كما جاء في عدد من النصوص، التي ذكرها في ينابيع المودة قبل ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 53/

وكان علمهم عن آبائهم متصلاً بجدهم [صلى الله عليه وآله]، وبالوراثة واللدنيّة، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق، وأهل الكشف والتوفيق. ويؤيد(1) هذا المعنى، أي أن مراد النبي [صلى الله عليه وآله] الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته، ويشهده ويرجحه: حديث الثقلين، والأحاديث المتكثرة، المذكورة في هذا الكتاب وغيرها..

وأما قوله [صلى الله عليه وآله]: كلهم تجتمع عليه الأمة، في رواية عن جابر بن سمرة، فمراده [صلى الله عليه وآله]: أن الأئمة تجتمع على الإقرار بإمامة كلهم وقت ظهور قائمهم المهدي [عجل الله تعالى فرجه] عنهم(2)..» انتهى. أو أن الأمة تجتمع على الإقرار بفضلهم وعلمهم وتقواهم، كما سننقله عن الجاحظ في أواخر الفصل الثالث.

وحسبنا ما ذكرناه هنا، فإن استقصاء البحث في هذا الأمر يحتاج إلى توفر تام، وتأليف مستقل..

الإمامة.. في معرض الاغتيال:

وإذا كان النص الخاص على الأئمة [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين]، كما يمكن إثباته عن طريق النقل القطعي عن النبي الأكرم [صلى الله عليه وآله].. كذلك قد تمس الحاجة ـ فيما لولج الخصوم بالتكذيب والجحود، وحالوا التعتيم على ذلك السيل الهائل من النصوص

ـــــــــــــــ

(1) الظاهر: أن كلام ذلك المحقق قد انتهى، وبدأ من هنا فصاعداً كلام القندوزي الحنفي نفسه.

(2) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص446.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 54/

القطعية(1) ـ إلى إثبات الإمامة، والنص نفسه، عن طريق إظهار جانب من تلك العلوم الخاصة بهم [عليهم السلام] بمثابة شاهد صدق على صحة ذلك النص وواقعتيه.

وذلك هو السر الحقيقي، الكامن وراء إصرار الحكام وغيرهم من الخصوم، من أرباب الفرق الأخرى، على اغتيال الإمامة، عن طريق إفراغها من محتواها الفكري والعلمي.. حتى إذا ما فشلوا في ذلك، اتجهوا نحو أسلوب اغتيال شخصية الإمام عن طريق التزوير، والإشاعات الكاذبة، وتلفيق التهم الباطلة.. حتى إذا ما فشلوا في ذلك أيضاً اعتمدوا أسلوب التصفية الجسدية علناً تارة، وبالخفاء أخرى، في عملية معالجة وقتية لما يرون فيه مصدر خطر حقيقي على ذلك الواقع، الذي يهتمون ـ لسبب أو لآخر ـ بالحفاظ عليه في حياتهم الحاضرة، وتثبيت دعائمه، وتقوية أركانه في المستقبل.

كذلك ولعل أقرب مثال يمكن أن نسوقه هنا، وله ارتباط وثيق في موضوع بحثنا الآن هو تلك الطريقة التي تعامل بها المأمون مع الإمام الرضا [عليه السلام] أولاً، ثم مع الإمام الجواد [عليه السلام] ثانياً، حيث اضطر أولاً للبيعة للإمام الرضا [عليه السلام] بولاية العهد بعده(2)، ثم حاول

ـــــــــــــــ

(1) ويشهد لذلك الأحداث الكثيرة الدالة على المنع عن ذكر فضائل أمير المؤمنين [عليه السلام] ونسبة فضائله لغيره.

(2) راجع حول هذه الموضوع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 55/

اغتيال الإمامة بأسلوبه الخاص، والفريد من نوعه(1).. حتى إذ فشل هذا الأسلوب وذاك كان له، ولأخيه المعتصم من بعده موقف آخر، ومن نوع آخر، من هذين الإمامين العظيمين [صلوات الله وسلامه عليهما]، وعلى آبائهما الطيبين الطاهرين.

الإمامة.. تحدٍ ورفض:

وإذا كانت الإمامة ـ بحد ذاتها ـ تعتبر رفضاً للسلطة القائمة آنذاك، وتحدياً صارخاً، وإدانة صريحة لها، على اعتبار أنها: عن طريق القوة والقهر، أو عن طريق التطميع أو التزوير، تستأثر بمركزٍ لا حق لها به، ولا أقل من أن شرعيتها تكون موضوعة في فقص الاتهام.. وقد قال ابن أبي داود للمعتصم، حينما رجع إلى قول الإمام الجواد [عليه السلام] في مسألة قطع يد السارق، وترك أقوال الفقهاء الآخرين.. «ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته، ويدعون: أنه أولى بمقامه ثم يحكم بحكمه، دون حكم الفقهاء؟! قال: فتغير لونه، وانتبه لما نبهته له» ثم تذكر الرواية: أن المعصتم قد دس إليه السم في اليوم الرابع(2).

ـ إذا كان كذلك ـ فإن من الطبيعي أن لا تنظر السلطة لهذه القضية

ـــــــــــــــ

(1) سيأتي بعض ما يرتبط من ذلك بالإمام الجواد [عليه السلام].. أما ما يخص الإمام الرضا، فقد تحدثنا عنه في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام].

(2) تفسير العياشي ج1 ص319/320 والبحار ج50 ص6/7.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 56/

العقائدية الخطيرة بعين الرضا والقبول، وأن لا تشجع أصحابها ومعتنقيها على نشر فكرهم، والتبشير بمبادئهم وعقائدهم..

بل ستجد نفسها مندفعة بقوة وحماس نحو مقاومة هذه العقيدة، ومحاربتها، ومحاربة معتنقيها، والدعاة إليها، بمختلف الوسائل والأساليب التي تقع تحت اختيارها، وتتمكن من الاستفادة منها، بشكل أو بآخر.. أما بالنسبة للرمز الذي يمثل هذه العقيدة، فلسوف لن يهنأ لها عيش، ولن يقر لها قرار بعد القضاء عليه قضاءً مبرماً ونهائياً، ومحوه وكل آثاره عن صفحة الوجود ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.. وإن فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي:

إننا إذا رأينا قدراً من الانسجام بين السلطة، وبين أرباب ذلك الفكر، ومعتنقي تلك العقيدة، والمبشرين بها، ولاسيما إذا كان ذلك على مستوى القمة الشامخة، التي تتحدى السلطة، حتى في الأساس والمبرر لوجودها.. فإننا إن لم نستطع أن نكتشف: «أن تلك الطائفة ـ أو قمتها ـ تخضع لضغط خانق مباشر، وتهديد صريح من قبل السلطة.. أو أنها تتعامل مع الحكم انطلاقاً من مبدأ التقية(1)»، الذي يهدف للحفاظ على المبدأ، وعلى القدرات المؤهلة لحمايته والدفع عنه ـ نعم. إن لم نستطع أن نكشف ذلك ـ فإننا نجد أنفسنا مضطرين لتوجيه اتهام صريح:

إما لتلك الطائفة ـ وحتى على مستوى القمة فيها ـ بأنها قد قدمت

ـــــــــــــــ

(1) ما بين القوسين استدراك من المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي حفظه الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 57/

تنازلاً عقائدياً خطيراً في هذا المجال وإما للسلطة نفسها بأنها تقوم بعملية خداع خطيرة، وتعني بتنفيذ مؤامرة مرعبة، بهدف اغتيال تلك الفرقة، في فكرها، وفي عقائدها، أو حتى في وجودها بصورة عامة.. وهذا الأمر الأخير.. هو ما تجلى لنا بوضوح في لعبة البيعة للإمام الرضا [عليه السلام] بولاية العهد، الذي تعامل مع هذه القضية انطلاقاً من مبدأ التقية أيضاً وغير ذلك من مبادئ تدخل في هذا المجال.. كما أوضحناه في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام].. وكذلك في موقف الخليفة العباسي المأمون من الإمام محمد التقي الجواد، كما سيتضح لنا من خلال هذا العرض الموجز..

المأمون.. المتآمر الداهية:

ولقد كان المأمون اعظم خلفاء بني العباس خطراً، وأكثرهم علماً، وابعدهم نظراً، وأشدهم مكراً، وأخفاهم مكيدة، كما صرحت به النصوص التاريخية العديدة(1).

وهذا الرجل بالذات هو الذي عاصر الإمام الجواد [عليه السلام]، وتعامل معه في معظم حياته [صلوات الله وسلامه عليه]. وهو الذي قام باكثر من محاولة في سبيل تحقيق النصر النهائي والحاسم على الفكر الإمامي الشيعي،

ـــــــــــــــ

(1) عيون أخبار الرضا ج1 ص191، والبحار ج49 ص179 ومسند الإمام الرضا ج2 ص105، والحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص377 عنهم..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 58/

سواء بالنسبة للإمام الرضا [صلوات الله وسلامه عليه]، أو بالنسبة للإمام الجواد التي [عليه السلام].

ـ إن هذا الرجل بعد أن أدرك خطأ أسلافه في تعاملهم مع أئمة أهل البيت [عليهم السلام].. حاول أن يتعامل معهم باسلوب جديد وفريد من نوعه، يخفي وراءه مكراً أشد، وكيداً أعظم.. ولذا فإن من المناسب الإشارة إلى بعض النصوص التي تشير إلى محاولاته الرامية لاغتيال الإمامة.. والتي أوردنا شطراً منها في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام]. حيث قد ذكرنا في ذلك الكتاب: أن المأمون كان يهتم بجمع العلماء، وأهل الكلام من المعتزلة، وهم أصحاب جدل وكلام، وتنبُّهٍ للدقائق، ليحدقوا بالإمام الرضا [عليه السلام]، ويكسروه في محاوراتهم ومجادلاتهم، في أعظم ما يدعيه هو وآباؤه من العلم الخاص بآثار النبي [صلى الله عليه وآله] وعلومه..

وذلك من أجل أن ينهار المذهب الشيعي بانهيار فكرة الإمامة فيه، ويأفل نجم الشيعة، ونجم أئمتهم [عليهم السلام].. وإلى الأبد.. ويكون بذلك قد قضى على أعظم مصدر للمشاكل والأخطار، التي يواجهها المأمون وغيره من الحكام الغاصبين والمتجبرين.. فقد:

1 ـ قال الصدوق: «كان يجلب على الإمام [عليه السلام] من متكلمي الفرق، وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصاً على انقطاع الرضا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 59/

[عليه السلام] عن الحجة مع واحد منهم(1)».

2 ـ وعلى حد تعبير أبي الصلت: «جلب عليه المتكلمين من البلدان، طمعاً في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، والبراهمة، والملحدين، والدهرية، ولا خصم من فرق المسلمين إلا قطعه، وألزمه الحجة.. إلى أن قال: فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسم(2)».

3 ـ وقال إبراهيم بن العباس: «سمعت العباس يقول.. وكان المأمونة يمتحنه بالسؤال عن كل شيء، فيجيبه الجواب الشافي(3)».

4 ـ وقال المأمون لحميد بن مهران حينما طلب منه أن يوليه مجادلته، لينزله منزلته: «ما من شيء أحب إلي من هذا(4)».

5 ـ وقال لسليمان المروزي: «إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك، وليس

ـــــــــــــــ

(1) عيون أخبار الرضا ج1 ص191، والبحار ج49 ص179 ومسند الإمام الرضا ج2 ص105، والحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص377 عنهم..

(2) عيون أخبار الرضا ج2 ص239 ومثير الأحزان ص263 والبحار ج49 ص290، ومسند الإمام الرضا ج2 ص128 وشرح ميمية أبي فراس ص204 والحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص377/378 عنهم.

(3) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص237 وأعلام الورى ص314 وأعيان الشيعة ج4 قسم2 ص107 وليراجع أيضاً: المناقب لابن شهرآشوب ج4 ص350. والحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] عنهم377.

(4) راجع: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص378. ودلائل الإمامة للطبري ص198.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 60/

مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط(1)».

6 ـ وحينما أخبره [عليه السلام] بصفات حمل جاريته، قال المأمون: «فقلت في نفسي: هذه والله فرصة، إن لم يكن الأمر على ما ذكر خلعته؛ فلم أزل اتوقع أمرها الخ» ثم تذكر الرواية مجيء الولد على الصفة التي ذكرها الإمام [عليه السلام](2).

7 ـ كما أنه قد كان من جملة ما يهدف إليه من جعل ولاية العهد له [عليه السلام] هو أن يرى الناس أن الإمام ليس زاهداً في الدنيا حسبما أوضحناه في كتابنا الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام].

ـــــــــــــــ

(1) عيون أخبار الرضا ج1 ص179 والبحار ج49 ص178 ومسند الإمام الرضا ج1 ص97 والحياة السياسية للإمام الرضا ص378.

(2) الغيبة للشيخ الطوسي ص49، وعيون أخبار الرضا ج2 ص224 والبحار ج49 ص307 ومناقب آل أبي طالب ج4 ص333 عن الجلاء والشفاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 61/

الفصل الثالث
الإمام الجواد [عليه السلام].. في مواجهة التحدي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 62/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 63/

الرقابة حذفت:

قد عرفنا فيما سبق حقيقة نوايا المأمون تجاه الإمام الرضا [عليه السلام]، وتجاه الإمامة، وقد فشل في تحقيق مآربه مع الإمام الرضا [عليه السلام] فشلاً ذريعاً ومخزياً.

وبعد وفاته [صلوات الله وسلامه عليه]، فإن هذا الرجل بقي يسير في نفس الاتجاه، ويتابع نفس الخط، ويواصل حركته التآمرية، التي تستهدف حركة التشيع، وموقعها، وتأثيرها في نطاق الحكم العباسي بصورة عامة..

وإن إلقاء نظرة فاحصة على سير الأحداث فيما بين الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام] من جهة، وبين الهيئة الحاكمة، وعلى رأسها الخليفة العباسي، عبد الله المأمون، ثم أخوه محمد المعتصم في فترة قصيرة بعده من جهة أخرى ـ إن نظرة كهذه ـ تعطينا مدى حرص السلطة على ضرب الإمامة، تارة عن طريق إفراغها من محتواها العلمي، الذي هو العنصر الأهم، والأساس الأعظم فيها، وأخرى عن طريق الطعن في العصمة المتمثل في محاولات الإساءة إلى سمعتها وكرامتها، وحالة الطهر والقداسة، التي لها في نفوس الناس..

ويبدو من ملاحظة النصوص: أن هذه المحاولات قد تنوعت، وتكررت. ولعل ما وصل إلينا منها لا يمثل كل الحقيقة، وإنما هو يعكس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 64/

جانباً ضئيلاً، ونزراً يسيراً منها.

وللتدليل على ما نقول، نشير إلى ما قاله محمد بن الريان في هذا المجال: «احتال المأمون على أبي جعفر [عليه الصلاة والسلام] بكل حيلة، فلم يمكنه فيه شيء، فلما اعتل، واراد أن يبني عليه ابنته الخ(1)..».

نعم.. هذا ما قاله محمد بن الريان.. ولكننا إذا راجعنا النصوص التاريخية، التي ذكرت لنا ما كان يتوسل به المأمون في مقابل أبي جعفر الجواد.. فإننا نجد: أنه لا يتجاوز حدثين أو ثلاثة.. الأمر الذي يعبر ـ بوضوح ـ عن شدة الرقابة التي كان المأمون ـ السلطة ـ يقوم بها على أصحاب الأقلام لمنعهم من تسجيل الحقيقة كل الحقيقة، للتاريخ، وللأجيال..

وعلى كل حال.. فإننا إذا اردنا إجمال تلك الوقائع والأحداث التي استطاعت أن تجتاز حواجز الرقابة، فلسوف تكون على النحو التالي:

بغداد.. السجن الكبير:

إن المأمون.. الذي كان له على كل رجل صاحب خبر(2) وكان يدس الوصائف هدية، ليطلعنه على أخبار من شاء(3).

وقد جرت ذلك مع الإمام الرضا [عليه السلام] أيضاً.. فباء بالفشل

ـــــــــــــــ

(1) راجع: البحار ج50 ص61، الكافي ج1 ص413، والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص396.

(2) تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني ص441 وفي هامشه عن: المسعودي ج2 ص225 وعن طبقات الأطباء ج1 ص171.

(3) تاريخ التمدن الإسلامي، المجلد الثاني ص549 عن العقد الفريد ج1 ص148.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفح65/

الذريع، ومني بالخيبة القاتلة كما أن الظاهر هو: أن تزويجه ابنته للإمام الرضا [عليه السلام]، ثم تزويجه ابنته الأخرى لولده الإمام الجواد [صلوات الله وسلامه عليه] فيما بعد. قد كان بعض ما يهدف إليه منه، هو ذلك(1)..

إن المأمون هذا.. لابد وأن يكون قد اطلع على تحركات الشيعة، بعد وفاة الإمام الرضا [عليه السلام]، وعلى اتصالهم بالإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام].. وبلغه بعض أو كل ما صدر عن الإمام عليه التحية والسلام من كرامات وفضائل، ومن أجوبة على المسائل الدقيقة والصعبة رغم صغر سنه.

وإذا كان وجود الإمام [عليه الصلاة والسلام] ـ وهو بهذه السن بالذات ـ كإمام يتحمل مسؤوليته القيادية، يعتبر. بحد ذاته تحدياً للسلطة، ولجميع الفرق على اختلافها في أعظم عقائدها أثراً، وأشدها خطراً، وأكثرها حساسية ـ إذا كان كذلك ـ فإن من الطبيعي أن يحتاط المأمون للأمر، ويعد العدة لكل المفاجآت المحتملة في هذا المجال. ولأجل ذلك.. فإننا نعتقد: أن استقدام المأمون للإمام الجواد [عليه السلام] من المدينة إلى بغداد، قد كان بهدف الاحتفاظ به على مقربة منه، لأهداف عديدة، سنشير إلى جانب منها..

وكان استقدام المأمون له [عليه السلام] إلى بغداد في سنة 204ﻫ.ق. على ما يظهر. وذلك فور وصول المأمون من خراسان. ولكن ابن طيغور يذكر: أن الإمام التقي الجواد [صلوات الله وسلامه عليه] قدم في سنة 215ﻫ.ق من المدينة إلى بغداد، وتسلم زوجته ام الفضل بنت المأمون، في تكريت، والمأمون في حال سفر، كما سيأتي.

ـــــــــــــــ

(1) راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص213و214.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 66/

ونعتقد: أن المأمون بعد أن استقدمه إلى بغداد، قد حاول إجباره على المقام فيها، وجرت له معه فيها أمور كثيرة، وهامة. وإن كنا لا ندري مدى نجاح المأمون في محاولته تلك، فإن ما بأيدينا من النصوص ليس فيه صراحة كافية في هذا المجال..

ويمكن تأييد ذلك، بملاحظة عجلة المأمون في أمر استقدامه من المدينة إليه، تماماً كاستعجال أخيه المعتصم في استقدامه إليه فور توليه للخلافة، ثم الاحتفاظ به إلى أن دس إليه السم في سنة 220ﻫ.ق. ويؤيد ذلك ـ أن أنه [عليه السلام] قد أقام مدة في بغداد من دون اختيار منه، قول حسين المكاري: «دخلت على أبي جعفر ببغداد، وهو على ما كان من أمره فقلت في نفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً، وأنا أعرف مطعمه..».

[أي أنه لا يرج إلى وطنه، والحال: أن مطعمه بالطيب واللذة، والسعة، التي أعرفها] قال: فأطرق رأسه، ثم رفعه، وقد اصفر لونه، فقال: يا حسين، خبز شعير، وملح جريش، في حرم رسول الله، أحب إلي مما تراني فيه(1)..».

ويؤيد ذلك أيضاً.. ما سيأتي من أن المأمون قد احتال على الإمام [عليه السلام] بكل حيلة، قبل أن يسلم إليه ابنته، فلم يمكنه فيه شيء. الامر الذي يعني: أن ذلك يحتاج إلى شيء من الوقت من أجل تنفيذه(2). ومهما يكن من امر.. فإن محاولة إبقاء الإمام [عليه السلام] في بغداد، بالقرب من الخليفة المأمون ـ والتي نجح فيها المأمون جزئياً على

ـــــــــــــــ

(1) الخرائج والجرائح ص344 والبحار ج50 ص48.

(2) واحتمال أن كثيراً من تلك الاحتيالات على الإمام قد تم والإمام [عليه السلام] في المدينة.. بعيد في الغاية..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 67/

الأقل ـ لسوف تكون مفيدة جداً للمأمون، ونظام حكمه، وذلك لأن بقاءه هذا من شأنه أن يمكن للمأمون من أن يجعله [عليه الصلاة والسلام] تحت الرقابة المستمرة، ويسهل عليه رصد كل تحركاته، ومواقفه، ثم تطويقها بسرعة، إن وجد فيها أي ضرر، أو خطر يذكر..

وكذلك.. فإنه يقطع صلاته بشيعته، ويقطع صلاته به، أو يقلل منها إلى حد كبير.. حيث أن من الطبيعي أنه إذا أحيط الإمام [عليه السلام] بهالة الحكم، وأبهة الملك، فإن ذلك سيجعل الكثيرين يتهيبون الاتصال به بصورة طبيعية. وبالأخص إذا كان الكثيرون منهم لا يرغبون بتعريض أنفسهم، وعلاقاتهم بالأئمة [عليهم الصلاة والسلام] للأضواء الكاشفة من قبل السلطة..

وأيضاً.. فلربما كان يأمل في أن يتمكن من خلال محاولاته وأساليبه الإغرائية أو الإغوائية، أو الترهيبية من ان يقنع الإمام في المستقبل، بأن يكون دعاؤه له ولدولته، هذا الأمل الذي كان يراود نفسه بالنسبة لأبيه الإمام الرضا [عليه السلام] من قبل كما أوضحناه في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام]:

أضف إلى ذلك: أنه بإظهاره المحبة، والتبجيل، والإكرام والتعظيم للإمام [عليه السلام]، يكون قد قدمنا دليلاً لربما ينطلي على الكثيرين، يثبن به حسن نواياه تجاه الأئمة [عليهم السلام] ويبرئه إلى حد ما من دم الإمام الرضا [صلوات الله وسلامه عليه].

كما أنه يكون قد أثبت للملأ: أنه لا يرى في خطهم تناقضاً مع خطه، ولا مع موقفه، كحاكم، وكسلطان.. وكذلك.. فإنه إذا استطاع أن يجعل الإمام [عليه السلام] يعيش حياة اللذة والرفاهية، والدعة، فلربما يؤثر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 68/

ذلك على طموحاته وآماله [عليه السلام]، ومن ثم على مواقفه.. وأخيراً على مجمل تصوراته وأفكاره، وأسلوب حياته، بصورة أساسية وعامة. حسبما أشير إليه فيما نقل عن الحسين المكاري آنفاً.. نعم إن ذلك أو جله، لربما يكون محط نظر المأمون.. وإن كان قد فشل في تحقيق كامل آماله وأهدافه، كما سنرى..

البازي الأشهب:

يقول النص التاريخي: «لما طعن الناس في المأمون، بعد وفاة الرضا [عليه السلام] واتهموه، أراد أن يبرئ نفسه من ذلك. فلما أتى من خراسان إلى بغداد، كتاب الجواد [عليه السلام] إلى المدينة، يستدعي قدومه عليه بالإعزاز والإكرام. فلما ورد بغداد اتفق أن المأمون قبل ملاقاته له [عليه السلام] خرج إلى الصيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه(1)..».

وكان ذلك بعد موت الإمام [عليه السلام] بسنة، فاجتاز المأمون ـ والنص لابن شهرآشوب: «بابن الرضا [عليه السلام]، وهو بين صبيان، فهربوا سواه.

فقال: علي به.

فقال: ما لك لا هربت في جملة الصبيان؟!

فقال: ما لي ذنب فأفر منه، ولا الطريق ضيق فاوسعه عليك، سر حيث شئت.

ـــــــــــــــ

(1) جلاء العيون ج3 ص106 ويفهم أيضاً من الفصول المهمة لابن لاصباغ ص252 وكذلك سائر المصادر التالية: أنه لم يكن قد رآه بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 69/

فقال: من تكون أنت؟!

قال: أنا محمد بن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب [عليهم السلام]..

فقال: ما تعرف من العلوم(1)؟!

قال: سلني عن أخبار السماوات.. فودعه، ومضى، وعلى يده باز أشهب، يطلب به الصيد..

فلما بعد عنه، نهض عن يده الباز، فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً، والباز يثب عن يده، فأرسله، فطار يطلب الأفق، حتى غاب عن ناظره ساعة، ثم عاد إليه، وقد صاد حية(2)، فوضع الحية في بيت المطعم..

وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم على يدي(3).. ثم عاد، وابن الرضا في جملة الصبيان.

فقال: ما عندك من أخبار السماوات؟!

[وفي نص آخر: «ثم إنه كر راجعاً إلى داره، وترك الصيد في ذلك اليوم» فلما وصل وجد الصبيان على حالهم فانصرفوا كما فعلوا أول مرة، وأبو جعفر لم ينصرف فقال له المأمون: ما في يدي؟ الخ].

فقال: نعم يا أمير المؤمنين، حدثني أبي عن آبائه، عن النبي، عن جبرائيل، عن رب العالمين، أنه قال: بين السماء والهواء بحر عجاج،

ـــــــــــــــ

(1) لابد من التأمل كثيراً في مبادرة المأمون هنا إلى سؤاله عما يعرفه من العلوم، بمجرد أن أخبره باسمه ونسبه..

(2) في المصادر الأخرى: أنه صاد سمكة..

(3) لم ترد هذه العبارة في المصادر الأخرى..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 70/

يتلاطم به الأمواج، فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، يمتحن به العلماء.

فقال: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدك، وصدق ربك، فأركبه، ثم زوجه أم الفضل».

وفي نص آخر: «تصيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبرون بها سلالة أهل النبوة» فلما سمع المأمون كلامه عجب منه وأنه قال له: أنت ابن الرضا حقاً، ومن بيت المصطفى صدقاً(1)».

هذا الحدث بين النقد والتحليل:

ونشير نحن هنا إلى الأمور التالية:

ألف: إن الظاهر هو: أن المأمون حينما سأل الإمام عن نفسه بقوله: «من تكون أنت؟» قد كان متجاهلاً لا جاهلاً، وذلك لأن الإمام الجواد [عليه السلام]، كان قد قدم إلى خراسان في سنة202ﻫ.ق لزيارة أبيه الإمام الرضا [عليه السلام]..

قال في تاريخ بيهق: إنه عبر البحر من طريق طبس مسينا(2)، لأن طريق قومس لم يكن مسلوكاً في ذلك الوقت، وصار مسلوكاً في عهد قريب.

ـــــــــــــــ

(1) المناقب لابن شهرآشوب ج4 ص388و389، والبحار ج50 ص56و92. ولتراجع هذه القضية أيضاً في: كشف الغمة ج3 ص134 عن ابن طلحة، وص135 عن كتاب لم يحضر المؤلف آنئذٍ اسمه، وجلاء العيون ج3 ص107 والصواعق المحرقة ص204 ونور الأبصار ص161 والصراط المستقيم ج2 ص202 وينابيع المودة ص365 والاتحاف بحب الأشراف ص168 ـ 170 والفصول المهمة للمالكي ص252/253. والإمام الجواد لمحمد علي الدخيل ص74 عن أخبار الدول ص116.

(2) لعل الصحيح: سيفاً، أي ماداً على سيف البحر وساحله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 71/

فجاء من ناحية بيهق ونزل في قرية «ششتمد» وذهب من هناك إلى زيارة أبيه على بن موسى الرضا سنة 202ﻫ الخ(1)..

ومن البعيد أن لا يكون المأمون قد رآه حينئذٍ، وأبو ولي عهده، وهو أيضاً إما كان عقد له على ابنته أم الفضل او سماها له..

باء: النقد: إن هذه الرواية توحي بأن الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام] قد كان يلعب مع الصبيان حينئذٍ، حيث ذكرت: أنهم كانوا يلعبون، وهو واقف معهم، إلى أن مر عليهم المأمون، وذلك مما لا يمكن قبوله.. وأيضاً.. فإن البعض يعتقد: أنه [عليه السلام] كان بالمدينة إلى أن أشخصه المأمون إلى بغداد(2).

ونقول: أما بالنسبة للأمر الأول، فإن وقوفه [عليه السلام] في مكان يتفق وجود بعض الصبيان فيه، لا يعني: أنه [عليه السلام] كان يلعب معهم وإلا لصرحت الرواية بذلك ولم تكتف بالقول: إنه كان واقفاً معهم، بل ليس في الرواية: أنه [عليه السلام] قد تعمد أن يكون معهم، وفي جملتهم. فلعله كان واقفاً أمام داره، واتفق وجود الصبيان كانوا يلعبون أيضاً بل لا يبعد أن يكون قد وقف معهم ليعلمهم ويرشدهم، ويوحي إليهم بالمفاهيم الإنسانية، بحسب ما يملكونه من استعداد للفهم والتعقل. وقد نجد الكثير من الحالات التي من هذا القبيل في حياتنا الحاضرة أيضاً. وعلى كل حال.. فإن وقوفه معهم لم يكن للعب قطعاً.. كيف وقد حمل إليه علي بن حسان الواسطي إلى المدينة بعض الآلة التي للصبيان ليتحفه بها، قال علي:

ـــــــــــــــ

(1) أعيان الشيعة ج2 ص33.

(2) راجع: هامش البحار ج50 ص92.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 72/

«فدخلت، وسلمت. فرد علي السلام، وفي وجهه الكراهة. ولم يأمرني بالجلوس. فدنوت منه، وفرغت ما كان في كمي بين يديه. فنظر إلي نظرة مغضب، ثم رمى يميناً وشمالاً، ثم قال:

ما لهذا خلقني الله، ما أنا واللعب؟!

فاستعفيته، فعفا عني، فخرجت(1)».

كما أن صفوان الجمال، قد سأل أبا عبد الله [عليه الصلاة والسلام] عن صاحب هذا الأمر. فقال: «صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب(2)».

وأما بالنسبة للأمر الآخر.. فإن حمل المأمون له إلى بغداد، لا يعني: أنه قد التقى به من أول يوم. وقد نرى أن البعض يستقدمه الخليفة، وتمر الأيام والليالي الكثيرة، وربما الأشهر، قبل أن يتهيأ له اللقاء به، هذا بالإضافة إلى أن النص المتقدم يصرح بأن المأمون قد خرج إلى الصيد قبل أن يلتقي به [عليه السلام].

ويتأكد ما نقول هنا: إذا عرفنا: أن من جملة الأهداف الهامة التي كان يرمي إليها المأمون من استقدامه له هو أن يكون على مقربة منه، ليتهيأ له الإشراف(3) بواسطة عيونه ورقبائه على مجمل تحركاته، واتصالاته، التي يكون

ـــــــــــــــ

(1) دلائل الإمامة ص212/213 والبحار ج50 ص59، وإثبات الوصية ص215..

(2) المناقب لابن شهرآشوب ج4 ص317.

(3) ويرى المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي: أنه قد يكون التأخير في اللقاء يهدف إلى ضبط تحركاته، ولقاءاته مع الناس ومن أجل أن التأخير في اللقاء، والتسويف فيه، فيه استخفاف وإهانة، وذلك هو أحد أهدافهم في كثير من مواقفهم من الأئمة [عليهم السلام] كما فعله المتوكل مع الإمام الهادي [عليه السلام] حينما أشخصه إلى سامراء، حيث أنزله في دار الصعاليك.. ويكون نتيجة كلا الأمرين أيضاً شعور الإنسان في قرارة نفسه بالضعة والمهانة، الأمر الذي يضعفه في أهدافه وأغراضه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 73/

للمأمون حساسية خاصة تجاهها.. وقد سبق للمأمون مع الرضا [عليه الصلاة والسلام] ما يؤكد هذا المعنى، ويسير في نفس الاتجاه.

والمأمون.. هو ذلك الرجل العجيب، الذي يهتم برصد كل تحركات خصومه، أو من يرى فيهم مشروع خصوم له في وقت ما.. وقد تقدم بعض النصوص الدالة على ذلك فلا نعيد..

جيم: التحليل: في هذا الحدث إشارة عديدة هامة، إن بالنسبة لموقف التقي الجواد [عليه الصلاة والسلام].. وإن بالنسبة للخليفة المأمون.. ونحن نكتفي هنا بالإشارة والإلماح إلى ما يلي:

إن الخليفة الذي من ابسط مميزاته، هو اهتمامه بالحفاظ على أبهة الملك، وجلال السلطان.. لم يكن ليرجع عن صيده، لأمر عادي وتافه، وبهذه السرعة.. حتى أن ذلك الصبي كان لا يزال يقف مع أترابه أولئك..

بل لابد أن يكون الذي أرجعه عن مقصده، من جلائل الأمور، وعظائمها، ومما له مساس قوي بأساس الملك، ومصير النظام كله. ولاسيما إذا كان رجوعه عن مقصده بهذه الصورة المثيرة، وغير المألوفة، مصحوباً بحركات تشبه حركات الممرورين، أو المشعوذين!!، ومن أجل امتحان صبي يقف مع أترابه!!

فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن المأمون قد كان ـ في الحقيقة ـ بصدد إبطال ما يدعيه أئمة أهل البيت [عليهم الصلاة والسلام] من العصمة، ومن العلم الخاص، الذي تلقوه عن آبائهم [عليهم الصلاة والسلام]، عن النبي الأكرم [صلى الله عليه وآله]، عن الله جل وعلا..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 74/

وهو مع أنه كان قد جرب ذلك مع الإمام الرضا [عليه السلام] من قبل، وفشل في تجربته تلك.. إلا أنه ـ وهو يرى صغر سن الإمام محمد التقي الجواد [عليه السلام] ـ لعله قد استبعد كثيراً: أن يكون [صلوات الله وسلامه عليه] قد تمكن ـ وهو في هذه السن ـ مع تحصيل العلوم والمعارف اللازمة في مقام التحدي، والتي تؤهله للفلج والظفر في مقام الحجاج، والخصام..

وبعد.. فإن سؤالاً يبقى يتردد حائراً هنا، وهو: ماذا عسى كان هذا الخليفة سيفعل، له أنه لم يجد عند هذا الصبي الصغير، الجواب الكافي، والشافي على سؤال عن أمر غيبي، بكل ما لهذه الكلمة من معنى..

فهل سيقتله ـ كما صرح به النص المتقدم على لسان المأمون نفسه: «قد دنا حتف ذلك الصبي على يدي». ـ ليشتهر بين الكافة في أرجاء العالم الإسلامي بأسره: أن سبب قتله هو جرأته وعجزه عن الإجابة الصحيحة في أمر يدعي لنفسه العلم به؟ وليبطل من ثم هذا الأمر فيه، وفي ولده من بعده، وحتى في آبائه من قبل.. وذلك لأن الهدف الأول والأخير له هو تكذيب هذا الأمر فيهم.. كما ألمح إليه هو نفسه بقوله: «صدقت، وصدق أبوك وصدق جدك، وصدق ربك».. هذا الكلام الذي يتضمن اعترافاً له: بان لديه ـ حقاً ـ ذلك العلم الخاص الذي يدعيه لنفسه، وأنه تلقاه من أبيه، عن جده، عن ربه سبحانه أم أن كلمته تلك كانت نزوة عارضة، لا تعكس الرأي السياسي الهادئ والمتزن لذلك الرجل الماكر الداهية.. وأن رأيه النهائي والأخير فيه والحالة هذه هو أنه سوف يبقيه هكذا.. فارغاً من معنى الإمامة، ومن خصائصها، ليكون سنداً قوياً، وحجة دامغة، على كل من يحاول أن يدعيه ذلك له، في مختلف الظروف والأحوال، وبذلك ينتهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 75/

أمره، ويضمحل ويتلاشى أتباعه ومحبوه، بصورة طبيعية، ومن دون أي جهد، أو عناء؟. لا ندري.. ولعل الفطن الذكي والخبير بمكر المأمون وأحابيله هو الذي يدري.

الرعب القاتل:

وأخيراً.. فإننا لا نشك في أن المأمون، بعد ان جرى بينه وبين الإمام محمد التقي [عليه السلام] ما جرى في هذا اللقاء الأول معه، في قصة الباز الأشهب.. وبعد أن بهره ذلك الجواب الصاعق منه عليه التحية والسلام.. قد تجسدت أمامه خطورة الموقف، وصعق لعظم الهول، وجليل الخطب، وأدرك أنه لابد له من مواجهة هذا الأمر بجدية أعظم، ومكر أشد، إذا أراد أن يطمئن إلى مصيره ومستقبله في الحكم، ومعه بنو أبيه العباسيون.

التجربة.. المأساة:

ولقد عرفنا فيما سبق.. أن المأمون كان يهتم بجمع العلماء، وأرباب الكلام من أهل الفرق والملل، ليناظروا الإمام الرضا [عليه السلام]، على أمل ان يقطعه واحد منهم ولو في مسألة واحدة.. وقد كثرة هذه المناظرات وزادت بشكل ظاهر.. ولكن المستفيد الحقيقي منها كان هو الإمام [عليه السلام] نفسه وليس المأمون.. حتى أدرك المأمون ذلك أخيراً، فندم حيث لا ينفعه الندم، ثم اقترف جريمته النكراء بحق الإمام الرضا [عليه السلام]، حسبما هو معروف ومشهور.. والآن.. فلماذا لا يجرب هذا الأسلوب مرة أخرى مع ولده الجواد، وهو لا يزال طفلاً صغيراً، لا خبرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 76/

له بأساليب الكلام والجدل.. وإذا كان قد ألهمه الله تعالى ليجيب عن مسألة المأمون له عما صاده البازي الأشهب.. فلعلها كان رمية من غير رام، ولعل هذا الإلهام لا يتكرر.. ولعل.. ولعل.. وتجربة واحدة، لو أحكم تدبيرها، ووضعت الخطة لها بدقة وعناية، لربما تنهي هذا الأمر، وتضع حداً لجميع المشاكل المحتملة، وتقضي على مصدر كل المتاعب والأخطار، وإلى الأبد..

وإن لم تنجح هذه التجربة، بتحقيق هذا الهدف الكبير، فإن بإمكانها أن تحقق قسطاً هاماً في هذا السبيل..

وكانت التجربة التي خاضها المأمون بكل ما لديه من حنكة ودهاء، ورصد لها كل ما يملك من رصيد معنوي وسياسي، ونفذها بعناية فائقة، ودقة لا تجارى.. ولكن هل استطاع المأمون أن يؤمن حتى الحد الأدنى من النجاح في هذا المجال؟! هذا ما سوف يتضح لنا فيما يلي من صفحات..

الزواج.. المؤامرة:

إن المأمون العباسي، كان قد زوج ابنته أم الفضل من الإمام الجواد [صلوات الله وسلامه عليه]، حينما عقد لأبيه الرضا [عليه السلام] بولاية العهد بعده، حسبما صرحت به المصادر التاريخية الكثيرة(1)، أو أنه كان قد سماها آنئذٍ، على أقل تقدير(2)، وذلك من أجل تعمية مقاصده من البيعة

ـــــــــــــــ

(1) البداية والنهاية ج10 ص269 وتاريخ الطبري ط الاستقامة ج7 ص149 ومروج الذهب ج3 ص441 وعيون أخبار الرضا ج2 ص147 والبحار ج49 ص132 وتذكرة الخواص ص352 عن الصولي وغيره.

(2) أعيان الشيعة ج2 ص33.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 77/

لأبيه على الناس، ولمقاصد أخرى، أشرنا إلى جانب منها في مجال آخر(1).

ولكننا نجد: أنه حينما توفي أبوه، وكان لا يزال طفلاً، لا يتجاوز عمره الثماني سنوات، وبعد أن استقدمه هو نفسه من المدينة إلى بغداد ـ نجده ـ أنه يستجيب بيسر وسهولة لطلب بني أبيه العباسيين منه: أن لا يسلم إليه زوجته، إلا بعد امتحانه بالمسائل الصعبة، التي يلقيها عليه يحيى بن أكثم.. بل أنه هو الذي اقترح عليهم ذلك، حسب ما في أيدينا من نصوص. وتلمح بعض النصوص التاريخية إلى: أن العباسيين ما كانوا ليجرؤوا على هذا الطلب منه، لولا أنه هو الذي طرحه عليهم، وأغراهم به..

وقبل أن نمضي في تحليل هذا الحدث الفريد من نوعه، نرى أن من المناسب إيراد ملخص عنه أو على الأقل فقرات قليلة منه أولاً.. فنقول:

يقول النص التاريخي: إنه لما عزم المأمون على أن يزوج ابنته أم الفضل من ابي جعفر [عليه السلام]، قال له العباسيون:

«أتزوج ابنتك، وقرة عينك صبياً لم يتفقه في دين الله، ولا يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضاً من سنته؟ ـ ولأبي جعفر إذ ذاك تسع سنين ـ فلو صبرت حتى يتأدب، ويقرأ القرآن، ويعرف الحلال من الحرام؟!».

فقال المأمون: «إنه لأفقه منكم، واعلم بالله ورسوله، وسنته، وأحكامه، وأقرأ لكتاب الله منكم، وأعلم بحكمه ومتشابه، وناسخه ومنسوخه، وظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وتنزيله وتأويله منكم،

ـــــــــــــــ

(1) راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص209/210.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 78/

فاسألوه، فإن كان الأمر كما وصفتم قبلت منكم» وفي نص آخر قال لهم: «ويحكم، إني أعرف بهذا الفتى منكم.. إلى أن قال: فإن شئتم، فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله..».

وفي نص ثالث، بعد أن ذكروا: أنه صبي صغير السن، قال: «كأنكم تشكون في قولي، إن شئتم فاختبروه، أو ادعوا من يختبره، ثم بعد ذلك لوموا فيه، أو اعذروا، قالوا: وتتركنا وذلك؟

قال: نعم.

قالوا: فيكون ذلك بين يديك تترك من يسأله عن شيء من أمور الشريعة، فإن أصاب لم يكن في أمره لنا اعتراض، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين. وإن عجز عن ذلك كفينا خطبه، ولم يكن لأمير المؤمنين عذر في ذلك.

فقال لهم المأمون: «شأنكم وذاك، متى أردتم..».

ثم تذكر الروايات إطماعهم يحيى بن أكثم في هدايا، على أن يحتال على أبي جعفر بمسألة في الفقه، لا يدري ما الجواب فيها.. ثم تذكر مساءلته إياه بحضور: «خواص الدولة، واعيانها، من أمرائها، وحجابها، وقوادها»..

ثم تذكر جوابه [عليه الصلاة والسلام] بذلك الجواب الدقيق والشامل، الذي لم يكن يتوقعه أحد حتى السائل نفسه، حتى ذهل يحيى بن أكثم وارتبك، وتحير في أمره. وتقول الرواية أخيراً: إن المأمون «التفت إلى أهل بيته، الذين أنكروا تزويجه، فقال: هل فيكم من يجيب هذا الجواب؟!

قالوا: لا والله، ولا القاضي يا أمير المؤمنين، كنت أعلم به منا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 79/

فقال: ويحكم، أما علمتم: أن أهل هذا البيت ليسوا خلقاً من هذا الخلق؟ أما علمتم: أن رسول الله [صلى الله عليه وآله] بايع الحسن والحسين، وهما صبيان، ولم يبايع غيرهما طفلين الخ».

ثم تذكر الرواية: أنه قد زوجه ابنته في نفس ذلك المجلس(1)، أما انتقالها إليه، فكان في بلدة تكريت في سنة خمس عشرة ومئتين قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر الكاتب: «خرج امير المؤمنين من الشماسية إلى البردان، يوم الخميس، صلاة الظهر، لست بقين من المحرم، سنة خمس عشرة ومئتين، وهو اليوم الرابع والعشرين من آذار. ثم سار حتى اتى تكريت. وفيها قدم محمد بن علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد بن علي، بن الحسين بن علي بن أبي طالب من المدينة، في صفر ليلة الجمعة..

فخرج من بغداد حتى لقي أمير المؤمنين بتكريت، فأجازه، وأمره أن يدخل عليه امرأته، ابنة امير المؤمنين، فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف، التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله، حتى اتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة، فأقام به(2)..».

ـــــــــــــــ

(1) راجع فيما تقدم: الاتحاف بحب الأشراف ص171/172 وتحف العقول ص451 ـ 453، والاختصاص ص98 ـ 101 والاحتجاج ج2 ص240ـ 245 وكشف الغمة ج3 ص144 والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص381 وجلاء العيون ج3 ص108 والصواعق المحرقة ص204 ونور الأبصار ص161 ودلائل الإمامة ص206 ـ 208 وروضة الواعظين ص238، فما بعدها، والإرشاد للمفيد ص359و360 فيما بعدها وأعلام الورى ص351 فما بعدها والبحار ج50 ص75 عن الاحتجاج، وعن تفسير القمي، والإمام محمد الجواد، لمحمد علي دخيل ص37 ـ 41 وأعيان الشيعة ج2 ص33 ـ 34. والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص253 ـ 256.

(2) بغداد ص142/143، وقد نبهني إلى وجود هذا النص بعض المحققين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 80/

مع الحدث في أسلوبه وفي مضمونه السياسي:

ولقد كان المأمون يعلم بمقام الأئمة [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين]، وأن الحق معهم ولهم دون كل من سواهم، وأنهم هم أئمة الهدى، والعروة الوثقى، والحجة على أهل الدنيا، وذلك بنص من الرسول الأكرم [صلى الله عليه وآله]، وبتأييد من القرآن الكريم..

وكان يعلم أيضاً أنهم [صلوات الله وسلامه عليهم] أعلم أهل الأرض، وأنهم أتقى الناس، وأعبدهم، وأكملهم، وأفضلهم..

ولكنه مع كل ذلك.. كان يجهد لإطفاء نور الحق، وطمس معالمه وآثاره، ما وجد إلى ذلك سبيلاً.. وذلك طمعاً منه بالدنيا، ورغبة في ظلها الزائل، ولذتها العاجلة.. وإذا كان يرى الآن: أن الإمام من اهل البيت [عليهم السلام] صغير السن.. وإذا كان يحتمل لديه: أنه [عليه السلام] يمكن أن لا يكون قد تمكن من تلقي العلوم والمعارف من أبيه، الذي لم يعش معه سوى فترة قصيرة جداً.. أو على الأقل هو يحتمل: أنه [عليه السلام] لم يكن في مستوى يجعله قادراً على فهم الدقائق العلمية، وحل معضلات المسائل..

ـ إذا كان كذلك ـ فإن عليه أن يقوم بتجربة ما في هذا المجال وهكذا كان.. فنجده هو نفسه يطلب من العباسيين: أن يمتحنوا أبا جعفر [عليه السلام].. ولكنه يظهر نفسه. بمظهر الواثق من أنه [عليه السلام] قادر على الإجابة على أسئلتهم رغم صغر سنه..

وهذا التظاهر منه، عدا عن أن من شأنه أن يستفز بني العباس، ويغريهم بالمزيد من الإصرار على إسقاط الإمام [عليه السلام]، وتحطيم شخصيته.. فإنه يجعله هو غير مسؤول مباشرة عن حدث كهذا، مهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 81/

كانت نتائجه.. كما أنه لو كانت النتائج على خلاف ما يرغب، يمنحه الفرصة والمبرر للاستمرار في خطته المرسومة، القاضية باحتواء الإمام، ورصد كل حركاته وسكناته.. إلى أن تحين الفرصة المناسبة لإيراد الضربة الأخيرة، في عملية التصفية الجسدية، التي يعد لها ـ إن اقتضى الامر ذلك ـ في الوقت المناسب..

هذا كله.. عدا عن أن الفرصة تكون متاحة له للنيل من شخصية الإمام، وإسقاطه عن الاعتبار باساليبه الأخرى، كما سنلمح إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى..

والمأمون.. الذي كان قد فعل بالإمام الرضا [عليه السلام] من صنوف المكر والتآمر ما فعل، حتى لقد اغتاله أخيراً بأسلوب ادنى من أن يقال فيه: إنه أسلوب جبان وعاجز، هو نفسه المأمون الذي يتعامل الآن مع الإمام الجواد [عليه السلام]، ولعله أصبح أكثر إصراراً على المضي في خططه الماكرة، الرامية لإنهاء أمر الإمامة والإمام، مادام أنه يرى فيهما خطراً جدياً، يتهدد وجوده ومستقبله في الحكم، ومعه بنو أبيه العباسيون..

ولا نجد فيما بأيدينا من نصوص ووقائع ما يبرر لنا الاعتقاد، بان المأمون قد أصبح بين عشية وضحاها تقياً ورعاً، ومعتقداً بإمامة الأئمة، ومهتماً بإظهار علومهم، ومعارفهم التي اختصهم الله تعالى بها. وأما فيما يرتبط بتزويجه ابنته أم الفضل للإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام](1)،

ـــــــــــــــ

(1) وبما أننا لا نشك في أن الإمام [عليه السلام] قد كان يعلم حقيقة نوايا المأمون وأهدافه من أمور كهذه.. ويعلم أيضاً: أن هذا الرجل هو نفسه الذي ارتكب جريمة قتل أبيه الإمام الرضا [عليه السلام] بالأمس.. فإن هنا سؤالاً طرحه المحقق البحاثة الشيخ الأحمدي حفظه الله، لابد من الإجابة عليه.. والسؤال هو:

هل كان هذا الزواج بتأثير ضغط مارسه المأمون نفسه على الإمام الجواد وعلى أبيه [عليهما السلام]=

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 82/

وإظهار المحبة والإكرام له، فليس بأكثر من تزويجه ابنته لأبيه من قبل، وإظهار المحبة والتبجيل والإكرام له، حتى لقد عهد إليه بولاية العهد بعده.. فإذا كان ذلك عن دهاءٍ ومكر، وسوء نية ـ كما ثبت بشكل قاطع ـ فليكن هذا كذلك أيضاً، مادامت الدلائل القوية، والشواهد والمبررات لاستمرار هذا المكر، وذلك الدهاء، لا تزال قائمة.

ومما يبرر لنا الاعتقاد بأن القضية المتقدمة قد كانت برمتها من كيد المأمون ومكره، «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» كما قد حدث ذلك فعلاً: أنه هو نفسه أيضاً: قد «قال لحيى بن أكثم: اطرح على أبي جعفر، محمد بن الرضا [عليهما السلام] مسألة تقطعه فيها..

فقال: يا أبا جعفر، ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا، أيحل له أن يتزوجها؟ فقال [عليه السلام]: يدعها حتى يستبرئها.. إلى أن قالت الرواية: فانقطع يحيى الخ(1)..».

وهو يعني: أن المأمون نفسه قد كان بصدد العمل على أن ينقطع الإمام [عليه السلام]، ولو في مسألة واحدة كما كان دأبه مع أبيه الرضا [عليه السلام] من قبل، حسبما أوضحناه..

ـــــــــــــــ

= من قبل؟! أم أن الإمام نفسه كان يرى المصلحة في زواج كهذا. كزواج النبي [صلى الله عليه وآله] بعائشة وسواها؟!

ونقول في الجواب: لعل الشق الأول من السؤال هو الراجح.. فإن مصلحة المأمون ـ وليس الإمام [عليه السلام] ـ في زواج كهذا قد كانت ظاهرة جداً.. فراجع كتابنا الحياة السياسية للإمام الرضا [عليه السلام] ص208 ـ 219.

(1) تحف العقول ص454. ثم تذكر الرواية أسئلة الإمام ليحيى حول المرأة التي تحل لرجل ثم تحرم عليه مرات كثيرة في يوم واحد، وعدم قدرة يحيى على الإجابة على ذلك. وإحالته الإجابة على الإمام نفسه..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 83/

ومهما يكن من أمر، فلقد كانت التقديرات المأمونية، والعباسية على حد سواء، تتجه نحو الاعتقاد، ولا أقل من الاحتمال بأن طفلاً بهذه السن، حتى ولو جرى على لسانه ما جرى في قضية ما صاده البازي الأشهب، ولعلها كانت رمية من غير رام ـ لن يتمكن من الإجابة على تلك المسائل الصعبة ـ فإن من البعيد ـ بنظرهم ـ أن يكون [عليه السلام] قد تمكن من تلقي العلوم والمعارف الكافية من أبيه في الفترة الوجيزة التي عاشها معه، حيث أنها كانت فترة قصيرة جداً من جهة، وكان هو أيضاً ـ بحسب العادة ـ غير قادرٍ على استيعاب ما يلقى إليه من علوم ومعارف، حسبما هو معروف ومألوف، من جهة أخرى. فلماذا إذن.. لا يغتنمون الفرصة السانحة، لإيراد ضربتهم القاصمة، والحاسمة، والنهائية؟

وإذا طرح يحيى بن أكثم على هذا الإمام الصغير بعض مسائله الصعبة، وعجز عنها، بمحضر من الأعيان، والقواد، والحجاب وغيرهم، فلسوف يظهر للناس جميعاً: أن إمام الشيعة، وقائدهم طفل صغير، لا يعقل، ولا يعلم شيئاً، وأن ما يدعونه في أئمتهم، فإنما هو زخرف باطل، وظل زائل، لا حقيقة له، ولا واقع وراءه..

نعم.. وقد جاءت صياغة هذا الحدث بنحو طريف وملفت، يعطي المأمون الفرصة والمبرر للامتناع عن تسليم الإمام الجواد [عليه السلام] زوجته، التي كان قد عقد له عليها منذ سنوات، أولا أقل كان قد سماها له في احتفال عام، وفي حدث نادر لم يبق أحد في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف إلا وتعجب منه، وتتبع أخباره بدقة وحساسية متناهية..

وإذا استطاع أن يجد المبرر الآن للامتناع عن تسليم هذا الرجل، ـ الذي يدين شطر هذه الأمة بإمامته ـ زوجته، فإن ذلك لسوف يشيع بين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 84/

الناس، وفي جميع الأقطار، ولاسيما بملاحظة نور الحضور في ذلك الاجتماع، وأهميتهم، وسعة نفوذهم، وسيصبح حديث كل الندوات والمحافل: أن إمام الشيعة قد حرم زوجته، وهي ابنة أعظم رجل في العالم الإسلامي، يهتم الناس بكل ما يتفق له، أو معه، ويصدر عنه، وبيده كل أجهزة الإعلام والتشهير، ولسوف يبرر لهم هذا الحرمان، بأنه قد كان بسبب عيّ، وجهل هذا الإمام في أعظم ما يدعيه لنفسه، ويدعيه له كل أتباعه ومحبيه. ولكن أجوبة الإمام [عليه السلام] الجامعة والدقيقة، والقاطعة، قد قطعت الطريق على المأمون، وعلى بني أبيه، وجعلت الأمور تسير في غير صالحه، وعلى خلاف ما يريد، وبالذات في الاتجاه المضاد لرغباته وميوله.

مع محاولات فاشلة أخرى:

وقد عرفنا أن المأمون لم يقف في محاولاته للنيل من الإمامة، عن طريق إفراغها من محتواها العلمي.. عند حد ما جرى أمام رجال الدولة بين يحيى بن أكثم والإمام [عليه السلام] بإصرار من العباسيين.. بل لقد رأيناه ـ حسبما أشرنا إليه ـ يعود فيطلب من يحيى بن أكثم: أن يسأل الإمام الجواد [عليه السلام] مسألة يقطعه فيها فوجد لدى الإمام [عليه السلام] الجواب القاطع، والبرهان الساطع، وكأني به [عليه السلام] يبتسم آنئذٍ بمرارة وسخرية، ولسان حاله يقول:

إن عادت العقرب عندنا لها                     وكانت النعل لها حاضرة

وفي قضية أخرى أيضاً، يقدم فيها يحيى بن أكثم على طرح أسئلة على الإمام، فيما يرتبط بفضائل أبي بكر وعمر ـ وذلك بحضور جماعة كثيرة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 85/

وفيهم المأمون نفسه(1) ـ ونعتقد ـ أن يحيى لم يكن يعلم برضاه به، وموافقته عليه..

وطبيعي: أن الإمام [عليه السلام]، إذا قبل بتلك الكرامات والفضائل، التي تنسب إليهما، فإن شيعته وأتباعه لسوف يرتابون بالأمر، لعلمهم بأن ذلك خلاف ما عرفوه عنه وعن آبائه [عليهم السلام]، وخلاف ما ثبت لديهم في هذا المجال.. ولسوف يوقعه ذلك في تناقض صريح معهم.

وإذا أنكر تلك الفضائل وردها، فإن عامة الناس وأرباب سائر الفرق، لسوف يثورون ضده، ولعل ذلك يتم بتحريض من المأمون نفسه، من وراء الستار، وقد لا يرضيهم حينئذٍ إبعاده عن موقعه، الذي ترى السلطة نفسها مضطرة لأن تضعه فيه.. فيطالبون بما هو أشد وأعظم، وأخطر وأدهى، ليس بالنسبة لشخص التقي الجواد [عليه السلام] وحسب، وإنما بالنسبة لكل أتباعه ومحبيه في سائر الأقطار والأمصار.. ولكننا نجد الإمام [عليه السلام] قد استطاع في إجابته على تلك الأسئلة أن يحتفظ بخطه الصحيح ويعطي رأيه الصائب في الأمور التي طرحت عليه من جهة، ومن جهة أخرى فقد استطاع أن يسد الطريق أمام ظهور أي تشنج غير مسؤول، سواء على مستوى العامة من الناس، أو على مستوى أهل العلم والمعرفة، الذين يخالفونه في الرأي في هذه المسائل. بالإضافة إلى أنه لم يُبْقِ أي مجال لاستغلال غير مسؤول، من قبل من كانوا يترصدون الفرصة لذلك.. وعلى رأسهم المأمون العباسي بالذات..

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الاحتجاج ج2 ص245 ـ 248 والبحار ج50 ص80 ـ 83.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 86/

حيث أنه [عليه الصلاة والسلام] قد طرح القضية بشكل علمي هادئ، قائم على الاستدلال والمنطق، الذي لم يجد أحد عنه محيصاً، مع التركيز على التهذيب في الكلمة، والرصانة في التعبير، وفي الأسلوب والسجاحة والسماحة في الأخلاق..

ملاحظات ذات مغزى:

ونلاحظ أخيراً: إننا لا نجد لهذه المناظرات العلمية، التي كان المأمون يهتم بها في عهد الرضا [عليه الصلاة والسلام] بما لا مزيد عليه، لا نجد لها أثراً فيما بعد ذلك، سوى هذه الأحداث الثلاثة التي أشرنا إليها آنفاً، وأنها قد جرت بين يحيى بن أكثم والإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام]، بإغراء من المأمون نفسه، علناً تارة، وفي الخفاء أخرى.

وقد اختفت رغبة المأمون بجمع العلماء، وإقامة مجالس المناظرة مع الأئمة [عليهم السلام] فجأة، وبفعل ساحر، وبصورة تامة ونهائية، فسبحانه الله، مقلب القلوب والأفئدة، والمطلع على السرائر، وما تكنه الضمائر!!

نعم سبحان الله، علام الغيوب!! وستار العيوب!! وكاشف الكروب!!

قد يخدع السراب:

وبعد كل ما تقدم.. فإننا نعلم: أن قول البعض:

«لقد كان قصد المأمون من عقد مجالس المناظرة مع الإمام الرضا [عليه السلام] لزعزعة مركزه، ليهبط به بينما كان قصده من المناظرة مع الإمام أبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 87/

جعفر [عليه السلام]: أن يظهر للملأ فضله(1)..».

لا يستند إلى أساس قوي، ولا يعتمد على ركن وثيق، فإن المأمون كان هو المأمون، لم يتغير، ولم يتبدل، فلم يكن يوماً شيطاناً، ويوماً إنساناً.. بل كان أحدهما في يوميه معاً، والوقائع والأحداث التي سبقت وتلت، هي التي تثبت أيهما كان!!

ومهما يكن من امر، فقد غر ظاهر المأمون كثيرين من أرباب العلم والفضل، فتوهموا: أنه إنما كان يكرم الإمام التقي الجواد [عليه السلام] على الحقيقة، وأنه كان يعتقد بفضله، وعلمه، وأنه كان يؤده ويحبه، حتى أحله محل مهجته الخ.. على حد تعبيرهم(2).

المولود المبارك:

هذا.. ولكن رغم كل تلك المؤامرات والدسائس الرامية إلى الحط من الإمام الجواد [عليه السلام] في المناسبات المختلفة، فإن الإمام [صلوات الله وسلامه عليه] قد بقي القمة الشامخة، لم تدنسه الأهواء، ولم تنل منه العوادي. حتى ليقول النص التاريخي:

«احتال المأمون على أبي جعفر [عليه السلام] بكل حيلة، فلم يمكنه فيه شيء(3)».

ـــــــــــــــ

(1) الإمام الجواد، لمحمد علي دخيل ص65.

(2) راجع الإرشاد للمفيد، وأعلام الورى، وغير ذلك من المصادر التي تقدمت لقضية الزواج ـ وراجع أيضاً أعيان الشيعة ج2 ص33 ـ36. وسيأتي ما يشير إلى ذلك في العنوان التالي، بعد الفقرات التي نقلناها من زيارته [عليه السلام] مباشرة..

(3) الكافي ج1 ص413 والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص396 والبحار ج50 ص61.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 88/

نعم.. لم يمكنه من شيء، وكان [عليه السلام] يزداد عظمة ونفوذاً، ويزيد أمره تجذراً ورسوخاً بشكل مرعب ومخيف للهيئة الحاكمة، التي كانت تمسك بأزمة الأمور.. وقد استطاع [عليه السلام] أن يجتاز بالإمامة والأمة ذلك المخاض العسير والمجهد، التي تعرضت له، على أحسن وأفضل ما يمكن، فركز دعائم الدين، وأقام الحجة، وأنار السبيل للمدلجين. وتجسد فيه قول أبيه الإمام المعصوم، علي بن موسى الرضا [صلوات الله وسلامه عليه] بصورة تامة وجلية:

«هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه»(1).

وعلى حسب نصٍ آخر:

«هذا المولود، الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه»(2).

كما أننا نقرأ في زيارته [عليه الصلاة والسلام]:

«هادي الأمة، ووارث الأئمة، وخازن الرحمة، وينبوع الحكمة، وقائد البركة، وعديل القرآن في الطاعة، وواحد الأوصياء في الإخلاص والعبادة. وحجتك العليا، ومثلك الأعلى، وكلمتك الحسنى، الداعي إليك، والدال عليك، الذي نصبته علماً لعبادك، ومترجماً لكتابك، وصادعاً بأمرك، وناصراً لدينك، وحجة على خلقك، ونوراً تخرق به الظلم، وقدوة تدرك بها الهداية، وشفيعاً تنال به الجنة الخ»(3).

ـــــــــــــــ

(1) البحار ج50 ص20 عن الخرائج والجرائح.

(2) أعلام الورى ص347 والإرشاد للمفيد ص358 والكافي ج1 ص258 والبحار ج50 ص23و35 عمن تقدم، وروضة الواعظين ص237 والصراط المستقيم ج2 ص167 وإثبات الوصية ص211.

(3) مفاتيح الجنان ص481 عن ابن طاووس في المزار، ومصابيح الجنان ص323.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 89/

نعم.. ولم يزل أمر الإمام [عليه السلام] يعلو، ونجمه يتألق، حتى أصبح ـ على صغر سنه ـ ممن يشار إليه بالبنان، ويقر له بالعلم والفضل المؤالف والمخالف، والعدو والصديق. ولربما تكون تلك المجالس التي كانت السلطة وراء إقامتها قد ساهمت في إظهار علمه وفضله، وانتشار صيته إلى حد بعيد.. ومن يراجع حادثة التزويج يجد الثناء العظيم عليه ـ وكان عمره آنئذٍ تسع سنين ـ حيث يذكر المأمون أيضاً: أنه «إنما اختاره لتميزه على كافة أهل الفضل علماً، ومعرفة، وحلماً، على صغر سنه». كما وأنه «لم يزل مشغولاً به، لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه، وكمال عظمته، وظهور برهانه، مع صغر سنه»(1). وقال سبط بن الجوزي: «وكان على منهاج أبيه في العلم، والتقى، والزهد، والجود(2)».

كما أن الجاحظ المعتزلي العثماني النزعة، والمنحرف عن علي [عليه السلام] وأهل بيته الأطهار، والذي كان يعيش في البصرة، والذي كان طويل الباع، وواسع الإطلاع، وقد كتب في كثير من الفنون، التي كانت شائعة في عصره، والذي كان معاصراً للإمام الجواد، ولأبنائه من بعده [عليهم السلام] ـ الجاحظ هذا ـ قد جعل الإمام الجواد [عليه الصلاة والسلام]: «من الذي يعد من قريش، أو من غيرهم، ما يعد الطالبيون في نسق واحد، كل واحد منهم: عالم زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون: ابن ابن، ابن ابن، هكذا إلى عشرة، وهم: الحسن بن علي، بن محمد، بن علي، بن موسى، بن

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص254و253 والصواعق المحرقة ص204 ونور الأبصار ص161 وروضة الواعظين ص237 وكشف الغمة ج3 ص143و160 وأعلام الورى ص350/351 والإرشاد للمفيد، وغير ذلك مما تقدم في حديث الزواج..

(2) تذكرة الخواص ص358/359 وعنه الإمام الجواد لمحمد علي دخيل ص72.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 90/

جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم الخ(1)..».

وقال علي جلال الحسيني: «برز على أهل زمنه في العلم، والفضل مع صغر سنه(2) وقال محمود بن وهيب البغدادي الحنفي: «وهو الوارث لأبيه علماً وفضلاً، وأجل أخوته قدراً وكمالاً(3)» وكلمات العلماء في هذا المجال كبيرة لا مجال لتتبعها(4) وعلى كل حال.. فلقد كان [عليه السلام] مورد تقدير وعناية الخاص والعام، وبلغ من حب الناس، وشغفهم به، وتشوقهم إلى رؤية طلعته البهية، وأنواره القدسية، أنه كان إذا خرج إلى شوارع العاصمة بغداد، يتراكض الناس من هنا وهناك، ويتشرفون ويقفون لرؤيته.. الأمر الذي يعطي: أنه رؤيته [عليه السلام] تعتبر حدثاً هاماً بالنسبة إليهم.. «قال قاسم بن عبد الرحمن ـ وكان زيدياً ـ قال: خرجت إلى بغداد، فبينا أنا بها، إذ رأيت الناس يتعادون، ويتشرفون، ويقفون. فقلت: ما هذا؟! فقالوا: ابن الرضا. ابن الرضا. فقلت: والله، لأنظرن. فطلع على بغل أو بغلة، فقلت الخ(5)..»

ونعرف مدى عظمة الإمام الجواد التقي [عليه الصلاة والسلام]، من شدة تعظيم عم أبيه: علي بن جعفر الصادق [عليه السلام] له. وكان علي بن

ـــــــــــــــ

(1) آثار الجاحظ ص235، والحياة السياسية للإمام الرضا ص403 وليراجع ما هناك من التوضيح.

(2) الإمام محمد الجواد لمحمد علي دخيل ص76 عن [كتاب] الحسين لعلي جلال ج2 ص107

(3) المصدر السابق عن جوهرة الكلام ص147.

(4) راجع على سبيل المثال الإرشاد للمفيد، وإعلام الورى، وأعيان الشيعة ج2 ص33 والفصول المهمة للمالكي ص251.

(5) البحار ج50 ص64، وكشف الغمة ج3 ص153.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 91/

جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم الخ(1)..».

ونعرف مدى عظمة الإمام الجواد التقي [عليه الصلاة والسلام]، من شدة تعظيم عم أبيه: علي بن جعفر الصادق [عليه السلام] له. وكان علي بن جعفر هذا من جلة العلماء، ومن المحدثين المعروفين، وقد ترجمه العسقلاني في تهذيب التهذيب، وروى عنه الترمذي(2)، ولسنا هنا في صدد استقصاء ترجمته.. فيحدثنا الحسين بن موسى بن جعفر [عليهما السلام]، قال:

«كنت عند أبي جعفر [عليه السلام] بالمدينة، وعنده علي بن جعفر، فدنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر، فقال:

يا سيدي، يبدأ بي لتكون حدة الحديد في قبلك.

قال: قلت: يهنؤك، هذا عم أبيه..

فقطع له العرق.. ثم أراد ابو جعفر [عليه السلام] النهوض. فقام علي بن جعفر، فسوى له نعليه، حتى يلبسهما»(3).

وعن محمد بن الحسن بن عمار، قال: كنت عند علي بن جعفر، بن محمد جالساً بالمدينة. وكنت أقمت عنده سنتين، أكتب عنه ما سمع من اخيه ـ يعني أبا الحسن ـ إذ دخل عليه أبو جعفر، محمد بن علي الرضا المسجد، مسجد رسول الله [صلى الله عليه وآله]. فوثب علي بن جعفر، بلا حذاء، ولا رداء، فقبل يده، وعظمه.

فقال له أبو جعفر [عليه السلام]: يا عم، اجلس رحمك الله.

فقال: يا سيدي، كيف أجلس، وأنت قائم؟ فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه، ويقولون:

أنت عم أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل؟

فقال: اسكتوا، إذا كان الله عز وجل ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه

ـــــــــــــــ

(1) تهذيب التهذيب ـ ترجمة علي بن جعفر ـ ج7 ص293.

(2) البحار ج50 ص104 ورجال الكشي ص430 وقاموس الرجال ج6 ص437.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 92/

الشيبة، وأهل هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟!

نعوذ بالله مما تقولون بل أنا عبد الله»(1).

وفي نص آخر عنه: إن رجلاً سأله عن أبي الحسن موسى، ثم عن الإمام الرضا [عليهما السلام] فأخبره بموتهما..

فقال: «ومن الناطق من بعده؟».

قلت: أبو جعفر، ابنه.

قال: فقال له: أنت في سنك وقدرك، وابن جعفر بن محمد؟! تقول هذا القول في هذا الغلام؟!

قال: قلت: ما أراك إلا شيطاناً.

قال: ثم اخذ بلحيته، فرفعها إلى السماء، ثم قال:

فما حيلتي إن كان الله رآه أهلاً لهذا، ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلاً(2)».

ـــــــــــــــ

(1) البحار ج50 ص36 والكافي ج1 ص258 وقاموس الرجال ج6 ص437.

(2) إختيار معرفة الرجال [المعروف برجال الكشي] ص429، وقاموس الرجال ج6 ص436.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 93/

الفصل الرابع
الأسلوب الجبان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 94/

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 95/

اتق الله يا ذا العثنون:

محمد بن الريان، قال:

«احتال المأمون على أبي جعفر [عليه السلام] بكل حيلة، فلم يمكنه فيه شيء، فلما اعتل، وأراد أن يبني عليه ابنته دفع إليه مائة وصيفة، من أجمل ما يكون، إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر، يستقبلون أبا جعفر، إذا قعد في موضع الإختان..

فلم يلتفتت إليهن..

وكان رجل يقال له: مخارق، صاحب عود، وصوت، وضرب، طويل اللحية، فدعاه المأمون..

فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان في شيء من أمر الدنيا، فأنا أكفيك أمره. فقعد بين يدي أبي جعفر [عليه السلام]، فشهق شهقة اجتمع إليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده، ويغني فلما فعل ساعة، وإذا أبو جعفر [عليه السلام]، لا يلتفت إليه، ولا يميناً، ولا شمالاً، ثم رفع رأسه إليه، وقال:

اتق الله يا ذا العثنون!

قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيده إلى أن مات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 96/

قال: فسأله المأمون عن حاله.

قال: لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً(1)..

نعم.. وهذا هو جلال الإيمان، وعظمة ورهبة ووقار الإسلام..

ملاحظة: ولكن يلاحظ: أن الرواية قد نصت على أن مخارقاً لم ينتفع بيده إلى أن مات، وليس في ما بأيدينا من مصادر ما يشير إلى أنه قد كان ذا عاهة في يده.. فلعل التاريخ قد أهمل التعرض لهذا الأمر، حيث لم يجد داعياً للإشارة إليه، أو كان ثمة داعٍ لإخفائه، كما نراه في كثير من الأمور الأخرى.. أو لعل اسم مخارق قد جاء على سبيل الغلط والاشتباه، ويكون صاحب القضية شخصاً آخر، كما ربما يشير إلى محاولة الرواية إعطاء المواصفات له، ومخارق كان له من الشهرة ما يجعله في غنى عن ذكر هذه المواصفات ولربما يكون صاحب القضية هو: هارون بن مخارق، فيكون في الرواية سقط من قبل النساخ. هذا على تقدير أن يكون هارون هذا ممن كان كأبيه يتعاطى صنعة الضرب والغناء.

ومرة أخرى أيضاً:

ومرة أخرى نجد الخليفة في محاولة إخراج إبي جعفر لشيعته وأتباعه على حالة سيئة، أي سكران ينشئ، مضمخاً بالخلوق ـ وحينما يقال له إن الشيعة يقولون: «إنه لابد في كل زمان من حجة، وكلما تعرض السلطان ليضع قدر من هو بتلك المرتبة كان لهم أدل دليل على أنه الحجة« قال:

ـــــــــــــــ

(1) الكافي ج1 ص413/414 والمناقب لابن شهرآشوب ج4 ص396 والبحار ج50 ص61/62.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 97/

ليس في هؤلاء اليوم حيلة، لا تؤذوا أبا جعفر»(1) ولعل الراجح هو: أن صاحب هذه القضية هو المعتصم إذ من البعيد أن لا يكون المأمون ـ أعلم خلفاء بني العباس ـ مطلعاً على هذا الأمر لدى الشيعة.

التزوير المعتصمي:

وأخيراً.. فإننا نجد المعتصم العباسي، بمجرد أن بويع له بالخلافة، «جعل يتفقد أحواله، فكتب إلى عبد الملك الزيات: أن ينفذ إليه التقي، وأم الفضل، فأنفذ ابن الزيات علي بن يقطين(2) إليه، فتجهز، وخرج إلى بغداد. فأكرمه، وعظمه، وأرسل اشناس بالتحف إليه، وإلى ام الفضل(3)».

وهذا.. إن دل على شيء، فإنما يدل على نفوذ الإمام [عليه الصلاة والسلام]، كان قد اتسع وتعاظم بحيث جعل المعتصم، بمجرد أن بويع، يهتم بتفقد أحواله [عليه السلام] ورصدها.. وأخيراً فلا يجد حيلة إلا أن يستقدم الإمام [عليه السلام] إليه، لنفس الأهداف التي سبقت للمأمون من استقدامه له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام من قبل..

ثم هو يبذل محاولة تزويرية، تهدف إلى تبرير الإيقاع بالإمام [عليه

ـــــــــــــــ

(1) رجال الكشي ص560/561 والبحار ج50 ص94/95 وقاموس الرجال ج1 ص299.

(2) قال المحقق البحاثة السيد مهدي الروحاني حفظه الله: إن علي بن يقطين كان قد توفي قبل ذلك الزمان، أي في سنة182.ق.

ونقول: هذا صحيح. ويمكن أن يكون الصحيح هو: الحسن بن علي بن يقطين، أو أخوه الحسين بن علي بن يقطين.. ومعنى ذلك: أن في الرواية سقطاً؛ فليلاحظ..

(3) المناقب لابن شهرآشوب ج4 ص384 والبحار ج50 ص8. وأشار ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص261 فليراجع هو وغيره من المصادر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 98/

السلام]، ولكن السحر ينقلب على الساحر، فيبوء بالفشل الذريع، ويمنى بالخيبة القاتلة.. وتتلخص هذه المحاولة التزويرية الرخيصة في: «أن المعتصم دعا جماعة من وزرائه، فقال: اشهدوا لي على محمد بن علي، بن موسى زوراً، واكتبوا: أنه أراد أن يخرج..

ثم دعاه؛ فقال:

إنك أردت أن تخرج علي!

فقال: والله، ما فعلت شيئاً من ذلك..

قال: إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك..

فأحضروا، فقالوا: نعم. هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك الخ»..

ثم تذكر الرواية: أن الإمام [عليه الصلاة والسلام] دعا عليهم، فأخذ البهو يموج بهم، فطلب المعتصم منه أن يدعو الله لتسكينه، ففعل، فسكن(1) وهكذا.. فقد رأى المعتصم: أن كيده ومكره قد عاد إليه، وأن ما دبره قد انقلب ـ أو كاد ـ عليه.. فكان لابد له من اتباع أسلوب آخر أقل خطراً، وأبعد أثراً، يضمن له عدم تحرك جماهيري ضده سواء من الرافضة، أو من غيرهم، من جهة..

ويحفظ له وجوده واستمراره في الحكم، وينهي ما يرى فيه خطراً حقيقياً عليه وعلى نظام حكمه، من جهة أخرى..

فكانت المؤامرة، ثم الجريمة، التي لم تكن إلا تعبيراً عن الانهزام

ـــــــــــــــ

(1) البحار ج50 ص45/46 وفي هامشه عن: الخرائج والجرائح ص237.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 99/

المخجل والمزري للسلطة، التي تملك جميع أسباب القوة والطول، أمام نور الحق، وعظمة الفكر، ومنطق الإيمان، وجلال الإسلام..

الأسلوب الجبان:

وطبيعي أنه: بعد أن أدركت السلطة: أن اغتيال الإمامة عن طريق إفراغها من محتواها العلمي، باعتماد أسلوب الحجاج والخصام، قد أفاد دعوة أهل البيت [عليهم السلام]، وخطهم كثيراً.. وأن السلطة، بإعدادها أجواء الحجاج هذه، إنما كانت تبحث عن حتفها بظلفها، وتهيئ أسباب انتشار الدعوة ورسوخها، وتعريف الناس بها وبخصائصها.. الأمر الذي ينذر بالخطر الداهم، ويبشر بالخسران المبين والعظيم لها في مجال الحجاج والخصام، القائم على العقل والفكر، والمنطق، والبرهان، وليؤثر ذلك ـ من ثم ـ على معركتها مع هذا الاتجاه فيما سوى ذلك من مجالات، ولاسيما في المجال السياسي وبعد أن أدركت كذلك.. أن اعتماد أسلوب اغتيال شخصية الإمام [عليه السلام]، وقدسيتها في نفوس الناس، وهدر كرامتها، لا يمكن أن ينفع أو يجدي كثيراً.. بل لربما ساعد في إظهار الكثير من الخصائص والمزايا، التي يهتم الحكام بطمسها، والتعتيم عليها مهما أمكن..

وكذلك بعد أن فشلت في عملية التزوير والافتراء على الإمام [عليه السلام]، بهدف إيجاد المبرر لتصفيته بشكل علني وسافر، على النحو الذي يسمح بملاحقته بعد ذلك بحملة إعلانية مركزة، لتشويهه، والنيل من قداسته في نفوس الناس..

بعد ذلك كله.. فإن السلطة لابد أن تكون قد رأت: أنه قد يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 100/

من المفيد لها أن تفكر بالتخلص منه [عليه الصلاة والسلام]، بتلك الطريقة الجبانة، التي انتهجها أسلافهم الجبارون مع سلفه الصالح.. ألا وهي دس السم إليه [صلوات الله وسلامه عليه].. حيث أنها هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم الاعتماد عليها، من دون أن تعرضهم لمشاكل ولأخطار لربما لا يتمكن الحكم من الصمود أمامها، أو من تجاوزها بيسر وسهولة..

وكانت الوسيلة والأداة التي استخدمها في ذلك هي: بنت المأمون بالذات، والتي كانت زوجة الإمام [عليه السلام]، والرقيب لهم عليه كما نعتقد.. وكانت العدة التي أعدت للقيام بمثل هذه المهمة من أجل تنفيذها بدقة، وبأمانة، وفي الوقت المناسب..

وإذا كانوا قد حاولوا التكتم على هذه القضية إلى حد جعل الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه، وهو الرجل العظيم والدقيق النظر، يشك في إقدامهم على هذه الجريمة النكراء(1) فإننا نجد: أن الكثيرين يذكرون بالفعل: أن أولئك الحكام قد اقترفوا هذه الجريمة. تصريحاً تارة، وتلويحاً أخرى(2).

حتى أصبح الإمام الجواد التقي عليه أفضل الصلاة والسلام يعد من جملة الثمانية أعداء، الذين قتلهم المعتصم ـ الذي سمي الثمن، لكثرة

ـــــــــــــــ

(1) راجع: الإرشاد ص368.

(2) راجع: المناقب لابن شهرآشوب ج4 ص380 عن ابن بابويه، وص384 وإثبات الوصية ص219/220 وعيون المعجزات ص129 وتاريخ الشيعة ص55و57 ونور الأبصار ص163 وجلاء العيون ج3 ص112 عن المناقب وعيون المعجزات، والعياشي وسر السلسلة العلوية ص38 وتفسير العياشي ج1 ص319/320 وتذكرة الخواص ص359 ونسبه إلى الإمامية والبحار ج50 ص17و2و9و8و7 عن بعض من تقدم، وعن الروضة، ومروج الذهب ج3 ص464 وأعيان الشيعة ج2 ص35 وروضة الواعظين ص243 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص262.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 101/

الثمانيات التي اتفقت له في حياته حسبما يقولون ـ يقول الصفدي، وابن شاكر الكتبي: «وقتل ثمانية أعداء: بابك، وباطيش، ومازيار، والأفشين، وعجيف، وقاروت، وقائد الرافضة، ورئيس الزنادقة(1)» وقال ابن طاووس عليه الرحمة في دعاء كل يوم من شهر رمضان: «اللهم صلّ على محمد بن علي، إمام المسلمين، ووال من والاه، وعاد من عاداه، وضاعف العذاب على من شرك في دمه. وهو المعتصم(2)».

كلام العلامة المظفر:

وأخيراً: فقد قال العلامة الشيخ محمد حسين المظفر قدس الله نفسه:

«وكان يجمع العلماء، ليحاججوه، زعماً منه: أن يجد له زلة، يؤاخذه فيها، أو يسقط مقامه بها.

وزور عليه مرة كتباً تتضمن الدعوة لبيعته، فلا يكون مغبة ذلك، إلا إعلاء شأن أبي جعفر، وإظهار الكرامة والفضل له.. فكان المعتصم لا يزداد لذلك إلا حنقاً وغيظاً، ولا يقوى على كتمان ما يسره من الحسد والحقد، فحبسه مرة، وما أخرجه من السجن، حتى دبر الأمر في قتله، وذلك أن قدم لزوجته ابنة المأمون سماً، وحملها على أن تدفعه للإمام، فأجابته إلى ما أراد، فمات قتيلاً بسم المعتصم. وعندما شاهدت أثر السم قد بان في بدن الإمام تركته وحيداً في الدار، حتى قضى نحبه.

واحتشدت الشيعة على الدار، واستخرجوا جنازته، والسيوف على

ـــــــــــــــ

(1) الوافي بالوفيات ج5 ص139 وفوات الوفيات ج4 ص48.

(2) إقبال الأعمال ص97 والبحار ج50 ص15.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 102/

عواتقهم، وقد تعاقدوا على الموت، لأن المعتصم حاول أن يمنعهم عن تشييعه..

وتعرف من مثل هذه الحادثة كثرة الشيعة ذلك اليوم في بغداد، وقوتهم على المراس. ومن كثرة الرواة منهم تعرف كثرة العلم فيهم. ومن كثرة الحجاج والجدال، لاسيما في الإمامة تعرف قوة الحجة عندهم، وقوة الكفاح عن المذهب، واتضاح أمرهم(1)».

اللمسات الأخيرة:

وبعد كل ما تقدم.. فإننا نستطيع أن نسجل هنا الحقيقة التالية: وهي: أن الإمام الجواد [عليه السلام] قد قام بأعظم المهمات وأخطرها.. ولو أنه لم يقم طول حياته الشريفة بأي نشاط آخر، سوى ما ذكرناه من تثبيت دعائم الإمامة، وحفظ خط الوصاية والزعامة في أهل البيت [عليهم التحية السلام].. لكفاه ذلك رفعة وفخراً وعظمة ومجداً، على مدى الحياة..

فإن نفس وجوده [عليه الصلاة والسلام]، على أنه الزعيم والقائد، والوصي والإمام الذي لم يكن لكل الأعداء والخصوم أن ينالوا من موقعه، ولا من شخصيته، ولا تمكنوا من مواجهته في أعظم ما يدعيه، رغم صغر سنه، ورغم أنه لم يتلق العلوم والمعارف من أحد من الناس سوى أبيه الذي عاش معه لفترة وجيزة، لا تكاد تذكر:

ـــــــــــــــ

(1) تاريخ الشيعة ص56/57. لكن ما ذكره من السجن له [عليه السلام] وموقف الشيعة حين استشهاده لم أعثر له على مصدر الآن وهو أعلم بما قال، فإنه منقب بحاثة. ولعله استقى من مصادر أخرى ليست في حوزتي، أو لم يسعفني التقدير بالمراجعة إليها وإن كانت عندي فعلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفح103/

وبعد ذلك.. فإن نفس قبول الشيعة بهذا الأمر، والتزامهم به، وهم الطائفة التي تأخذ على عاتقها أن تكون منسجمة كل الانسجام مع المنطق والعقل، مع الدليل القاطع، والبرهان الساطع، مهما كانت الظروف، وأياً كانت النتائج..

نعم إن ذلك لهو من أعظم الأدلة القاطعة على أحقية هذا الخط، وعلى سلامة هذا النهج، وعلى وضوح هذا السبيل، وحتى حينما عملوا على تصفيته [عليه السلام] جسدياً، بذلك الأسلوب العاجز والجبان، وعمره الشريف لا يزيد عن الخمس وعشرين سنة إلا قليلاً.. فإننا نجد: أن خليفته ووصيته، والقائم مقامه، هو الآخر يتولى هذا الأمر في أصغر من سن أبيه حين تولاه فيقف ليتحداهم بنفس الحالة التي بهرهم وقهرهم بها أبوه من قبل.. ويكون فيه هو [عليه السلام] أيضاً أعظم الدلالات، وأوضح السبل والمناهج، لنفس ذلك الشيء الذي أرادوا وعملوا بكل ما في وسعهم لتعمية الدلالات عليه، وتشويش، وطمس السبل والمناهج إليه..

ولقد كانت هذه القضية ـ وهي إمامة التقي الجواد [عليه الصلاة والسلام] على صغر سنه ـ من أعظم القضايا، التي مهدت لتلك المفاجأة الكبرى، التي تعرض لها الشيعة الإمامية في قضية الإمام المهدي [عليه الصلاة والسلام]، الذي أصبح إماماً، وعمره لا يزيد على الخمس سنوات، ثم غاب عنهم غيبته الصغرى، ثم الكبرى، عجل الله تعالى فرجه، وسهل مخرجه، وجعلنا من أعوانه وأنصاره، والمجاهدين، والمستشهدين بين يديه، إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول..

ونعتقد: أن الرسول الأعظم [صلى الله عليه وآله]، هو الذي بدأ التمهيد لهذه الحالة، وذلك حينما بلغ الحسنين عليهما الصلاة والسلام في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 104/

بيعة الرضوان ـ ولم يبايع صبياً غيرهما ـ حسبما ألمح المأمون من كلامه المنقول عنه فيما تقدم.. وكذلك حينما أشهد الحسن [عليه السلام] على كتاب لثقيف، ثم إخراجه مع أخيه [عليهما السلام] للمباهلة مع نصارى نجران، وغير ذلك ثم تلا قضية استشهاد الزهراء البتول بهما [صلوات الله وسلامه عليها وعليهما].. حسبما أوضحنا ذلك كله في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن [عليه السلام].. فليراجعه من أراد..

وليكن هذا هو آخر كلامنا في ما يرتبط بالحياة السياسية للإمام التقي الجواد [عليه الصلاة والسلام].. ونعتذر لعدم تمكننا من استيفاء الكلام في هذا المجال.. فإن ذلك يحتاج إلى توفر تام، ووقت طويل.. وما لا يدرك كله، لا يترك جله..

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 105/

كلمة ختامية:

كانت تلك دراسة موجزة، وسريعة جداً حول الحياة السياسية للإمام الجواد عليه التحية والصلاة والسلام..

ويمكن أن يكون قد اتضح منها، ولو بشكل محدود، أهمية الدور الذي قام به هذا الإمام العظيم في تثبيت قواعد الدين، وفي التمهيد لذلك الحدث الكبير والعظيم، الذي تجسد بإمامة الإمام المهدي أرواحنا فداه، وهي صبي صغير السن، ثم غيبته الصغرى والكبرى عجل الله تعالى فرجه الشريف..

وإذا كان ثمة احداث كبرى لا تنسى في حياة الأمة والأئمة [عليهم الصلاة والسلام]، فإن هذا الحدث لابد وأن يكون منها وفي طليعتها أيضاً، فإنه لا يقل في أهميته عن صلح الإمام الحسن [عليه السلام] مثلاً، ولا عن البيعة بولاية العهد لأبيه الرضا [عليه السلام] ولا عن غيرهما من الأحداث الهامة والخطيرة.. وذلك لأنه يرتبط مباشرة بالهيكلية العقائدية للأئمة ولهذا الطائفة، التي تدين باستمرار خط الإمامة فيهم [عليهم الصلاة والسلام].. ويمسها في الصميم.

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لدراسة حياة الأئمة [عليهم الصلاة والسلام] من كافة جوانبها، للاستفادة منها في حياتنا الفكرية والعلمية..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

/صفحة 106/

فإنهم [عليهم السلام] هم القدوة، وهم الأسوة، وهم أئمة الهدى، وأعلام التقى، وسفن النجاة..

وإنني إذ أعتذر للقارئ الكريم عن عدم تمكني في هذه العجالة من القيام بدراسة مستوعبة وشاملة لحياة هذا الإمام العظيم.. فإنني أطلب منه أن يتحفني بآرائه، وبملاحظاته حول هذا البحث.. وله مني جزيل الشكر، ووافر التقدير..

والله هو الموفق والمسدد

وهو المعين

وهو الهادي

يوم الجمعة: 8 جمادى الأولى/1406

10/12/1363

الموافق: 1985م

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : 2014/02/06  ||  القرّاء : 18230










البحث في الموقع


  

جديد الموقع



 مسابقه کتابخوانی نبراس‌۱

 لحظات الهجوم الاول على دار الزهراء عليها السلام

 كربلاء فوق الشبهات

ملفات منوعة



 ماذا عن التكتف في الصلاة؟

 الهلال الفلكي.. والهلال الشرعي..

 تفسير قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا}

إحصاءات

  • الأقسام الرئيسية 12

  • الأقسام الفرعية 64

  • عدد المواضيع 696

  • التصفحات 6883122

  • المتواجدون الآن 1

  • التاريخ 19/03/2024 - 03:00





تصميم، برمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net